في واحد من اجتماعات المعارضة السورية في لندن في 2004 (كانت المعارضة مُكلفة، ويتعرّض صاحبها لجملة من المخاطر الحقيقية)، تناولنا جملة من القضايا ذات العلاقة بالشأن السوري، في ضوء ما كان يحصل في العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين (2003)، وتبعات الانتفاضة الكردية في القامشلي (2004)، وتطوّرات الأمور في لبنان وبلوغها مرحلة اللاعودة بين رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري وبشّار الأسد. وإذا ما كانت ذاكرتي دقيقة، عُقد الاجتماع بدعوة من المراقب العام للإخوان المسلمين في حينه صدر الدين البيانوني، ومشاركة أحزاب وشخصيات وطنية سورية من مختلف الاتجاهات القومية والفكرية.
اتفقنا على إصدار بيان يلخّص التوافقات بين المجتمعين. وبمجرّد الانتهاء من صياغته، وضعه البيانوني أمامي لأوقّعه، لكنّني ما إن قرأت المقدّمة حتى سلّمته البيان من دون توقيع، وقلت له: “هذا البيان لا يقصدني، فهو موجّه إلى الشعب العربي السوري، وأنا كرديّ كما تعلم. لو عدَّلت اسم الجهة المعنية بالمخاطبة، ليصبح على سبيل المثال: يا أبناء الشعب السوري المسلم، سأوقّع عليه، لأنه سيشملني عندها، ولكنّك ستواجه مشكلةً مع المسيحيين. لذلك اقتراحي أن تعدّل العبارة لتصبح يا أبناء الشعب السوري، فحينئذٍ سيشعر الجميع بأنهم معنيون بالبيان، وسيوقّعونه من دون أيّ تردّد”. فعدّل الرجل العبارة على الفور من دون نقاش، وأعتقدُ أن ذلك كان بناءً على قناعته بصواب ما أشرتُ إليه. وما أكدّ استنتاجي هذا لاحقاً ما ذكره لي البيانوني (أمدّ الله في عمره ومنحه الصحّة والعافية)، في مناسبةٍ أخرى حول الموضوع نفسه، قائلاً: “أحياناً لا يفكّر المرء في أبعاد المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها، وإنما يتصرّف كما جرت العادة. فحينما أشرتَ إلى ضرورة استخدام مصطلح الشعب السوري الأدقّ لمخاطبة السوريين جميعاً، أدركت على الفور صحّة الملاحظة، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أستخدم عبارة الشعب السوري من دون أيّ إضافة أخرى، وعن قناعة”.

الدولة الحديثة المدنية حياديّة بالمعنى الإيجابي، تحترم سائر مكوّناتها، وتحرص على ضمان حقوقهم المشروعة التي لا تتعارض مع وحدة الأرض والشعب

وفي سياق ما يتناوله هذا المقال، أشير إلى ما يعنيه المناطقة بمصطلحي المفهوم والما صدق، عند حديثهم عن دلالة، أو دلالات المعنى اللفظي، الذي يتناول الموجودات، فكلّ مفهوم يتضمّن خاصّيةً أو خاصّيات عديدة تصدُق على الفئة التي تمتلك تلك الخاصّية أو الخاصيات، فمفهوم “القلم” على سبيل المثال يشير إلى خاصّية الكتابة، ودائرة ما صدقه تشمل جميع الأقلام التي كانت (والكائنة، وستكون) في العالم. هذا في حين أن دائرة ما صدق المفهوم المركّب “الأقلام السوداء” تقتصر فقط على الأقلام السوداء من دون الأقلام الأخرى، مثل الحمراء والبيضاء والخضراء وغيرها. والعلاقة بين المفهوم والما صدق عكسية، بمعنى كلّما وسّعنا دائرة المفهوم من جهة ما يتضمّنه من خصائص أو سمات، تقلّصت دائرة الما صدق، وكلّما وسّعنا دائرة الما صدق، قلّصنا دائرة المفهوم. وهذه العلاقة تنطبق على أسماء الدول أيضاً، والصفات، والهُويَّات التي تُعرَّف بها.
