يثير التشاؤم عددًا من التساؤلات، وتختلف المواقف منه، حيث يحطّ عدد من الناس من شأنه، على خلفية اعتباره مجرد عرض من أعراض المواقف السيئة، وأن البشر لا يحتاجون إلى التشاؤم مثل حاجتهم إلى التفاؤل، كي يلهمهم للتقدم في حياتهم، والارتقاء بها. إضافة إلى حاجتهم للنقد البناء والنصائح والمحفزات، لكن ذلك لا يخفي حقيقة أن الإنسان يضطر في أحيان كثيرة إلى مواجهة التشاؤم، وإيجاد سبل للتخلص من شكوى الذات، وشكواه من الآخرين والعالم المحيط.
فلسفيًا، يتجلى التشاؤم بالنظرة التي ترى العالم بأنه مكان لا يبعث على التفاؤل، وتقف على التضاد معه. ويقترب التشاؤم من الحجة الفلسفية التي ترى أن “الإنسان لن يوفق أبدًا”، أو أن “البشر مدانون”، لذا فإن كل مجهود محكوم عليه سلفًا بالفشل، وكل مشروع يتسم بعدم الاكتمال، بل إن كل حياة محكومة مسبقًا بألا تعاش، وبالتالي فإن كل فكر يجب ألا يتفكر فيه. وطوال التاريخ، كانت لمواقف ونظرات التشاؤم تأثيرات على جميع مجالات التفكير الفلسفي الرئيسية. وتناول عدد من الفلاسفة التشاؤم، حيث حضر التشاؤم الفلسفي ليس باعتباره حالة عقلية، أو ذهنية، أو سلوكًا نفسيًا، بل نظرة عالمية تتجلى في أخلاقيات تسعى إلى مواجهة الحقائق المأساويّة في العالم، وبالتالي يتجسد التشاؤم بوصفه علّة أنطولوجية، وليس مجرّد مزاج سيء، أو غواية تشد نحوها أصحاب المواقف المتذمرة، الذين يشتكون من كل شيء، إنما بوصفه مُعطى وجوديًا، حيث يلزم الناس في القيام بوظائف ومهام لم يختاروها، وتدفعهم إلى العيش في عوالم سيئة، ويغدو بذلك التشاؤم حدثًا عالميًا، وليس ذاتيًا فقط. وقد تناول الفيلسوف الأميركي يوجين ثاكر موضوع التشاؤم في أكثر من كتاب، وأحدثها كتاب “قديسو التشاؤم” (ترجمة أنور الشامي، القاهرة، دار الكرامة، 2024)، الذي يتناول فيه التشاؤم لدى مجموعة من الفلاسفة، باستعراض فلسفاتهم وآرائهم، حيث يقوم بوضع أفكارهم وأطروحاتهم موضع التحليل، أو التعليق، كي يستوعبها. إضافة إلى التركيز على سيرهم الذاتية، وما فعلته الحياة بهم في اللحظات التي لجؤوا فيها إلى التشاؤم، عادًا أن للتشاؤم قديسين يرقبون معاناة البشر، ولأنهم متجهمون ومقلّون في الكلام، لا يبلون بلاء حسنًا في التشفع لهؤلاء البشر، ولعلهم في حاجة للبشر أكثر من حاجة البشر إليهم. والأمر لا يقتصر على شوبنهاور، أو سيوران، بل يطاول شامفور، وسيوران، وكيركجور، وليوباردي، وليشتنبرج، وماينلاندر، ودو مونتنيه، ونيتشه، وبسكال، ودي أونامونو، وآخرين سواهم.

“يقترب التشاؤم من الحجة الفلسفية التي ترى أن “الإنسان لن يوفق أبدًا”، أو أن “البشر مدانون”، لذا فإن كل مجهود محكوم عليه سلفًا بالفشل، وكل مشروع يتسم بعدم الاكتمال”

 

