استقرّ الرأي في الأنظمة الحديثة والمعاصرة على أنّ الدولة هي التي يكون من حقّها ممارسة العنف بمفردها. والسلطة في ممارساتها الشاملة تكون محايدة. أمّا في الواقع فقد سادت أنظمة غلبة، تارةً باسم الأقلّية وطوراً باسم الأكثريّة. وتتصاعد اليوم صرخات “المكوِّنات” الطائفية والإثنيّة والجهويّة، وهي تشكو من الغلبة والتمييز. وهي مشكلة سورية والعراق واليمن والسودان. فكيف الخروج من الاضطراب بعد فشل الأنظمة الشمولية وأنظمة الأقلّيات والميليشيات؟ هذه هي محنة دول المشرق العربي واليمن والسودان.
مقولة الإرغام أو احتكار العنف وأنّ ذلك من حقّ الدولة أو السلطة الشرعيّة، هي مقولة السوسيولوجيّ الألماني الكبير ماكس فيبر (1864-1920). يقول مفكّرو نقد الخطاب الاستعماري اليوم إنّ احتكار العنف هو شأن الدولة الحديثة، سواء اتّبعت الآليّات الديمقراطية أو لم تتبعها. وأصل الفكرة يعود لتوماس هوبز (1588-1697) صاحب كتاب “الليفياثان” الذي قال بسوء الطبيعة البشرية وإنّ الإنسان لا يكتفي بحاجاته الأساسية، ويميل على الدوام إلى تكبير حصّته بالقوّة فيتصدّع المجتمع وينهار بسبب حرب الجميع على الجميع.
لذلك صيغة “العقد الاجتماعي” عنده تكون بتسليم الجميع لسلطةٍ واحدةٍ هي الملك أو الدولة التي تحتكر العنف وتملك حقّ الإرغام، وتستطيع ممارسة القوّة ضدّ الجميع عندما يخرجون جميعاً أو تخرج فئات منهم على مقتضى العقد (= الخضوع للسلطة شبه المطلقة). ولذلك في الصيغة الأصلية لا تعني العدالة الإنصاف ومراعاة الحقوق بل أن تكون السلطة شموليّةً ليس فيها تمييز في استخدام القوّة عندما يكون ذلك ضروريّاً. وقد تعرّضت هذه الرؤية لنقدٍ كثيرٍ، لكنْ ما تشكّك أحدٌ في أصلها، وهو أنّ العنف يقع في أصل الدولة وينبغي أن يكون من حقّ جهةٍ واحدةٍ وإلّا صارت الحروب الأهليّة هي الحالة السائدة.
في المرحلة الجديدة هناك دائماً اندفاعٌ نحو نظامٍ للغلبة من أقلّية أو أكثريّة. وفي الحالتين ما عاد الاستقرار ممكناً أو مضموناً
لنذكر هنا النقد الماركسيّ فقط. فالماركسيون لا ينكرون الطبيعة العنيفة للدولة، لكنّهم ينكرون أن تتحقّق القاعدة القائلة: ظلمٌ بالسويّة عدلٌ في الرعيّة. فالذي يحدث دائماً أن تغلب فئةٌ على فئة وتحكم باسم مصالحها، ولذلك حتّى عند الوصول إلى مرحلة سيطرة البروليتاريا يسمّونها: ديكتاتورية البروليتاريا على الفئات الأخرى.
للخروج من العنف
كيف يمكن الخروج من هذا العنف اللاإنساني، سواء أكان ماديّاً أو معنويّاً؟ جون لوك (1632-1704) بل كلّ الآخرين قالوا بسلطة الإرادة العامّة التي تظهر من خلال الاقتراع العامّ أو الانتخابات. فالأكثريّة التي تأتي بها الانتخابات هي التي تحكم أو تملك ولو مؤقّتاً سلطة استخدام العنف، واستجدّت على ذلك آليّات حفظ الحقوق الأساسية للأقلّيات استناداً إلى فكرة المواطنة.