والدولة الحديثة المدنية غير الخاضعة لتأثير الأيديولوجيات المتشدّدة من قومية أو دينية، تكون على مسافة واحدة من سائر مكوّناتها المجتمعية، فهي حياديّة بالمعنى الإيجابي، تحترم سائر مكوّناتها، وتحرص على ضمان حقوقهم المشروعة التي لا تتعارض مع وحدة الأرض والشعب. ووظيفة الدولة، وفق هذا التحديد، مستمدّة من أنها جهاز إداري يسهر على توفير الأمن والاستقرار المجتمَعيَّين، وضمان مقوّمات العيش الكريم لسائر رعاياها من دون أيّ تمييز أو استثناء بسبب انتماءاتهم المجتمعية الفرعية، الدينية أو المذهبية أو القومية أو الفكرية، ومن دون أيّ تمييز بين الرجل والمرأة. وإذا اعتمدنا الطابع الإداري البحت لوظيفة الدولة، لن نجد أنفسنا ملزمين بتحديد هُويَّتها، لأن الهّويَّة تخصّ المجتمع، تخصّ المجموعات السكّانية ضمن هذا المجتمع وقناعاتها أو توجّهاتها الدينية أو القومية أو حتى الأيديولوجية.
مناسبة ما تقدّم هو ما ورد في الإعلان الدستوري الذي تبنّته الإدارة السورية الجديدة، ممثّلة برئيس الجمهورية الانتقالي أحمد الشرع، بخصوص اسم الجمهورية. وبالمناسبة، هناك نقاط كثيرة وردت في الإعلان تحتاج إلى مزيد من المناقشة والحوار حتى يُتوافق عليها من السوريين، وما يضفي أهميةً خاصّة على هذا التوافق أن العمل بهذا الإعلان سيستمرّ نحو خمسة أعوام، وهي المدّة الزمنية التي حدّدها الإعلان المشار إليه للمرحلة الانتقالية، وهي مدّة طويلة كما هو واضح.
وفي سياق تسويغهم للإبقاء على الاسم “الجمهورية العربية السورية”، بيّن أعضاء لجنة إعداد البيان أنهم ساروا على العرف المعتمد، هذا في حين أنهم أحدثوا تغييراً نوعياً بنيوياً في شكل النظام السياسي في سورية، وذلك عبر اعتماد النظام الرئاسي وإلغاء منصب رئيس مجلس الوزراء من دون أيّ مراعاة للعرف الدستوري في سورية، وسائر الدول العربية. كما أنهم تحاشوا ذكر مصطلح الديمقراطية في إعلانهم، وهو المصطلح الذي أكّدت سائر الدساتير السورية ضرورة الأخذ به.
ونحن إذا عدنا إلى الوثائق المتوافرة، الخاصّة باسم الجمهورية، منذ تشكّل الكيان السياسي المعروف حالياً في سورية بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في عام 1920، سنكتشف أن اسم الجمهورية العربية السورية هو حصيلة جملة من الظروف والمتغيّرات على امتداد مراحل عديدة. فبعد دخول قوات الأمير فيصل إلى دمشق قادماً من الحجاز برفقة توماس لورنس (لورانس العرب)، أُعلنت المملكة السورية العربية، والأمير فيصل ملكاً عليها (في الثامن من مارس/ آذار 1920)، وكان من المفترض أن تضمّ هذه المملكة سورية الطبيعية (سورية ولبنان وفلسطين والأردن). ومع ذلك، كان الانتماء السوري بموجب الاسم متقدّماً على الانتماء العربي، رغم أن أغلبية السكّان الذين كان من المفترض أن يكونوا في عداد تلك المملكة من العرب. لم تدم هذه المملكة في الأرض السورية سوى أشهر، لأن الفرنسيين عارضوا تلك الخطوة بشدّة بموجب الاتفاقات التي كانت بينهم وبين بريطانيا، ودخل الجنرال غورو إلى دمشق (25 يوليو/ تمّوز 1920)، وقسّمت سورية بين دويلات عدّة، دويلات حلب ودمشق والعلويين والدروز ولبنان، ولكنّ السوريين بكل انتماءاتهم وتوجّهاتهم رفضوا هذه الخطوة، وكان إعلان دولة سورية التي ضمّت كلّ المناطق ما عدا لبنان.
