بعدما رعت اتّفاقيّة تطبيع العلاقات الدبلوماسيّة بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران في آذار (مارس) الماضي، سادت توقّعات بافتتاح الصين عصراً جديداً من الدبلوماسيّة في العالم، وتحديداً في الشرق الأوسط. الأحداث التي تلت “طوفان الأقصى” وضعت هذه التوقّعات في مهبّ الريح.

نجحت الصين في رعاية التقارب السعوديّ – الإيرانيّ بفعل علاقاتها السياسيّة والاقتصاديّة مع الطرفين، وإن كانت هذه العلاقات أقوى مع الرياض. ما انطبق على هذه المعادلة في الخليج العربيّ، كان ينبغي أن ينطبق، وفقاً لهذا التحليل، على الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ. تؤيّد الصين حلّ الدولتين ولها من العلاقات مع الإسرائيليّين والفلسطينيّين ما يكفي لإطلاق على الأقلّ مبادرة خاصّة بها. وهذا ما لم يحصل.

علاقة طويلة الأمد

منذ تأسيسها سنة 1964، حظيت “منظّمة التحرير الفلسطينيّة” بدعم الصين، وكان رؤساؤها السابقون ينادون مؤسّسها ياسر عرفات بـ”الصديق القديم“، وقد أسّست علاقات دبلوماسيّة مع فلسطين سنة 1989، ثمّ فعلت الأمر نفسه مع إسرائيل بعد ثلاثة أعوام طلباً للتطوّر التقنيّ. بالنظر إلى قوّة إسرائيل الاقتصاديّة، أصبحت العلاقات التجاريّة الصينيّة مع الطرفين غير متكافئة: 23 مليار دولار مع إسرائيل مقابل 158 مليون دولار مع فلسطين سنة 2022.

في الواقع، وصلت العلاقات الإسرائيليّة – الصينيّة، ومن بينها الاستثمارات في شركات تكنولوجيّة عدّة، إلى حدّ إثارة الشكوك لدى الأميركيّين. وبلغ إعجاب الإسرائيليّين بالاستثمارات الصينيّة في ميناء أشدود حدّ مقارنة وزير النقل الإسرائيليّ الأسبق يسرائيل كاتز الصين بـ”موسى” لأنّها حوّلت “المياه إلى يابسة”. مع ذلك، لاحت شكوك في إسرائيل من سياسات صينيّة شرق أوسطيّة، كتمكين بكين طهران من الالتفاف على العقوبات الأميركيّة وعدم إدانتها “حماس” و”حزب الله”، وكذلك خشيتها من “سرقة” بعض تقنيّاتها. قد لا تقف هذه الشكوك حائلاً دون تطوّر العلاقات الاقتصاديّة بين الطرفين، لكنّها قد تعرقل تحوّلها إلى علاقات استراتيجيّة.

حدود سياسة التوازن

ربّما دلّت عمليّة “طوفان الأقصى” وتداعياتها إلى حدود سياسة الحياد الإيجابي في تحويل الثقل الاقتصادي الذي تمثّله الصين إلى ثقل دبلوماسي. بالمقابل، لا تزال الولايات المتحدة قادرة على لعب أدوار سياسيّة أكبر في المنطقة، بسبب ثقلها الأمني بالدرجة الأولى. لم يؤثّر انحيازها لمصلحة إسرائيل على هذا الأدوار. بعبارة أخرى، ليس توازن العلاقات بين أطراف الصراع شرطاً دائماً لنجاح مبادرات الوساطة. وتدرك الصين أنّ إسرائيل ستمنحها الضوء الأخضر لمشاريعها الاقتصاديّة ما دامت لن تصطدم بضوء أحمر أميركي. تجعل هذه الحسابات بكين متردّدة في الدفع بوساطة إلى الواجهة.

من جهة أخرى، وإن كان الخرق الدبلوماسي الذي تحقّق بين الرياض وطهران قد لفت اهتمام المراقبين إلى حدّ كبير، فهو لم يحجب النتيجة المتواضعة التي حقّقتها خطّة السلام التي اقترحتها الصين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. بالرغم من أنّ الصين حاولت تصوير نفسها لاعباً محايداً في الحرب، ظلّ الانطباع الغربي العام بأنّها أقرب إلى جارتها الشماليّة. لم تساعد اتّفاقيّة “الشراكة بلا حدود” التي وقّعها البلدان في شباط (فبراير) 2022 في تبديد هذا الانطباع مع أنّ الصين لم تساعد روسيا عسكرياً، على الأقلّ، ليس بما يمكن أن يقلب موازين القوى.

