يشهد الصراع في الشرق الأوسط لحظات يُمكن وصفها بالتاريخيّة لأنها تتضمن تحوّلات في المشهد بعد هيمنة إيرانية وصلت إلى ذروتها في الأعوام العشرين المنصرمة، لكن مع إنتخاب الجمهوري دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، إتجهت الأمور إلى منحى تصاعدي حاسم هدفه تقليص نفوذ ايران في المنطقة بدءاً من أذرعها العسكرية ولا سيما “حزب الله” و”الحوثيين”.

في الواقع يلمس المراقبون أن ثمة شيئاً تغيّر في الاستراتيجية الأميركية، بحيث يتم تضييق الخناق على إيران التي تزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط بواسطة أذرعها العسكرية. وكانت اسرائيل حليفة واشنطن، قامت في الصيف الفائت بحرب ضروس على “الحزب” في لبنان، وتمكّنت من توجيه ضربات نوعية اليه ما أضعف قدراته وأرغمه على توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار يتضمن شروطاً غير متساهلة مع “الحزب” وأهمها تسليم سلاحه إلى الدولة اللبنانية.

من جهة أخرى، نشط الحوثيون اليمنيون، بدعم إيراني، في شلّ حركة التجارة العالمية في الممرات البحرية الأساسية في البحر الأحمر، زاعمين أن أهدافهم دعم الفلسطينيين في غزة. وقد أثارت اعتداءات الحوثيين المعسكر الغربي الذي تعامل معهم تحت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بالقوة الناعمة أو اكتفاء حاملات الطائرات الأميركية بمهمة الدفاع عن أمن الممرات البحرية، أي الاكتفاء بالبُعد الوقائي لضمان استمرار السفن عبر البحر الأحمر، أما مع ترامب فاختلف الأمر، ويرى الخبير في الشؤون الأمنية والسياسية العميد المتقاعد خالدة حمادة أن الضربات الأميركية التي شهدناها منذ يومين على مواقع الحوثيين تتسم بالخشونة، ويُمكن اعتبارها اطاراً جديداً لتعامل الادارة الأميركية مع هذه المجموعة، ويميل ترامب إلى استخدام القوة المميتة، معلناً أن نشاط الحوثيين يجب أن ينتهي، وترافق ذلك مع رسالة تهديد وجّهها إلى طهران الداعمة للحوثيين، ويبدو أن الرئيس الأميركي يتجه إلى اقصائهم كذراع عسكرية ايرانية. ويلفت حمادة إلى أن الضربات الأميركية لا تبدو وقائية بل جزء من حملة عسكرية أميركية قابلة للتوسّع، ولا سيما مع تزويد اسرائيل بمزيد من الأسلحة، ما يعني أنه ليس مستبعداً أن تشارك في هذه الضربات، ولا بد من الاعتراف بأن القطاع الغربي من اليمن، من صعدة إلى صنعاء أصبح تحت النار الأميركية بكل تجهيزات الحوثيين ومخازن السلاح ومقرات القادة والمرافئ.

العملية الأميركية ضد الحوثيين غير مسبوقة، ويؤكد حمادة أنها لن تتوقف قبل وضع حدّ لهم، ولا مساومة هذه المرة، بل حتى استدراج ايران إلى التفاوض على الملف النووي ودورها في المنطقة، وخصوصاً أن واشنطن تمارس الضغط الأقصى عليها مرفقاً بعقوبات اقتصادية، بدأت بمنع العراق من تجديد الاتفاقية مع طهران لاستيراد الكهرباء، ولا تنتهي مع جملة عقوبات تطال الأسطول الظل الذي يقوم بتهريب النفط الايراني وبيعه إلى الصين ودول عدة.

واللافت أن ايران حاولت الاحتماء بروسيا والصين عبر عقد قمة ثلاثية في بكين، لكن الرياح سارت عكس ما تشتهيه سفن إيران، ولا شك في أن روسيا لا تؤيّد ضرب المنشآت النووية في طهران ولا فرض عقوبات عليها، إلا أنها وضعت التسوية النووية كجزء من مجموعة مسارات ترتبط بالمصالح الروسية والأميركية ومن ضمنها حرب أوكرانيا، ولن تستطيع أن تقدّم خدمات كبيرة لايران وما يهمّها هو المكتسبات التي ستحققها من حربها مع أوكرانيا. ويعتبر حمادة أن واشنطن إذا اعترفت بحق روسيا في شبه جزيرة القرم، أو في اجراء استفتاء حول شرق أوكرانيا، فسيكون ذلك في رأس أولويات روسيا وليست المصالح الإيرانية.

في الاطار نفسه، لا يختلف وضع “حزب الله” عن وضع الحوثيين، وقد عادت اسرائيل إلى تصعيد ضرباتها على مواقعه في الجنوب والبقاع، وهذا ما يثبت أن “الحزب” لا يُطبّق اتفاق وقف إطلاق النار، بل يستمر في حراكه وإعادة تأهيل بنيته العسكرية، والموقف الأميركي الرسمي، وفق ما يقول حمادة، أصبح واضحاً إذ صرّح ترامب في مناسبات عدة بأنه سيُمهل الحكومة اللبنانية أسابيع معدودة لإنهاء موضوع السلاح، وهذا لا يُفسّر إلا بأنه نوع من التهديد ولبنان مُلزم بتطبيق القرارات الدولية، ولا أحد يعرف متى ستحكم إيران على الحكومة اللبنانية بالفشل عبر رفع مستوى التهديد، ما سيسمح لاسرائيل بإستكمال الحرب بمباركة أميركية.

وليس بعيداً عن لبنان، تنتظر اسرائيل أي خطأ من ايران لضرب منشآتها النووية، لكن في رأي العميد حمادة، لن تحرج إيران نفسها بدفع الولايات المتحدة الأميركية إلى اللجوء لشن حملة عسكرية عليها، بل ستحاول اللعب على حافة الهاوية، وهي تُدرك أن اقتصادها ليس جديراً بتحمّل أعباء الحرب ولا تتمتع بجهوزية عسكرية في المستوى المطلوب، ونظامها غير متماسك في الداخل الايراني، بإختصار هي كيان هشّ غير قادر على تحمّل التحديات.

في المحصّلة، يبدو أن المنطقة مقبلة على تغييرات كبيرة، وبالتالي لن يكون لإيران دور كبير فيها كما في السابق، وخصوصاً أن في أولويات واشنطن عنواناً اقتصادياً مرتبطاً بالغاز وعنواناً أمنياً مرتبطاً بتدمير كل الميليشيات التابعة لايران في المنطقة، ومن لن يخضع لواشنطن بالتفاوض، سيخضع عبر الضربات العسكرية العنيفة… هذه هي المعادلة في أجندة ترامب!