كأنما خطوط الحدود بين لبنان وسوريا تُكتَب بدماءٍ جديدة كل ليلة. في منطقة الهرمل البقاعية، حيث تتشابك الهويات وتتناثر القرى على تماسٍ مع الجار السوري، عادت النيران لتشتعل مجدداً.
اندلعت المواجهات مساء الأحد حين قصفت المدفعية السورية بلدة حوش السيد علي الحدودية، رداً على مقتل 3 جنود سوريين قرب قرية القصر اللبنانية. تصاعدت الاشتباكات بسرعة، واستُخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، من مدفعيات إلى راجمات صواريخ، وسط تحليق مُسيّرات “شاهين” السورية على علو منخفض، ينما سقطت قذائف على قرى لبنانية مثل سهلات الماء ودار الواسعة، رافقتها أصوات انفجاراتٌ هزت مناطق بعيدة كعكار.
لم يتردد الجيش اللبناني في الرد، فنشر قواته على طول الخط الحدودي، وضرب “مصادر النيران السورية” بردٍّ مُتناسب، كما أجرى اتصالاتٍ مكثفة مع الجانب السوري، انتهت بتسليم جثث الجنود الثلاثة عبر بوابة القصر. لكن التوتر لم يتوقف عند هذا الحد، فوزارة الدفاع السورية اتهمت “حزب الله” بخطف جنودها وقتلهم، بينما نفى الحزب أي علاقة له بالأحداث، مُؤكِّداً في بيانٍ أن “يده ليست في الدم السوري”.
وقال مصدر مقرب من “حزب الله” لموقع “لبنان الكبير”: “الاتهامات السورية مُفبرَكة ومُوجَّهة لإسقاط الفشل الأمني على طرفٍ آخر. حزب الله ليست له أي علاقة بالاشتباكات الدائرة بين العشائر البقاعية والقوات السورية، ولا يمتلك تفويضاً بالتدخل في شؤون الجوار. ما يحصل هو نزاعٌ محليٌّ بحت، ناشئ عن توترات متراكمة بين أهالي المنطقة والقوات السورية، خصوصاً بعد المجازر في الساحل السوري”.
وأضاف المصدر: “صحيح أن بعض أبناء العشائر منتمٍ الى الحزب، لكن مشاركته في الاشتباكات فردية، وتندرج تحت الغطاء العائلي لا السياسي. هؤلاء يُدافعون عن أراضيهم وأهلهم بسلاحهم الشخصي، وليس بسلاح الحزب. فالعشائر هنا تمتلك ترسانةً من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، بل وحتى الثقيلة، بعضها موروث من أيام الحرب الأهلية، وبعضها الآخر دخل عبر شبكات التهريب”.
وعن دوافع التصعيد، أوضح المصدر أن “أهالي البقاع يعيشون هواجس أمنية مع تمدد جماعات مثل هيئة تحرير الشام نحو الحدود. مجازر الساحل السوري زادت مخاوفهم، وصاغت لديهم قناعةً بأن القوات السورية الحالية غير منضبطة، وتمتلك أيديولوجية تكفيرية، والحادث الذي حصل كان شرارةً أطلقت الغضب المكبوت، تجاه القوات السورية”.
وشدد على أن “الحزب يدرك تعقيدات الملف، ويؤيد حلَّه عبر الحوار بين الدولتين، لكننا لن نسمح بتوريطنا في صراعاتٍ لا ناقة لنا فيها ولا جمل. دمشق تدرك جيداً أن سلاح العشائر ليس سلاحنا، وأن نار الفوضى على الحدود تحرق الجميع”.
أما عن إمكان تدخل الحزب، فأكد المصدر أن “الحزب ليس بوارد التدخل أبداً طالما أن الجيش اللبناني موجود ويقوم بواجبه في الدفاع عن أرضه وشعبه، والحزب يتدخل في حالتين فقط، أن يطلب الجيش المساندة، وهناك تجربة بذلك في معارك الجرود سابقاً، أو أن ينسحب الجيش من المنطقة ويترك أهلها لمصيرهم وهذا بالتأكيد لا يمكن أن يحصل”.
عشائر البقاع: نحن ندافع عن ارضنا
ورفضت عشائر المنطقة تحميل “حزب الله” مسؤولية الأحداث، مؤكدةً أن أبناءها “يدافعون عن أرضهم من قبل أن يكون هناك حزب الله”. وقال أحد ابناء العشائر لموقع “لبنان الكبير”: “نحن مع الجيش ونقف خلفه، لكننا لن نقبل باستباحة أرضنا وبيوتنا، ونرفض أن تتحول نساؤنا وأطفالنا الى جثث ترمى في المقابر الجماعية كما حصل في بعض مناطق سوريا، وإلى أن يضبط الجولاني متعطشي الدماء الذين يضمهم إلى قواته سنبقى على أهبة الاستعداد للدفاع عن أرضنا”.
كأنما كُتب على لبنان أن يكون ساحةً لا تهدأ، تتنازعه الجغرافيا كما تتنازعه التحالفات. فحدوده الشرقية لم تكن يوماً مجرد خطوط رسمتها الخرائط، بل كانت على الدوام نقطة اشتعال تُحرّكها حسابات الداخل والخارج. واليوم، وعلى وقع الاشتباكات العنيفة بين العشائر البقاعية والقوات السورية، هل يصبح لبنان محاصراً بحدوده؟ وهل يكون البحر منفذ لبنان الوحيد؟