بدعم من هيئة الأدب والترجمة والنشر السعودية، تمت ترجمة أربعة كتب من اللغة العربية الى السويدية، نقلها المترجم السوري المقيم في السويد عبد اللطيف حاج محمد ونشرتها دار “بيكسل” السويدية. الترجمة تضمنت رواية “في ديسمبر تنتهي كل الأحلام” للكاتبة والروائية السعودية أثير عبدالله النشمي، الصادرة في 2011، كذلك ديوان “مقام النسيان” للشاعر محمد إبراهيم يعقوب، الحائز جائزة محمد الثبيتي. كذلك شملت الترجمة ديوانين للشاعر حاتم الشهري الفائز بجائزة ستوكهولم للثقافة العربية 2024 عن فئة الشعر، وهما “في الميزان” و”أعرف وجه اليأس جيدا”. كذلك ترجم عبد اللطيف كتاب “ومضات سيرية”، تحت إشراف كاتبته الدكتورة نوال السويلم، وهو مجموعة سير ذاتية نسائية لأديبات سعوديات، يضيء على مسيرة المرأة السعودية في مناحي الحياة. هنا حوار مع المترجم عبد اللطيف حاج محمد، وإضاءة أكثر على المشروع.

ترجمت إلى السويدية أربعة كتب تتنوع بين الرواية والقصة والشعر، على أي أساس اخترت هذه الكتب، وما طبيعتها؟
لم يكن اختيار الكتب الأربعة المترجمة وليد المصادفة، بل جاء تتويجا لمسار محكم، ضمن مشروع أكثر اتساعا يريد تجسيد الروح المتحولة للأدب السعودي، ليس بوصفه نتاجا محليا فحسب، بل كصوت عابر للحدود، متجذر في هويته ومنفتح على عوالم أخرى.

إنها نصوص لا تستسلم للجاهز، بل تعيد مساءلة الواقع عبر استراتيجيات سردية مختلفة، تتراوح بين الواقعي والمتخيل، بين الحميمي والمجتمعي، بين الغنائي والفلسفي. لقد كان هذا الاختيار استعادة لطبقات متعددة من الوعي الأدبي السعودي، حيث تتقاطع السرديات الفردية مع المتخيل الجماعي، وحيث يتحول النص الأدبي إلى أرشيف غير مرئي للتغيرات التي ترسم ملامح الزمن السعودي الحديث.

هذه الترجمات ليست مجرد محاولة لتعريف القارئ السويدي بمسارات الأدب السعودي، بل هي أيضا استجابة لحاجة كامنة

كما أن هذه الترجمات ليست مجرد محاولة لتعريف القارئ السويدي بمسارات الأدب السعودي، بل هي أيضا استجابة لحاجة كامنة، ربما غير معلنة: جيلان ثان وثالث من المهاجرين والمنفيين، ممن يبحثون عن صدى لهويتهم في نصوص مكتوبة بلغة يتقنونها.

ومضات سيرية
من بين الترجمات، كتاب يتضمن مجموعة سير ذاتية نسائية يحمل عنوان “ومضات سيرية”، يكشف حيوية صوت المرأة في المجتمعات العربية، ما مدى أهمية هذا المحور بالتحديد؟
إن الضرورة الملحة لترجمة الروايات المكتوبة بأقلام نسائية من العالم العربي بأصوات قادمة من جغرافيات متعددة—لا تنبع فقط من الحاجة إلى تمثيل أدبي أكثر شمولا، بل تنبع أيضا من قلق تأويلي يتصل بمكانة المرأة في النصوص، ليس بوصفها كائنا يروى عنه، بل بوصفها ذاتا تعيد إنتاج السرد وتتفكك فيه.

فالمرأة هنا لا تكتب فقط، بل تخوض الكتابة كفعل مواجهة، كمقاومة نصية، كتحرر من أنماط الكتابة الأبوية التي لطالما جعلتها موضوعا للتأطير وليست ذاتا للخلق. إنها تعيد تموضع نفسها في قلب النص، كقوة لغوية تفرض منطقها الخاص، مستعيدة بذلك فضاء سرديا كان مغلقا عليها. تتحول الكاتبات السعوديات إلى عناصر فاعلة في مشهد التبادل الثقافي، لا كأصوات هامشية، بل كمشاركات في إعادة صوغ مفاهيم الأدب والهوية والنوع في العالم المعاصر.

