–
أثار الإعلان الدستوري، الذي وقّعه الرئيس السوري المؤقّت أحمد الشرع، جدلاً كثيراً، وتركّز في مواد الإعلان بمعناها القانوني، مثل صلاحيات الرئيس الواسعة ذات الطابع السلطاني، والحرّيات، والفقه الإسلامي “المصدر الرئيس للتشريع”، وفصل السلطات، والمرجعيات، وتراتبية السلطات وفصلها… إلخ، وغيرها من مواد قانونية نصّ عليها الإعلان. وكان لهذا النقاش أن يكون أكثر فائدةً لو أن مسوّدة الإعلان الدستوري طُرحت للنقاش العام، وكُرّست خلاصة هذا النقاش في مواد قانونية ملائمة، لكنّ هذه الفرصة فاتت.
لا يمكن التعامل مع الإعلان الدستوري على أساس أنه مسألة قانونية عادية وشكلية، تتعلّق بتشكيل “لجنة فنية” من قانونيين تعمل في تدبيج موادّ الإعلان، يوقّعها الرئيس فتصبح ساريةَ المفعول خمس سنوات. هذه صيغة مبتسرة، لا تصلح لإقرار إعلان دستوري يتحدّث عن حقوق أساسية في فترة انتقالية بالغة الخطورة لبلدٍ يعاني من الدمار. القضية الدستورية، سواء كانت إعلاناً دستورياً مؤقّتاً، أو دستوراً ثابتاً، قضية تتجاوز الصياغات القانونية الشكلية، فهي يجب أن تعبّر عن توافقاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وشعبيةٍ واسعة بين جميع أطراف المجتمع، الذي ستحكمه هذه الوثيقة. ويحتاج هذا الإعلان الدستوري، على عكس الوثائق القانونية الأخرى كلّها، موافقة شعبية لا يحتاجها قانون جزئي، مثل قانون العقوبات، أو القانون المدني. إنه يمسّ حياة الجميع، ولأنه كذلك كان يجب أن تأتي بعد نقاش حقيقي وعميق يشمل المجتمع وقواه السياسية والاجتماعية. ولأن الإعلان الدستوري وثيقة أُعدَّت بين سلطة الأمر الواقع ولجنة الصياغة في الغرف المُغلقة، كان من الطبيعي أن تخرج بهذه الصيغة المتناقضة والمثيرة للجدل، وهذا يجب ألا يحدُث لوثيقةٍ أساسية ستحكم البلد خمس سنوات مقبلة، تؤسّس لما بعدها.
الإعلان الدستوري نوع من انقلاب ممّن تولّوا السلطة، لكنّه ليس انقلاباً على النظام القديم، بل هو انقلاب على الثورة وعلى شعاراتها وقيمها
سلطة الأمر الواقع هي التي صاغت الإعلان الدستوري، ولجنة الصياغة أداة بيدها، وكان لإخراج مشهد إعلان الوثيقة تلفزيونياً دلالة سلبية، جعلت الإعلان يبدو وثيقة انتصار لفئةٍ من الطائفة السُنّية. اقتصر حضور حفل التوقيع على اللجنة المكلّفة من الرئيس بصياغة الإعلان. والأكثر أهميةً أنه جلس في مقابل اللجنة مجموعةٌ من الرجال من لون ديني فئوي واحد، رجال دين سُنّة، جلّهم شغلوا مواقع مقرّرين شرعيين لمجموعات جهادية، واختار الرئيس أن يكون هؤلاء (لماذا لم يكن هناك نساء أو رجال من طوائف أخرى، أو حتى أشخاص من السُنّة غير متديّنين؟) حضور حفل التوقيع فقط، وهذا رسالة واضحة إلى المجموعات التي سيطرت على السلطة، وتأتمر بأمر الشرعيين، وتشكل الجيش الجديد (نحن السلطة).