يفترض أن تكون الأكثرية سياسية، لكنّ الواقع أنّها كانت في غالب الأحيان دينية أو إثنية أو جهويّة وإن لم يبدُ ذلك بوضوحٍ قصداً. وهكذا قد يصبح حقّ الدولة في استخدام العنف نوعاً من الغلبة لفئةٍ على سائر الفئات. وبالكفاءة المتطوّرة في الهندسات الاجتماعية والتدخّلات الخارجية تصبح الفئة المسيطرة بالانتخابات أو بدونها، هي “الأقليّة المنظّمة” بالمعاني الدينية أو الاقتصادية أو السياسية.
لماذا هذه الفذلكة الطويلة في أصل الدولة ووظائفها الاجتماعية والسياسية؟
الدولة
لأنّ المسألة الآن صارت عالمية. كنّا نظنّها قاصرةً على الدول الجديدة في آسيا وإفريقيا، التي تسود فيها غالباً الجيوش باعتبارها “أقلّيات منظّمة”. لكن مع عودة الدين وتفاقم الوعي بالخصوصيات عادت الأقلّيات المنظّمة سائدةً في كلّ مكان. لقد سقطت الإمبراطوريّات، ثمّ سقطت الدول القومية، والدول (الديمقراطية) المتقدّمة والأخرى الوطنية معرّضة للتهديد الشديد في بناها الداخلية المتنافرة.
أنظمة “الأقلّيّات المنظّمة”
بعد الحرب العالمية الثانية أُدخلت ضمانات كثيرة على نظام الدولة تعود لحقوق الإنسان ولمنع تعدّي القوى الكبرى على الصغرى. لكنّ الضمانات للجهتين داخَلها الاختلال الشديد في الحرب الباردة والزمن الحالي. ويتّجه العالم اليوم، باستثناءات قليلة، نحو أنظمة “الأقلّيات المنظّمة” مع مراعاة الشكليّات الديمقراطية أو بدون مراعاتها.
استقرّ الرأي في الأنظمة الحديثة والمعاصرة على أنّ الدولة هي التي يكون من حقّها ممارسة العنف بمفردها
فلنعُد مرّةً أخرى لتعليل أسباب الحديث عن نظام الدولة الآن. علّة ذلك الشكاوى المتصاعدة في بلداننا من سيطرة الأقلّيات تارةً، وتارةً أُخرى من سيطرة الأكثريّات (!). ويحدث هذا في سورية والعراق ولبنان والسودان واليمن… والشكاوى ليست جديدة، بل تعود للخمسينيات والستّينيات من القرن الماضي، لكنّها تفاقمت في العقود الأخيرة.
أخيراً، أثارها بقوّةٍ سقوط نظام آل الأسد بعد سيطرة أربعةٍ وخمسين عاماً (في جمهورية يرث فيها الابن الأب!)، وكانت سيطرةً للأقلّية العلويّة بغطاءٍ أيديولوجيّ شفّاف بعثي – قومي. ومنذ الوهلة الأولى جرى اعتبار الحركة التي استولت على دمشق سنّية، وهي طائفة الأكثريّة، وقد حضرت بعد طول غياب. وعلى الفور تصاعد تذمّر العلويين الذين فقدوا السلطة أو بعضهم، والأكراد، والدروز، والحجّة الاستئثار بالسلطة، وهم يريدون أمرين متناقضين: حقوق المساواة بالمواطنة، والتمايز في ما يشبه الحكم الذاتي.
لبننة النّظام العراقيّ
لا تكفي المواطنة، فلا بدّ من الأمرين والتمايز أهمّ! وحدث الأمر نفسه من قبل في العراق حيث حلّت الأكثرية الشيعية محلّ البعثيّة السنّية. وزاد الأمر تفاقماً التدخّل الإيراني الذي أحلَّ فوضى تعدّدية في كيانٍ تسرح فيه الحركات المسلّحة الشيعية والسنّية وتمرح على الرغم من وجود الجيش والأمن والسيادة المدّعاة في كيانٍ مستقلٍّ علناً!
