أرسلت، الأحد، سلطات دمشق الانتقالية حافلات لنقل النازحين من قاعدة حميميم الروسية، لكن العائلات الهاربة منذ الجمعة 7 آذار / مارس، بسبب المجازر التي وقعت، رفضت المغادرة وأصرّت على طلب الحماية، مما يشي باحتمال تحوّل قضية هؤلاء إلى بؤرة ساخنة قد يكون لها انعكاسها على الملف السوري بصورة أو بأخرى، لا سيما مع غموض الموقف الروسي أو محاولة تشويهه إعلامياً.
يوجد في قاعدة حميميم ما يقارب الـ 13 ألف نازح سوريّ، هربوا جميعهم من حزام القرى التي تحيط بالقاعدة، ضمن دائرة يصل قطرها حتى 20 كيلومتراً.
وذكرت مصادر مطلعة لـ”النهار” أن القسم المدني من المطار يضمّ ما يقارب تسعة آلاف نازح، وعندما ضاقت مساحته بأعداد النازحين، قررت إدارة المطار الروسية الأحد فتح القسم العسكري لاستقبال ما يقارب أربعة آلاف نازح. وأكدت المصادر أن “القسم العسكري معزول بطبيعة الحال عن القسم المدني، مما أدى في بعض الحالات إلى تشتّت العائلة الواحدة بين القسمين”.
والنازحون في قاعدة حميميم عرضة لحملة إعلامية تظهرهم أحياناً على أنهم من فلول النظام السابق، وأحياناً خونة يطالبون بالتدخل الخارجي. ولا تتوقف الحملات عند حدّ معين حتى لو استلزم الأمر اتهام النساء اللاتي فقدن أولادهن في المجزرة بأعراضهن. ويعكس اتباع هذه الأساليب مدى إحساس دمشق بأن ملف النازحين في القاعدة يضرّ بها إعلامياً وربما سياسياً، لذلك تحاول بكلّ ما لديها لإقفاله، وهي لا تكل عن إرسال مندوبين لها إلى القاعدة يومياً لإقناع النازحين بالعودة ولكن من دون جدوى.
قصة الهروب الكبير
WERBUNG
روى نازحون لـ”النهار” قصة هروبهم يوم المجازر التي حدثت في مناطقهم بعد انتشار الفصائل للرد على ما وُصف بأنّه انقلاب ضد السلطات الانتقالية.
“سمعنا باسم غياث دلاّ وأنه سيحرر الساحل، لكننا لم نرَ شيئاً بأعيننا، فقد كنا معزولين بين جدران المنزل، وكان الخوف قد سيطر علينا”، قال مدرّس لغة عربية تمكن من الفرار من المجزرة التي وقعت في قريته بريف اللاذقية الشمالي. وأضاف: “مضت ساعات الليل هادئة بشدة، وكانت مخاوفنا تزداد خشية أن يكون هذا الهدوء الذي يسبق العاصفة، وهو ما حدث بالفعل، وأيّ عاصفة!”.
فجأة عمت الفوضى في أرياف اللاذقية وجبلة وبعض أرياف طرطوس خاصة في مدينة بانياس وريفها. وروى مواطنون لـ”النهار” تفاصيل تلك الساعات المخيفة من صباح يوم الجمعة “وكأنها كانت بروفا على ما سيجري يوم القيامة”. ولم يطلب الشهود إخفاء أسمائهم فحسب بل طلبوا كذلك إخفاء أسماء القرى التي ينتمون إليها بسبب خشيتهم من الانتقام منهم.
“كان الناس رجالاً ونساء وأطفالاً يهيمون على وجوههم في الطرقات والأراضي الزراعية، يهربون وهم لا يعرفون مما يهربون، ويركضون ولا يعرفون إلى أين”، قالت سيدة لـ”النهار” وهي تستذكر لحظات فرارها في ذلك الصباح المشؤوم: “منذ سمعنا أنهم (الفصائل) وصلوا إلى جسر القرداحة شعرنا بالخطر على حياتنا، وبدأنا رحلة الهرب إلى المجهول”.
لا تذكر الشاهدة من كان أول من ذكر قاعدة حميميم أمامالهاربين كي يتغير مسار هروبهم بشكل تلقائي، وليبدأوا بالسير عبر طرقات زراعية شائكة باتجاه القاعدة.
“مشينا ما يقارب الـ15 كيلومتراً، وكان بيننا من يحمل أطفالاً أو أغراضاً عبارة عن أكياس وحقائب. يبدو أن البعض كان يتوقع أن يخرج من منزله”.
لكن طريق الهرب برغم مساره المتعرج والشائك عبر تضاريس جبلية مرتفعة لم يكن آمناً.