شكّل الإعلان الدستوري نوعاً من انقلاب ممّن تولّوا السلطة، لكنّه ليس انقلاباً على النظام القديم، بل هو انقلاب على الثورة وعلى الشعارات والقيم التي انطلقت من أجلها قبل 14 عاماً، ودُفِعت تضحياتٌ كثيرة خلال مسيرتها الطويلة. مَنحُ الرئيسِ صلاحيات مطلقة، هو جوهر الإعلان الدستوري، وما عدا ذلك كلّه تفاصيل يمكن تجاوزها، ويمكن تجاوز التناقضات الكبرى في الإعلان الدستوري، حتى إذا نوقِشت نصوص قانونية محضة. لم يكن الإعلان يحتاج اللغة الانتصارية الرثّة في مقدّمة الإعلان، فهذه المقدّمة تصلح مقالاً رديئاً يُطبّل للسلطة الجديدة، وهناك موادّ مضحكة حتى بالمعنى القانوني، مثل “تضمن الدولة مكافحة الفساد”، وكأن هناك إعلانات دستورية تحمي الفساد. ومن جهة أخرى، لا يمكن الجمع بين الفقه الإسلامي مصدراً رئيساً للتشريع واعتبار المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان جزءاً من الإعلان الدستوري، لأن عديداً من الحرّيات التي ينصّ عليها إعلان حقوق الإنسان تتناقض مع الفقه الإسلامي، وفي مقدّمتها المادّة التي تنصّ على حقّ كل شخص “في تغيير دينه أو معتقده”، وهي ممارسةٌ أصبحت عاديةً في أغلب الدول، لكنّها لا تزال تعتبر “رِدّةً” معروفة عقوبتها في الفقه الإسلامي. وإذا كانت هذه الملاحظة جزئية، وهناك من سيقول إن الوضع السوري أعقد من الاهتمام بهذه الجزئيات، فلنذهب إلى الأكثر أهمية، وهو ما ينصّ عليه الإعلان في المادّة 23، التي تنصّ: “تصون الدولة الحقوق والحرّيات الواردة في هذا الباب، وتمارس وفقاً للقانون، ويجوز إخضاع ممارستها للضوابط التي تشكّل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامّة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحّة أو الآداب العامة”. تشكّل هذه المادة إعلاناً مسبقاً للطوارئ على الحرّيات التي ينصّ عليها الإعلان ذاته، فمن يحدّد هذه الضوابط التي ستخضع لها الحرّيات، ومن سيمارسها، فهي حرّياتٌ تولد محاصرةً ومخنوقةً؟ ماذا تعني ضوابط لمنع الجريمة سوى تقييداً مطلقاً للحرّيات، يعود لمزاج السلطة التنفيذية (أو يعود إلى الشرعيين الذين باركوا الإعلان بحضورهم التوقيع)؟… هذا الكمّ الكبير من الحصار للحرّيات من ضوابط للأمن الوطني والسلامة العامّة والنظام العام… إلخ، يجعلها بلا معنى، فالحرّيات التي تولد محاصرةً من الجهات كلّها، مع غياب مفهوم الديمقراطية أساساً مكوّناً لأي سلطةٍ تأتي بعد استبداد طويل، يجعل هذه الحرّيات ديكوراً في الإعلان، وهي للدعاية، وليست حرّيات للممارسة.
إعلان دستوري من دون قوى سياسية ومجتمعية تحميه هو إعلانٌ لا معنى له سوى تكريس السلطة الجديدة
الإعلان الدستوري لا يحمي حقوق المواطنين، إذا لم يكن هناك من يحميه، والسلطة ذاتها لا تحمي الدستور، على العكس، يجب حماية الدستور منها، لأنها يفترض أن تخضع له. ولكنّ السلطة التي تصوغ وحدها الإعلان الدستوري، تتجاوزه طالما هو إعلانها الخاص، وطالما ليس هناك من يحمي الدستور من عسفها. فالشعب هو الذي يحمي الدستور، عبر تمثيلاته السياسية والاجتماعية، فالقوى السياسية والقوى الاجتماعية الحيّة، التي تشغل الفضاء العام، هي التي تحمي الدستور من عسف السلطة. لكنّ هذه القوى طُرِدت من التمثيل في كل الإجراءات السياسية التي شرعنت بها السلطة الجديدة ذاتها، فهي بالتالي، ترغب في استمرار فراغ الساحة السياسية من القوى السياسية التي أعدمها النظام السابق، ومنع أيَّ قوىً جديدة من العمل، على قاعدة الذريعة القديمة، أن المخاطر كثيرة لا تحتمل مثل هذا الترف.
إعلان دستوري من دون قوى سياسية ومجتمعية تحميه هو إعلانٌ لا معنى له، سوى تكريس السلطة الجديدة القادمة من مواقع جهادية، لطالما كانت معاديةً للثورة والديمقراطية، ولا تملك حساسيةً لدماء الضحايا. والأغرب أن يكون سلوك السلطة الجديدة الاستئثاري، سلوكاً أقلّوياً للسيطرة على السلطة، مع أنها تدعي تمثيل كل الشعب السوري أو غالبيته.
يشكل هذا الإعلان الدستوري انقلاباً على الثورة السورية، ومحاولةً للاستيلاء على سرديتها، للاستفراد بالسلطة خلال الخمس سنوات الانتقالية، التي ستحدّد مستقبل البلد على شاكلتها سنوات طويلة.