صنع الأميركيون الغزاة النظامَ العراقي على شاكلة النظام اللبناني الذي أرساه الفرنسيون. لكنّ النظام اللبناني، نظام التقسيم الطائفي، ما كان يستحقّ التقليد. فهو نظامٌ مضطربٌ دائماً، وتتحكّم فيه في كلّ حقبة إحدى أقلّياته. في حقبة العقدين ونصف العقد الأخيرة تحكّمت الطائفة الشيعية بواسطة ميليشيا مسلّحة تعمل حسب الاستراتيجية الإيرانية. وقد انكسرت أخيراً أمام إسرائيل، فعاد شيء من التوازُن وجرى الاصطلاح دولياً ولبنانياً على أن يكون رئيس الجمهورية هو الأبرز في ترتيبات النظام.
بعد الحرب العالمية الثانية أُدخلت ضمانات كثيرة على نظام الدولة تعود لحقوق الإنسان ولمنع تعدّي القوى الكبرى على الصغرى
لكنّ دستور الطائف يضع السلطة بيد مجلس الوزراء، وهو منصبٌ للسنّة. ولذلك يشعر الشيعة بالصدمة بسبب الهزيمة ويميلون للمناطحة بالداخل، وعاد السنّة يشعرون بالقهر، وما استقرّ نظام الغلبة بعد، لأنّ المشكلات المتراكمة ما سمحت للنظام بالاستقرار.
الاندفاع نحو نظام الغلبة
في المرحلة الجديدة هناك دائماً اندفاعٌ نحو نظامٍ للغلبة من أقلّية أو أكثريّة. وفي الحالتين ما عاد الاستقرار ممكناً أو مضموناً، لأنّ الوضع العالمي الصراعيّ لا يسمح بذلك. الأكثريّة السورية تجرّب بعد طول غياب. والأكثريّة العراقية الغالبة لا تُقنع حتى المشاركين فيها. والتوازن اللبناني هشٌّ لمخالفات الممارسة للدستور، وللإحساسات المتناقضة لدى الفئات المختلفة التي تعبت من الحروب ومن سوء العيش، لكنّها ما تعبت من المناكفة.
في السودان يتصارع الجيش مع ميليشيا سبق له هو أن أوجدها. ودول الجوار تتربّص بوحدة السودان بعد فصل جنوبه عن شماله في دولةٍ غير مستقرّةٍ أيضاً! وفي اليمن انقسمت الدولة إلى دولتين، إحداهما تحاول أن تكون مذهبية وراثية(!)، وهي تعتمد في ممارستها للعنف على الدعم الإيراني.
إنّ دول الاضطراب العربي يزيد عدد سكّانها على مئة مليون، وهم يعانون من القتل والتهجير والوقوع على حافة المجاعة. وتريد أميركا أن تقرّر كلّ شيء لديهم للضعف المسيطر نتيجة صراعات “المكوِّنات”.
إقرأ أيضاً: سوريا: تحدّيات الاستقرار والوحدة
فهل تكون العلّة في تعدّد الجهات التي تمارس العنف، أو لأنّ الأقلّيات اكتسبت وعياً جديداً بسبب ضعف السلطة المركزية؟ وكيف يكون المخرج من الاضطراب في المرحلة الجديدة، مرحلة ما بعد الدولة القومية؟ هل تكون الفدراليّات بعدما فشلت الصرامة الاندماجيّة والميليشيات الطائفية؟
لا خيار بين العنف الشمولي والآخر الفئوي، فكيف تتوقّف معاناة الجمهور الذي فقد ثلاثة أجيالٍ في حمأة الاضطراب؟