الواقع هو أن معظم فلاسفة التشاؤم لم يتحدثوا عنه مباشرة، بل كتبوا في معظم الأحيان عن نقيضه التفاؤل، لكنهم تناولوه من موقع هدمه كمفهوم، كي يرفعوا من شأن التشاؤم، فالفيلسوف نيقولا شامفور رأى أن الطب يمكنه أن يصف عقاقير كثيرة، لكن العلاجات المفيدة قليلة، وفي غالب الأحيان ليس لديه أي أدوية ناجعة. وقد كتب مقولات تشاؤمية في كتاب تمّ العثور عليه بعد وفاته، ثم قام باقتباسها فلاسفة وكتاب آخرون، مثل كامو، وسيلين، وشوبنهاور، وسيوران، ونيتشه. ويعد ثاكر أن منطق التشاؤم يتحرك بين ثلاثة أشكال من الرفض، أولها في رفض الأسوأ، أي رفض العالم من أجل البشر، وثانيها يتجسد في القول نعم للأسوأ، أي رفض العالم في ذاته، أو في سخرية نيتشه منه، وثالثها يتجسد في قول لا من أجل البشر ورفضه.
يجري النظر في مسالك وطرائق اتبعها فلاسفة كل بحسب نهجه ومنطقه في التفكّر، وأسلوبه في الحياة، ويتناولها المؤلف وفق نظرته الخاصة للتشاؤم، كي يقدم أطروحاته الفلسفية الحديثة، التي ترى أن التشاؤم فشل في النهوض بأغلب ركائز الفلسفة الأساسية، وأنه لو كان يملك مقومات ذاتية أكبر، أو ملكات اجتماعية أفضل، لتحول إلى معتقد، أو دين جديد، ينهض على الرفض. لكن الفلسفة في بعض اتجاهاتها قامت بنفي هذا الرفض، ومع ذلك من المفيد التعرف على التشاؤم، والإصغاء إليه من دون الركون إلى مخدعه، لأن الحياة قاسية بالفعل، وتحتاج إلى تغيير الموقف حيالها، وفق رؤى جيدة، تنهض على جرعة من التفاؤل.
غير أن عدم الإصغاء للتشاؤم لدى بعض الناس، يعود إلى اختزاله في أنه لا يمتلك قابلية التحول، لذلك بقي عرضة للاستخفاف المطرد، لأنه يفضي إلى الإحباط، فالسبب في ذلك أنه يحبط الجميع، فيما أنه في واقع الأمر، يرى بعض المفكرين التشاؤم بمثابة نتيجة لالتباس العالم بإقرار يخصه، ويمنعه من الدخول الكلي إلى منظومات الفلسفة، وهو مرفوض في معظم الحالات، لكن بالرغم من وضعه على هوامش الفلسفة، إلا أنه ما يزال يخضع للتحليل والمعالجة الفلسفية، حيث جرى النظر في الغنائية التي تتعلق بالفشل التشاؤمي، وربطه مع بنية الموسيقى، على خلفية اعتبار الزمن بالنسبة إلى الموسيقى الحزينة يشابه ما يمثله العقل بالنسبة إلى فلسفة الأسوأ.
يمكن التمييز ما بين التشاؤم الميتافيزيقي، والتشاؤم الأخلاقي، بناء على المعطيين الموضوعي والذاتي، بوصفهما موقفين حيال العالم، فالتشاؤم الأخلاقي يرى بأن الإنسان كان الأفضل لو لم يخلق بالأساس، في حين أن التشاؤم الميتافيزيقي يرى أن ولادة الإنسان في العالم تمثل أسوأ العوالم الممكنة. وعليه، فإن التشاؤم يخلق موسيقاه الخاصة بالأسوأ في تمحوره حول العبث. وقد عرف الفيلسوف آرثور شوبنهاور بتشاؤمه، الذي جمع بين شخصية الفيلسوف والمتجهم، وكان ذلك المتشائم المفرط في تشاؤمه، حيث نفى في قوله الفلسفي الأسوأ عبر قول لا يشتهي قول كلمة نعم، من خلال سلوكه طريق الزهد والتصوف والسكينة. وتقوم فلسفته على مقولة أن “الإنسان لا يعيش بقدر ما يُعاش، لأن ثمة إرادة غاشمة في الكون تدفع الوجود للوجود، ومن ثم إلى إعدامه”، والبشر خاضعون لها، لذلك فإن تلك الإرادة تعيش فيهم ولا تسمح لهم بعيش أنفسهم بشكل حقيقي، بل يحاولون تمثّلها، وهو تمثّل كاذب لا قيمة له. والإنسان خاضع لقانون الرغبة والملل، فما إن تتحقّق رغبته، حتى يصيبه الملل، وهكذا تستمر الأمور. أما نيتشه فالتشاؤم عنده كان ديونيسيًا، أي تشاؤم اقتدار، أو مرح، حيث إن قول نعم للأسوأ هو قول نعم للعالم كما هو، ورأى أنّ التعارض ينبثق بين العالم الذي نبجّله والعالم الذي نعيش فيه، وهو ما نحن عليه. ونسبت إليه فكرة موت الإله، من خلال تصادف وجوده في مسرح الجريمة والعثور على الجثة، فيما يتضح في الواقع أنه لم تكن هنالك جريمة قتل، بل انتحار. واستند نيتشه إلى فلسفة شوبنهاور، وكان معجبًا بأفكار الروائي الروسي دوستويفسكي، الذي منحه معرفة كبيرة بالنفس البشرية. ويروى أنه في أحد الأيام بعد عودته من جولاته في المشي، رأى أحد الأشخاص يجلد حصانًا يجر عربة، فاقترب من الحصان وهو يبكي وعانقه وهمس بأذنه. وقد صمت نيتشه في سنين حياته الأخيرة حتى مماته. ويوجد عند إميل سيوران تنويع في التشاؤم يقترن فيه قول لا للأسوأ مع قول لا لإمكان وجود أي عالم آخر هنا أو هناك. سيوران كان أحد قديسي التشاؤم الكبار، لكن مرض ألزهايمر أصابه في أواخر سنيّ عمره وأنساه تشاؤمه. رفض سيوران عددًا من الجوائز الأدبية، ورفض مبالغها المالية الكبيرة، فيما كان يقترض بعض المال من صموئيل بيكيت، الذي كان يؤنبه لرفضه تلك الجوائز. أما حياة الفيلسوف سورين كيركغارد فقد كانت هادئة جدًا، لكنه كان يرى بأن الوجود كله يفزعه، وأن كل شيء مسدود أمامه، بما فيها نفسه هو، ورأى أن الوجود كله فاسد، ولا سيما نفسه، أي أنه كان مفرطًا في السوداوية. وقد قال ذات يوم “لولا سوداويتي، ما كنت لأصبح فيلسوفًا، ناهيك عن أن أكون مسيحيًا”، وتلك السوداوية هي التي صنعته فيلسوفًا عجيبًا، واستخدم التشاؤم كي يبيّن الكيفية التي تبدو عليها الحياة عدمية من دون وجود إله.

عنوان الكتاب: قديسو التشاؤم المؤلف: يوجين ثاكر المترجم: أنور الشامي