المجازر في الساحل السوري تفتح مجدداً النقاش حول علاقة المذاهب والطوائف الدينيّة فيما بينها، ليس في سوريا فقط بل في المشرق العربي ككل وفي لبنان تحديداً. الذهول من شدة العنف المذهبي، ترافق مع اكتشافنا مجدداً عمق إنكارنا للمشاعر المذهبيّة والطائفيّة.
يعالج هذا النص مسألة الإنكار هذه. جرت التغطية على المسألة الطائفيّة والمذهبيّة في سوريا خلال نظام الأسد، بالإدّعاء انه نظام علماني لا يفرّق بين الطوائف والمذاهب، وعُيِّرَ بالطائفي واللاوطني كل من تكلّم عن حساسيات طائفيّة أو مذهبيّة أو من أشار الى التمييز بين المجموعات الدينيّة.
الثورة السورية وما تلاها من حرب أهليّة أظهرت الى العلن هذه الحساسيات وهذا التمييز. وبعد سقوط نظام الأسد على يد “هيئة تحرير الشام” سادت أجواء “وطنيّة” لا طائفيّة ولا مذهبيّة، رغم بعض الإنتهاكات المتفرّقة بحق بعض الأقليات الدينيّة. لكن سرعان ما انهارت كل هذه الدعاية “الوطنيّة”، مع اندلاع أحداث الساحل السوري وما رافقها من مجازر بحق المواطنين من الطائفة العلويّة. وسبق ذلك وتلاه بروز مخاوف درزيّة وكرديّة ومسيحيّة من الحكم الجديد، الذي يمثّل اتجاهاً أصولياً في الإسلام السياسي السني، المعروف بارتكابه مجازر بحق الطوائف والمذاهب الأخرى، حتى بحق مواطنين سنّة من اتّجاهات سياسيّة أخرى. وقد جاء “الإعلان الدستوري” ليعزّز هذه المخاوف من خلال مواده الصريحة التي تنص على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع وعلى ضرورة ان يكون رئيس الجمهوريّة مسلماً، مع الحرص على إعطائه صلاحيات إستثنائيّة خلال فترة الخمس سنوات الانتقاليّة، من مثل تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، كما تعيين اللجنة التي ستساهم في اختيار الثلثين المتبقيين.
صُدم معارضون سابقون لنظام الأسد بالمجازر التي وقعت، وبعضهم ينتمي الى الاتّجاهات العلمانيّة، ومن بينهم فاروق مردم بك، الذي قال بصراحة تامة وبدون أي التباس: “لنعترف ونحن ندفن قتلانا، بأن الطائفيّة متجذّرة في بلادنا، تغفو حينًا ثم تستيقظ كلّما سنحت لها الفرصة متعطّشة للدماء. ظننّا ان شعاراتنا القوميّة العربيّة كافية لاجتثاثها، ونراوغها اليوم بالكلام على الوطنيّة السوريّة كما لو أن وطننا لم تمزّقه الأحقاد الطائفيّة التي راكمها الاستبداد الأسدي وزادها حدّة تغوّل الحركات الجهاديّة. لا بدّ للاعتراف بواقعنا على حقيقته لا كما نتصوره…”.
التطوّرات السوريّة استدعت أيضاً مواقف عراقيّة ولبنانيّة. في العراق عاد التجاذب السني – الشيعي حول حدود الأقاليم، ومن يسيطر على المياه ومن يسيطر على النفط. وفي لبنان الموقف الأبرز والأوضح کان للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الذي “حذّر من تداعيات المذابح التي تحصل في سوريا على المنطقة بأكملها ولبنان خصوصا”، مناشداً ضرورة “ضبط الامور قبل ان تذر الفتنة الكبرى بقرنها”. وتعبير “الفتنة الكبرى”، هو استرجاع لوصف الفتنة الذي اندلعت بين السنة والشيعة منذ ١٤٠٠ السنة.
هذا الصدى المذهبي العراقي واللبناني على المجازر المذهبيّة في سوريا، يُضاف اليه تعاظم المخاوف الدرزيّة في السويداء من الاندماج تحت حكم السلطة السوريّة الجديدة .
مع ذلك يستمر كثيرون في البلدان الثلاثة بإنكار الحساسيات المذهبيّة التي تلامس الكراهيّة المتبادلة. ويمكننا تقسيم مجموعة الإنكار هذه إلى أربعة فئات على الأقل:
– فئة رجالات السلطة والمستفيدين منها، الذين يريدون إضفاء شرعيّة دستوريّة وطنيّة على حكمهم الفئوي التسلطي. الأسد لجأ الى غطاء العلمانية والشرع يلجأ الى غطاء الاسلام الذي يجمع بين المذاهب الاسلاميّة. لكنّ حجّته أضعف من حجّة الأسد فهي لا تشمل المسيحيين.