Nomad PublishingNomad Publishing
أثير عبد الله النشمي
ما خصوصية الانطلاق للبدء بالترجمة الى اللغة السويدية، من وجهة نظرك وبعد إقامتك في المكان لفترة؟
السويد ليست مجرد بقعة جغرافية تمتد بين الغابات الباردة والبحيرات العميقة، إنها تكوين ذهني، بنية تتشكل في الهامش بقدر ما تتشكل في المركز. إنها ثقافة تقدس المسافة: بين الأشخاص، بين الأفكار، بين الكلمة وما تعنيه فعلا. في هذا الفراغ المتعمد، يولد العمق، حيث لا يفصح عن كل شيء، بل يترك هامشا للظلال، للصدى، للمعاني التي يجب على القارئ أن يستخرجها بنفسه. في هذا السياق، يتحول المترجم من مجرد ناقل خفي إلى فاعل ثقافي، ليس بوصفه قناة شفافة، بل بوصفه كائنا يعيد تشكيل النصوص داخل فضاء جديد من الإمكانات التأويلية. هذا المنظور هو الذي دفعني إلى تجربة العيش المؤقت في السعودية، لم يكن الهدف أن أترجم مجتمعا من خارجه، بل أن أتحرك داخله، أن أعرض نفسي لتحولاته، أن أجرب ما يعنيه، أن تكون اللغة امتدادا للبنية الثقافية التي أنتجتها، لأن تصدير لغة ما لا يعني فقط ترجمة مفرداتها، بل يعني تفكيك بنيتها الداخلية، فك رموزها، وإعادة إنتاجها في جسد جديد.

الترجمة هنا لا تقتصر على إيجاد مقابلات لغوية، بل على إعادة خلق نص قادر على أن يتنفس داخل بيئته الجديدة

التحدي ليس فقط في ترجمة اللغة، بل في ترجمة الفكر الذي يحكمها. فبين العربية والسويدية، لا نجد مجرد اختلاف لغوي، بل نجد تباينا في المنطق، في تركيبة الجملة، في الإيقاع، في العلاقة بين الوضوح والإيحاء. العربية تتعامل مع الغموض كقيمة جمالية، حيث المعنى يستشف أكثر مما يقال، أما السويدية، فبلاغتها قائمة على التحليل والدقة والتحديد. الترجمة هنا لا تقتصر على إيجاد مقابلات لغوية، بل على إعادة خلق نص قادر على أن يتنفس داخل بيئته الجديدة، دون أن يفقد صلته بالفضاء الذي ولد فيه.

شغف ثقافي
وصفت هذا المشروع بأنه يلامس شغفك وأهدافك الثقافية، حدثنا أكثر عن ذلك.
في السويد، ثمة مؤسسات ثقافية تهتم بتعزيز نقل الأدب الإسكندينافي إلى العالم، ونخبة من الباحثين والخبراء في المعاهد والجامعات والمؤسسات الثقافية، ممن يعملون على إعادة إنتاج الأدب السويدي خارج حدوده. لكن ماذا عن العربية؟ لا تزال لغة هامشية في سوق الأدب السويدي – على الرغم من أن اللغة العربية بشكل غير رسمي، هي ثاني أكثر لغة انتشارا-، ومن حقيقة أن الأدب العربي غني بتجارب تستحق أن تقرأ، أن تعاد كتابتها داخل أفق جديد. هنا يكمن جزء من شغفي: أن أكون جزءا من هذا الجسر، أن أسهم في نقل النصوص ليس بوصفها منتجات ثقافية فقط، بل بنيات معرفية قادرة على زحزحة التصورات السائدة.

shutterstockshutterstock
نساء مسلمات في الساحة في ضاحية سكارهولمن في السويد
إن الترجمة، بهذا المعنى، ليست مجرد وسيط، بل هي مساحة لإعادة إنتاج الثقافة، لإعادة توزيع المعرفة، ولإعادة تعريف العلاقة بين النصوص واللغات. فمن خلال الترجمات، لا تنقل النصوص فقط، بل تنقل الأفكار، وفئات التفكير، والرؤى، والتصورات عن الآخر.