“حلقت فوقنا طائرات مسيرة، وبدأت تقصف علينا” أكد لـ”النهار” أكثر من شاهد ممن رأوا المسيرات بأعينهم. كذلك أكدوا سقوط قذائف عدّة في محيط الطرقات التي كانوا يعبرون عليها، مشدّدين على أن “الفصائل لم تكن تريدهم أن يصلوا إلى المطار (القاعدة)”.
وقال أحد الشهود: “عندما كنا نقترب من بعض الطرق الإسفلتية، كنّا نرى الجثث مرمية والسيارات محترقة نتيجة القصف، وبعض السيارات كان فيها مصابون”.
وأكد عدد من هؤلاء رؤيتهم “قذائف صاروخية تنطلق من المطار وتُسقط عدداً من المسيرات التي كانت تحلّق فوقهم وتقصفهم”. وهذا ما أعطاهم أملاً بأن الروس سوف يحمونهم، الأمر الذي شجعهم على المسير على الرغم من التعب والخوف.
الروس متعاطفون بقوة
في اليوم الأول، اعتذر ضابط روسي من الحشود لأن القاعدة لم تكن مجهزة لاستقبال هذه الأعداد الضخمة، وكان الازدحام والفوضى سيّدَي الموقف. لكن بعد يومين (يوم الأحد) بدأت طائرات شحن بالوصول إلى المطار، كما ذكر لـ”النهار” شهود من داخل القاعدة. وكانت الطائرات تحمل الكثير من مستلزمات النازحين مثل بطانيات وأغطية ومواد غذائية معلبة وحليب أطفال وحفاضات وغيرها. وبدأت الأمور تتحسن من حيث المعيشة.
كان التواصل صعباً بسبب اختلاف اللغات. وبالرغم من وجود مترجم فإنه لم يكن قادراً على تغطية طلبات آلاف النازحين. وللتغلّب على هذه العقبة حمّل هؤلاء تطبيق ترجمة، فكانوا يكتبون بالعربية فيقوم التطبيق بتحويل كتابتهم إلى اللغة الروسية ليفهم العساكر الروس مرادهم، فأصبح التواصل أفضل أيضاً.
مع ذلك لم تكن الإقامة مريحة بسبب الازدحام الهائل والافتقار إلى الخصوصية، ولعدم كفاية مرافق المطار لخدمة كل هؤلاء، غير أن ذلك لم يؤثر على عزيمة النازحين لجهة إصرارهم على البقاء، لأن كل واحد منهم كان قد فقد شخصاً من عائلته أو تم إحراق بيته، وكان الخوف يمنعهم من مجرد التفكير في مغادرة القاعدة، كما أن قضاء الأيام الأولى وسماع النازحين لقصص بعضهم البعض أدى إلى تزايد المخاوف. وما شجعهم أكثر على البقاء هو أن الضباط الروس أبدوا حفاوة كبيرة بهم، ولم تظهر عليهم أي علامة من علامات التذمر أو الاستياء.
“كان الروس متعاطفين معنا”، يقول شاهد كان من بين أوائل الواصلين إلى المطار، حتى أنهم “عندما أعددنا أول تظاهرة لنا للمطالبة بالحماية الروسية، طلبوا منا أن نطالب بالحماية الدولية، وهم من كتبوا لنا اللافتات بهذا الخصوص باللغة الروسية”.
“سمعنا خلال وجودنا هنا عبر اتصالنا بمعارفنا في القرى أن الفصائل زرعت المنطقة بالحواجز لمنع الناس من الوصول إلى قاعدة حميميم”. و أكد أكثر من شاهد لـ”النهار” أن “الناس لا تفكر في المغادرة بل تريد الحماية، لأنه لم يعد لها ثقة بـ “هيئة تحرير الشام” ولا بأيّ فصيل آخر”.
وقال أحد هؤلاء: “منذ ثلاثة أيام ونحن نرى طائرات عسكرية روسية تهبط كلّ يوم مرتين في القسم العسكري من المطار” في إشارة إلى أن روسيا بدأت تتفاعل مع الموضوع بطريقة جدية”، كما أنه أوحى من خلال كلامه بوجود أبعاد كبيرة لقضيتهم، وأن روسيا سوف توظّفها سياسياً لصالحها.
وأضاف: “كان ينزل من كل طائرة عساكر روس يركبون في بولمان ويتوجّهون إلى مبنى المطار”، مشيراً إلى أن هذا المشهد منحهم أملاً كبيراً في أن الروس لن يتخلوا عنهم، وأنهم يفكرون في طريقة ما من أجل إيجاد حلّ لمشكلتهم، لكنه لم يكن قادراً على التكهن بطبيعة ما كان يتحدّث عنه ويرجوه.