ما الضرر الذي كان سيحيق بالأغلبية “العربية” ضمن مكوّنات الطيف السوري، لو تم اعتماد “الجمهورية السورية”، كاسم رسمي للدولة، إرضاءً للمكوّن “الكردي”، و”التركماني”، مثلاً؟ وما الخطر الذي كان سيتهدد الأغلبية “المسلمة” بين السوريين، لو لم يتم تحديد دين رئيس الجمهورية، هل ستنتخب الأغلبية رئيساً “مسيحياً”، مثلاً؟ وأي “فقه إسلامي” ذاك الذي سيكون مصدراً رئيسياً للتشريع في سوريا، في ضوء تنوّع المدارس الفقهية والاختلافات الهائلة بينها؟ وكيف يمكن التأكد من أن سوريا لن تذهب باتجاه حكم استبدادي جديد، في ظل صلاحيات مطلقة ممنوحة لرئيسٍ غير منتخب؟
تلخّص التساؤلات آنفة الذكر، أبرز الانتقادات الموجّهة لمضمون الإعلان الدستوري الصادر عن رئاسة الجمهورية، مؤخراً. ورغم طبيعته، بوصفه مؤقتاً، مرتبطاً بمرحلة انتقالية، إلا أن مدة هذه المرحلة، المحددة وفق الإعلان ذاته، بخمس سنوات، تجعل المخاوف من ترسيخ سلطة قائمة، بحكم الأمر الواقع، باتجاه حكم استبدادي مديد، مخاوف مبررة.
ومن المثير للاستغراب، أن ديباجة الإعلان الدستوري المستفزة للمكوّن الكردي، صدرت بعد أيام فقط من توقيع اتفاق بين رئيس الجمهورية، أحمد الشرع، وقائد قوات سورية الديمقراطية، مظلوم عبدي. اتفاق أثار تفاؤل السوريين بوحدة التراب السوري. وصدرت تلك الديباجة، بعد أيام فقط على أحداث الساحل السوري الدامية، التي تم الإقرار فيها بوقوع انتهاكات بحق مدنيين من الطائفة العلوية. وجاء ذلك بالتزامن مع توترات مع قيادات ضمن المكوّن الدرزي. وهنا يصبح التساؤل ملحاً أكثر: أما كان بالإمكان البحث عن صيغ توافقية وحيادية أكثر بين عموم السوريين، باختلاف ألوان طيفهم العِرقي والديني والطائفي؟!
إحدى أبرز الأجوبة التي سنطالعها بهذا الخصوص، تتعلّق بمرجعية الإعلان الدستوري، “المُستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950 (دستور الاستقلال)”، وفق ما جاء في مقدمة الإعلان. ونقرّ هنا، بأن نص الإعلان الدستوري جاء متقدماً على دستور عام 1950، من زاوية أن هذا الأخير ركّز بشكل أكثر راديكالية، في مقدمته، على البعد القومي (العربي)، والديني (الإسلامي)، للدولة السورية. ولا يبدو هذا المبرِر سليماً في واقعنا الراهن. ففي سوريا اليوم، يرتفع التشنج بين المكوّنات المتنوعة إلى أقصاه، ويُنذر بخطر التقسيم الواقعي والانعزال بين ألوان الطيف، وصولاً إلى خطر الاقتتال الداخلي. والاضطرابات التي عاشها الساحل السوري قبل أسبوع، كفيلة بتقديم صورة أولية عما قد ينتظر الاستقرار في الدولة السورية الوليدة، من تحديات. في واقعٍ كهذا، أما كان من الأَوْلَى البحث عن صِيغ توافقية، قادرة على جذب “الأقليات”، لتشعر بأنها ممثَّلَة في رسم معالم المرحلة الانتقالية، التي ستؤسس بدورها لمستقبل البلاد، ربما لعقود قادمة!
تظهر إحدى الأجوبة على تساؤلاتنا آنفة الذكر، في طبيعة الشخصيات التي حضرت توقيع الرئيس أحمد الشرع، للإعلان الدستوري. فإلى جانب أعضاء لجنة صياغة الإعلان، كان لافتاً حضور شخصيات ذات صفة دينية (إسلامية)، كان أبرزها، الشيخ أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري المعارض سابقاً، إلى جانب عبد الرحيم عطون، ومظهر الويس، أبرز شرعيي “هيئة تحرير الشام” سابقاً، المقرّبين من الشرع. في حين غاب عن التوقيع أي شخصية ذات ثقل، من ممثلي المكوّنات السورية الأخرى، خارج الأغلبية “العربية المسلمة السُنيّة”.