جهد هيئة الأدب والترجمة والنشر في وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية، ملموس في دعم الأدب والثقافة، كيف تنظر إلى هذا الجهد؟
يبدو أن الرهان لدى وزارة الثقافة السعودية والهيئة، لم يعد محصورا في تحسين جودة الحياة الفردية الثقافية، بل هو استثمار استراتيجي في المستقبل، يسعى إلى ضمان بقاء اللغة العربية لغة حيوية، مكتملة، وقادرة على حمل الثقافة والأدب العربي إلى العالم، ويبدو أنها تهدف إلى خلق مواطن أكثر تعاطفا، أكثر إدراكا، وأكثر انخراطا في الحياة العامة، حيث يتحول القارئ الجيد إلى طالب أكثر اجتهادا، وعامل أكثر إنتاجية، ومواطن أكثر قدرة على الانخراط في تحقيق الرؤية.

عبد اللطيف حاج محمد
فضاء عالمي
ما أهمية الترجمة وتكثيف العمل عليها في المشهد الثقافي العربي؟
تمثل الترجمة أكثر من مجرد عملية نقل نصوص بين اللغات، إنها أداة جوهرية لصوغ الهوية وإعادة إنتاجها ضمن فضاء عالمي متشابك. فحينما نتحدث عن أهمية تكثيف الترجمة، لا نشير فقط إلى ضرورة إثراء المكتبة العربية بمزيد من المعارف المترجمة، بل إلى الدور العميق الذي تؤديه الترجمة في تثبيت اللغة العربية كلغة قادرة على التفاعل مع التحولات المعرفية والتكنولوجية، لا سيما في المهجر، حيث تتحول اللغة إلى نقطة اشتباك بين متطلبات الاندماج والحفاظ على الخصوصية الثقافية، وتشكل جسرا معرفيا مزدوج الاتجاه: فمن جهة، تسهم في إيصال أحدث الإنتاجات الفكرية والتقنية العالمية إلى الجمهور الناطق بالعربية، مما يحافظ على تواصل اللغة العربية مع المستجدات العلمية والثقافية.

الرهان لدى وزارة الثقافة السعودية والهيئة، لم يعد محصورا في تحسين جودة الحياة الفردية الثقافية، بل استثمار استراتيجي في المستقبل

ومن جهة أخرى، تعمل الترجمة على تصدير النتاج الفكري والأدبي العربي إلى اللغات الأخرى، وهو أمر حاسم في كسر احتكار السرديات الغربية، وتثبيت حضور الثقافة العربية في المشهد العالمي. من دون هذا التدفق المزدوج، تبقى اللغة العربية محاصرة بين نزعتين خطيرتين: إما الانغلاق داخل تراثية جامدة تجعلها غير قادرة على التفاعل مع تحولات العصر، أو الذوبان التدريجي لصالح اللغات الأكثر هيمنة في البيئات المتعددة اللغات، كما هو الحال في المجتمعات المهاجرة.

تقدم التجربة الإسكندينافية نموذجا يمكن استلهامه، حيث تعاملتْ هذه الدول مع السياسة اللغوية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من السياسات الثقافية، واضعة إطارا استراتيجيا لضمان بقاء لغاتها “مكتملة وقادرة على حمل المجتمع”، أي لغات ديناميكية تستوعب التحولات العلمية والتكنولوجية، لكنها في الوقت ذاته تحافظ على دورها كمكون رئيس في الهوية الوطنية. هذا النموذج يعكس أهمية تبني سياسة ترجمة تفاعلية في العالم العربي.

الأديب حاتم الشهري
من خلال تواصلك مع المجتمع السويدي الثقافي، ما أبرز الفنون التي يميلون للاطلاع عليها، هل هناك ميل الى فن أكثر من آخر؟
في السويد، القراءة ليست مجرد طقس فردي منعزل، بل هي جزء من منظومة ثقافية معقدة تتشابك فيها الثقافة مع الذائقة، والاستهلاك مع الهوية. تقرير “العادات الثقافية 2023” الصادر عن الوكالة السويدية للتحليل الثقافي المستند إلى الاستطلاع الوطني لمعهد “سوم” في جامعة غوتنبرغ، يكشف عن ديناميكيات هذه العلاقة، حيث يلاحظ أن السويديين يظهرون اهتماما ثقافيا واسعا، إذ استمع 96% منهم إلى الموسيقى، وشاهد 94% المسلسلات التلفزيونية، و92% الأفلام، بينما قرأ 81% كتابا أو أكثر خلال العام، مما يعكس التفاوت بين استهلاك الثقافة البصرية وسلوك القراءة الأدبية. في هذه الشبكة من العادات، تظل الأنشطة التي يمكن ممارستها في المنزل أكثر انتشارا من المشاركة في العروض الثقافية العامة، مما يعكس تحولات أعمق في أنماط التفاعل مع الثقافة، حيث يصبح الاستهلاك الفني أكثر خصوصية وأقل علنية، وأكثر ارتباطا بالفردية التي تميز المجتمعات الحديثة.