ومع خروج القوات الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية من سورية، اعتمد رواد الاستقلال اسم “الجمهورية السورية”، الذي استمرّ معتمداً إلى حين إعلان الوحدة بين سورية ومصر (1958)، في أجواء هيمنة الأيديولوجيا القومية، فأصبح اسمها “الجمهورية العربية المتحدة”، ثمّ بات “الجمهورية العربية السورية” في عهدَي الانفصال القصير وحكم “البعث” (استمرّ أكثر من ستّة عقود)، في محاولة من الانفصاليين لشرعنة أنفسهم قومياً، ومزاودة من البعثيين على عبد الناصر في ميدان الأيديولوجية القومية.

وحده المشروع الوطني العام ينقذ سورية والسوريين من مشاريع التقسيم وعدم الاستقرار

وبناء على ما تقدّم، نرى أهمية اعتماد الخطاب الوطني الجامع الذي يطمئن سائر السوريين، فسورية لا تتحمّل التعصّب الديني أو الطائفي أو القومي أو الأيديولوجي، ووحده المشروع الوطني العام ما ينقذ سورية والسوريين من مشاريع التقسيم وعدم الاستقرار. ولا جديد في القول إن هناك أزمة ثقة بين مختلف المكوّنات السورية، لن تحلّ من دون تبديد الهواجس بعقود مكتوبة تطمئن سائر السوريين، ولا تثير هواجسَ جديدة أو تكرّس القديمة. كما أن إجراءات تعزيز الثقة ضرورة إلى أقصى حدّ، لنبرهن بالأفعال، لا بمجرّد المجاملات اللفظية، وجود انسجام بين أقوالنا وممارساتنا. وفي الوقت ذاته لا بدّ من التوافق على آلية حوارية دستورية لحلّ الخلافات التي ستكون بكلّ تأكيد. أمّا التذاكي، ولي عنق الحقيقة، واعتماد عقلية المحامين في تناول القضايا الوطنية… لن تؤدّي هذه المسائل كلّها إلى الطمأنينة، ولن تكرّس المصداقية، بل ستعمّق الهواجس وتوسّع دائرة انتشارها.
وبالعودة إلى اسم الجمهورية، نرى أن توسيع دائرة ما صدقه عبر تقليص دائرة ما يتضمّنه مفهومه من خصائص، سيكون أكثر انسجاماً مع المشروع الوطني السوري، الذي لا يمكنه بأيّ شكل التنكّر لحقيقة أن العرب السُنّة هم الأغلبية في المجتمع السوري، ولكن هذه الهُويَّة القومية الدينية تخصّ المجتمع العربي السُنّي في المقام الأول. أمّا الدولة السورية فتضمّ سائر المكوّنات بهُويَّاتهم الفرعية المتباينة، ولكنّ الهُويَّة الوطنية السورية العامّة تجمعهم، من خلال دولة يؤكّد اسمها أنها على مسافة واحدة (وبصورة إيجابية) من الجميع. ومثل هذا الأمر لن يكون بدعةً مستحدثةً، فأكثر من نصف الدول العربية (العراق وتونس وقطر والأردن والكويت واليمن وليبيا والسودان والأردن ولبنان وعُمان والبحرين وفلسطين) لا تعرّف نفسها بالعربية، ولا يستطع أحد أن يشكّك في انتماء شعبها العربي وحرصه الشديد على ذلك الانتماء.
إذاً، يكون من الأفضل إعادة النظر في الإعلان الدستوري وتعديله ليرتقي إلى مستوى تطلّعات السوريين، ويساهم في ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري وتعزيز تماسكه.