– فئة “القوميين العرب” بمختلف تسمياتهم، والذين لا يرون في سوريا الا مواطنين عرباً بغض النظر عن اديانهم ومذاهبهم. وهم والأسد والشرع لا يعيرون اهتماماً للأقليّة الكرديّة، كمكوّن غير عربي. ولطالما ارتبط الفكر القومي بمصالح حزبية ضيّقة متمسكة بالسلطة.
-فئة “اليساريين” الذين لا تسمح لهم عقيدتهم إلاّ برصد الطبقات في المجتمع، لدرجة أن اليسار اللبناني في حرب ١٩٧٥، كان مضطرًّا لتحويل الطوائف والمذاهب إلى طبقات، من خلال مقولة “الطائفة-الطبقة”، حتى يستطيع أن يتقبّل فكرة وجود الطوائف والمذاهب وتأثيرها في العلاقات بين المواطنين، وحتى يبرّر بالتالي مشاركته في حرب طائفيّة.
– الفئات الثلاث أعلاه تفسّر النزاعات الطائفيّة والمذهبيّة- هذا إن إعترفت بها- بالتدخّلات الخارجيّة ذات الأطماع الاستعماريّة، أو بالأنظمة السياسيّة القائمة على أساس طائفي. على عكس الفئة الرابعة التي هي فئة “المؤمنين” العاديين، فهي تعيش تناقضاً في مشاعرها. لديها من جهة نزعات نفسيّة-إجتماعيّة متأثرة بالواقع الطائفي والمذهبي المعاش وبذاكرة جماعية متداولة تغذي الأفكار المسبقة والكراهية تجاه الآخر المختلف؛ ومن جهة إخرى نزعة دينيّة- اخلاقيّة تدعوها إلى التسامح وقبول الآخر. وينتج عن هذا التناقض إحساس بالذنب وكبتًا للمشاعر العدائيّة ورفضاً للاعتراف بها.
الفكر القومي يختزل العوامل المؤثرة بالسلوك الانساني بعامل الانتماء القومي، والفكر الماركسي- الارثوذكسي يختزلها بعامل الانتماء الطبقي، والاثنان يهملان العوامل المجتمعية والثقافية والدينية التي تبلور السلوك المذهبي- الطائفي. العوامل جميعها لها دورها دون ادنى شك، لكن كما يبدو من التجربة التاريخية، لا تزال العلاقات المذهبية والطائفية أقوى وافعل من العلاقات القومية والطبقية في تشكيل الوعي الفردي، في كافة دول المشرق العربي.
لكن من الضروري الإشارة الى ان مصدر الكراهيّة، قد يكون عدائيّة كامنة تولّدها الحياة اليوميّة في العائلة والمدرسة والعمل والمجتمع ولا علاقة لها بالمواقف الطائفيّة، لكنّها تجد في هذه المواقف متنفساً جماعيًّا لها، بحكم انتشارها.
لا يمكن معالجة النزاعات المذهبيّة والطائفيّة من خلال انكارها، والتجارب اللبنانيّة والسوريّة والعراقيّة أسطع برهان على ذلك: فلا طمسها من قبل نظامي البعث السوري والعراقي، ولا الاعتراف بها بخجل من خلال النظام اللبناني، أدّيا إلى تجنّب المجازر الدورية. قالها لنا ابو تمام منذ زمن العباسيين، ولو لأغراض مختلفة: “السيف أصدق انباءً من الكتب، في حده الحدّ بين الجد واللعب”. فلنتوقف عن اللعب بمصائر شعوبنا ولنصدِّق السيف قبل أن يقضي علينا جميعًا.
لم يجرِ اللجوء الى القانون تاريخياً لتنظيم المحبّة بل للجم الكراهية بين البشر. فلا بأس إن اعترفنا نحن أيضًا بحاجتنا إلى قانون “ينظّم” هذه الكراهية ويمنعها من التحوّل إلى عنف مطلق.
يجب للاسراع في اقرار قانون لإنشاء مجلس الشيوخ وقانون اللامركزيّة الموسّعة. هكذا تتفادى البلاد الصدمات الكبيرة التي لم تعد تحتملها، وتأخذ المبادرة بدل ان تكون سياساتها كما حصل في السابق، ردود فعل على التطوّرات الخارجيّة التي لا تأتي في العادة لصالحها.
إن حصر السلاح بيد الدولة هو شرط اشتغال مجلس الشيوخ واللامركزية الادارية، مما يسمح لمختلف فئات الشعب ان تعيش بطمأنينة وسلام. وعلى عكس ما يعتقد البعض، لم يحصل حصر السلاح بيد الدولة بعد نشوئها تاريخياً في العالم، بل كان شرطاً لوجودها، بعد أن توافقت الفئات المتقاتلة في حينه على العيش معاً بسلام.