التجربة الإسكندينافية تقدم نموذجا يمكن استلهامه، حيث تعاملتْ هذه الدول مع السياسة اللغوية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من السياسات الثقافية

ومع ذلك، فإن أنماط القراءة ليست متكافئة بين مختلف الفئات، فالنساء أكثر نشاطا ثقافيا من الرجال، والنشاطات الثقافية أكثر شيوعا بين سكان المدن الكبرى وأصحاب التعليم العالي. كما أن الثقافة ليست امتيازا اقتصاديا بحتا، بل مزيج من العوامل التي تتداخل فيها البيئة الاجتماعية مع البنية الذهنية للقارئ. كما أن الفجوة بين الأجيال واضحة، فالشباب أكثر نشاطا في استهلاك الثقافة، في حين أن من هم فوق 65 عاما يميلون إلى العزلة الثقافية التدريجية، حيث يتحول الاستهلاك الفني لديهم إلى حالة انتقائية محدودة.

الكتاب، رغم كل التحولات الرقمية، لا يزال يحتفظ بمكانة متينة في النقاش حول الفنون الأكثر استهلاكا، خاصة في إطار الأدب والسيرة. هذه المكانة ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لمشروع ثقافي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تصور السياسيون أن زيادة الثراء والتعليم ستؤدي تلقائيا إلى ارتفاع مستوى الذائقة الأدبية، وأن المواطن المتعلم صاحب الدخل الجيد سيختار الأدب الجاد تلقائيا. لكن، رغم هذا يظل فعل القراءة في جوهره مرتبطا بالدوافع الشخصية التي لم تتغير كثيرا على مدى قرن كامل.

+ / –
font change
حفظ
شارك

مواضيع مشابهة
ترجمة
روايات مترجمة
الأدب السعودي
السعودية
مقالات ذات صلة
الكاتبة والمترجمة العراقية زينة فولكالكاتبة والمترجمة العراقية زينة فولك
زينة فولك لـ “المجلة”: أستعيدُ بلادي بالترجمة وابعث من خلالها وجوه الغائبين
تعدُ المترجمة والكاتبة العراقية زينة فولك، نموذجا للجيل…

مترجمون غربيون: صوت الفلسطيني بعيد عن أذن العالم
مترجمون غربيون: صوت الفلسطيني بعيد عن أذن العالم
خلال الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة، دأب مترجمون…

ترجمة الثقافة العربية إلى اللغات الأوروبية والصراع على المشروعية
ترجمة الثقافة العربية إلى اللغات الأوروبية والصراع على المشروعية
ليسمح لي القارئ بأن أنطلق من واقعة سبق لي أن كتبت عنها في…

اختيارات المحرر

سياسة
أميركا وروسيا والمعبر السعودي

ثقافة ومجتمع
حوار فلسفي مع “ديب سيك”: هل الذكاء الاصطناعي ابن بيئته؟

سياسة
هكذا ابتلع الأسد أملاك السوريين… تشريع سرقة العقارات بهدف التغيير الديمغرافي (3 من 3)

ثقافة ومجتمع
مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور النشر العربية

سياسة
مظلوم عبدي لـ”المجلة”: الشرع هو الرئيس… ولن يكون في سوريا جيشان

ثقافة ومجتمع
مسلسلات رمضان 2025… أعمال سعودية وسورية تتقاطع مع اللحظة الراهنة
logo
سياسة
ثقافة ومجتمع
اقتصاد وأعمال
علوم وتكنولوجيا
وثائق ومذكرات
الخليج
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
أوروبا
الولايات المتحدة الأميركية
آسيا
العالم
فيديو
كاريكاتور
العالم في صور
إنفوغراف
بروفايل
عن المجلة
فريق المجلة
شروط الاستخدام
سياسة الخصوصية
اتصل بنا
logo
© Al Majalla Magazine. All Rights Reserved.