عملية الإخراج هذه، لحقل توقيع الإعلان الدستوري، تحمل رسائل إقصاء من الصعب تجاهلها. ويبدو أنها تستهدف اللعب على شدّ عصب “الأكثرية” خلف قيادة السلطة القائمة في دمشق، في ظل التوترات مع باقي الفرقاء السوريين. وهو رهانٌ خَطِر من جانب السلطة، التي التقطت فيما يبدو، مؤشرات التشنّج الجليّة لدى شريحة واسعة من “الأكثرية”، الخائفة من “ثورة مضادة” تستند إلى حواضن اجتماعية من “الأقليات”. وجاءت أحداث الساحل، التي بدأت بتمرّد مسلح نظّمه فلول النظام البائد، لتصب المزيد من النار على حالة التشنّج تلك. والتي يقابلها تشنّجٌ مقابل، من باقي المكوّنات، تزكيّه بدورها، قيادات وزعامات دينية، لا تخشى أن ترهن حواضنها “الأقلوية” لحسابات ضيّقة الأفق، متقاطعة مع مصالح أطراف خارجية، حتى لو أدى ذلك إلى فقدان حالة السلم الأهلي، الذي ستكون تلك الحواضن “الأقلوية”، أبرز ضحاياه.
في ظل انخفاض الحسّ بالمسؤولية ذاك، كان الرهان أكبر على إدارة الرئيس أحمد الشرع، أن تسحب البساط من تحت أقدام المتطرفين من قيادات باقي مكوّنات الطيف السوري، عبر إرسال رسائل طمأنة، لحواضن تلك المكوّنات، بأنها شريكة في رسم معالم مستقبل سوريا. وبدلاً من التمترس خلف صياغات تعبّر عن انتماء “الأكثرية”، الديني والقومي، كان من الأَسلَم، اختيار صياغات حيادية، توافقية، تخلق مساحة مشتركة أكبر، لجميع السوريين.
ما سبق يدفعنا للتساؤل: ما الذي منع السلطة القائمة في دمشق من احتضان كل ألوان الطيف السوري، عبر الوثيقة الناظمة لعمل مؤسسات الحكم خلال المرحلة الانتقالية؟ من الصعب التقصّي عن حسن نوايا في سياق الإجابة على هذا السؤال. فسلطات الرئيس المطلقة في الإعلان الدستوري قد تكون مربط الفرس، المستند إلى شد عصب “الأكثرية”، خلفه. وفي هذه الحيثية، يبدو حديث أعضاء لجنة إعداد الإعلان الدستوري، عن اعتمادهم مبدأ “الفصل الجامد والمطلق” للسلطات، مثيراً للسخرية. فأين الفصل بين السلطات، إن كان الرئيس يختار ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويختار لجنة للإشراف على تشكيل هيئات فرعية تنتخب الثلثين الآخرين؟ أي أن الرئيس يعيّن الثلث بصورة مباشرة، والثلثين الآخرين، بصورة غير مباشرة. من دون أن ننسى أن لا دور مطلقاً للسلطة التشريعية بمساءلة السلطة التنفيذية، وفق ديباجة الإعلان الدستوري، التي أشارت –في سابقة متناقضة مع روح الدساتير السورية المنصرمة- إلى أن أعضاء مجلس الشعب سيؤدون القسم أمام رئيس الجمهورية. وتُعيَّن أبرز مؤسسات السلطة القضائية، المحكمة الدستورية العليا، من رئيس الجمهورية. مع التذكير بأن الرئيس هنا، غير منتخب.
أبرز الردود على الانتقادات آنفة التفصيل، هي أن الالتفاف حول سلطة أمر واقع قادرة على ضبط المشهد الميداني في البلاد، أمر ضروري لحفظ سلامة الكيان السوري. والبديل قد يكون الانجرار نحو اقتتال فصائلي، وربما، أهلي، وانهيار مؤسساتي أكبر مما هو قائم الآن. والحيثية الأخيرة، محقّة بالطبع. ونقرّ بأولويتها. لكنه ذات المبرر الذي كان يستند إليه النظام البائد، جزئياً، في تبرير استمرار سلطته الاستبدادية، عبر فزاعة التخويف بانفراط العقد المزعوم بين السوريين.
ورغم الإقرار بضيق هامش البدائل مقارنة بالسلطة القائمة في دمشق، في الوقت الراهن، إلا أنه يبقى أن الرهان كان أكبر، على أفق أوسع في أداء هذه السلطة. رهان منسجم مع وعودها، بأفقٍ يتيح أن تكون بحق تلك السلطة المؤسسة لـ “دولة حديثة قائمة على العدل والكرامة والمواطنة الحقة”، كما نصت ديباجة مقدمة الإعلان الدستوري الصادر عنها. سلطة تحترم ما قدّمه “أبناء سوريا الأحرار” من دماء وتضحيات، ليكنسوا “إرث الاستبداد”، وفق الديباجة نفسها. إرثٌ يخشى كثيرون أنه يورَّثُ الآن. وهي خشية باتت مبررة بشدة، ليصبح الرهان على انتزاع التنازلات على صعيد الحرية والممارسة السياسية من السلطة القائمة، بالتنظيم والنشاط السياسي السلمي، في الشارع السوري. وهو الرهان الوحيد المتاح اليوم، لحفظ الكيان السوري والسلم الأهلي بين مكوّناته، بالتوازي مع لجم الاتجاه نحو ديكتاتورية جديدة.