منذ أربعةَ عشر عاماً وفي بيتٍ صغيرٍ جنوبَ دمشق كنت أترقّب بفضولٍ مشوبٍ بالخوف مقاطع قصيرةً تبثّها القنوات التلفزيونية من مدنٍ سوريةٍ تشتعل بالمظاهرات في جمعة الكرامة. ما دار في خلدي -ولا غيري- أنها لحظةٌ لا عودة بعدها على الصعيدين الشخصي والعام. فمنذ بدأت الثورة انصهرت الحواجز بين الشأن الخاص والمجال العام، إذ أصبح إسقاط الأسد وحكايا شهدائنا وثورتنا حديثنا في السهرات العائلية ومع الأصدقاء في المهجر، ومجال كتابتنا وعملنا في النهار وأحلامنا في الليل سنواتٍ طويلة. حتى حفلات زفاف المهجّرين رفرفت فيها أعلام الثورة وهتف الشباب “مافي للأبد، عاشت سوريا ويسقط الأسد”. في زفافي ألّفتُ مع زوجي أهزوجة عرسنا على كراسي خط الميترو من باشاك شهير إلى منطقة الفاتح في اسطنبول. كانت أغنيةً مثقلةً بأحلام مراهِقَين زاهِدَين بالحياة جامحين يداريان الخوفَ من الهزيمة بالجنوح في الحلم: “أنا ما بدي خاتم ولا ببالي خاتم، بدي ناخد ثارنا ونرجّع هالمظالم”. غنّاها بعدنا كثيرٌ من الأصدقاء في زفافهم.
في دمشق اليوم أكادُ -ككلّ السوريين- لا أصدّق أنني أحتفل بذكرى الثورة في قلب سوريا المحرّرة من نظام الأسد، وأن كل نبوءاتنا وأحلامنا وجموحتنا صارت حقيقةً نراها عياناً. فقد زلزلنا عرش الشبيحة وأسقطنا الأسد والأبد، ورفعنا أصابع النصر فوق القصر ورفعنا علم الثورة فوق قلعة حلب وفي ساحة بانياس، وعادت لنا الشام من المزَّة للعمارة، كما أَمِلْتُ يوماً في أهزوجة عرسي. لا أستطيع أن أخفي خوفي من كل هذه المآلات المحققة والنهايات الأسطورية، لكنّها تفي حقّاً بكلّ الدماء والتضحيات الاستثنائية التي قدّمها السوريون سنواتٍ طوال.
ولأنه لا برزخ عندي بين العامّ والخاصّ فقد شددتُ مئزري وأحييتُ ليلي منذ اللحظة الأولى لمعركة ردع العدوان حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، لا أميز الليل من النهار ولا أعرف على أيّ أرضٍ أنا. منذ تلك اللحظة الجليلة فتحت لي الفِراتْس الباب على مصراعيه فدخلتُ حاملةً ملفَّ سوريا الذي عملتُ عليه مع فريق التحرير أياماً طويلةً بمهامّ تفوق مهامّ عملنا المعتادة بحثاً ونقاشاً وتحريراً. حرصنا في الملفّ على تنوّع زوايا النظر والغوص عميقاً وبعيداً عن المتغيرات السياسية السريعة بعد سقوط الأسد، لشرح ما كان قبل سقوط الأسد وكيف آلت الأمور إلى إسقاطه، وماذا بعد الأسد.