في إطار التعليق على الصراع الملتهب حالياً، دعا وزير الخارجيّة الصينيّ وانغ يي إسرائيل إلى “مراعاة القانون الدوليّ ووقف العقاب الجماعيّ للشعب الفلسطينيّ المضطهد”. وفي مكالمة هاتفيّة مع نظيره الأميركيّ أنتوني بلينكن السبت، شدّد وانغ على عدم وجود حلّ عسكريّ، مشيراً إلى أنّ استخدام العنف “لن يؤدّي إلّا إلى حلقة مفرغة”. ولفتت الصين في تصريحات للناطق باسم وزارة خارجيّتها الجمعة على حلّ الدولتين لإنهاء النزاع. وأدّى عدم ذكر الصين لـ”حماس” في إطار إدانتها للعنف إلى استياء غربيّ وإسرائيلي. السبب الجزئي لهذا الموقف بحسب البعض هو أنّ الانحياز إلى الدول العربيّة يعطي الصين مصلحة أكبر في مجلس الأمن والحسابات الاقتصاديّة، بالمقارنة مع الانحياز إلى إسرائيل. لكنّ ذلك لا يلغي واقع أنّ المطالبة بدولة فلسطينيّة مستقلّة هو سياسة صينيّة عمرها عقود بصرف النظر عن حسابات كهذه.

نهاية الطموح؟

في المستقبل المنظور، قد لا يتطلّع أصحاب المصلحة كثيراً إلى أيّ خرق سياسيّ صينيّ في الصراع الحاليّ. يقول الرئيس التنفيذيّ لمركز آسيا – الولايات المتحدة في “جامعة أستراليا الغربيّة” غوردون فلَيك إنّ الصين “لا تملك بعد القوّة الصلبة في تلك المنطقة، وبالتالي لا يلتفت أحد إلى الصينيّين لكيفيّة حلّ مشكلاتهم”. لا ينفي ذلك أنّ الصين قد لا تكون مهتمّة بالتدخّل في النزاع.

يعتقد الكاتب السياسيّ في صحيفة “ساوث تشاينا مورنينغ بوست” أليكس لو أنّ السياسة الصينيّة منطقيّة بالنسبة إلى المنطقة، لكنّ الكراهية والتعصّب الديني والقومي يجعلان صوتها غير مسموع إن لم يكن مثار ضحك لدى المتنازعين. ويضيف أنّ الصراع الحاليّ قد ينهي طموح بكين كي تكون قوّة وسيطة كبيرة في المنطقة، “لكن على الأرجح للأفضل”، لأنّ الشرق الأوسط يغرق القوى العظمى في وُحوله، ما يمنح بكين الفرصة لالتقاط أنفاسها قبل جولة مستقبليّة من الصراع مع واشنطن.

لكنّ نقاطاً سلبيّة لا تزال حاضرة

إنّ الامتناع عن التدخّل الدبلوماسي النشط في المنطقة قد يضرّ بمصالح صينيّة في فترات لاحقة. من جهة، يمكن أن يعني هذا أنّ الأميركيّين سيتمتّعون بنفوذ أكبر داخل إسرائيل لتحديد سياساتها وعلاقاتها مع الصين. من جهة أخرى، يراقب “الجنوب العالميّ” قدرات الصين على تحدّي الولايات المتحدة في مناطق عدّة من العالم، ربّما يكون الشرق الأوسط أبرزها حالياً. في تحليل غير بعيد من هذه الزاوية، وبحسب تعبير مدير الاستراتيجيا في شركة “أركو أدفايس” للشؤون العامّة في أميركا اللاتينيّة ثياغو دي أراغو، “سيصبح من الواضح أنّ الصين تعرف كيف تلعب لعبة في أوقات السلام، لكن ليس في أوقات الحرب”.

ربّما تراهن الصين على أنّ الولايات المتحدة لن تكسب كثيراً من دعم إسرائيل، هذا إن لم يرتدّ هذا الدعم عليها إذا طالت الحرب من دون أن يحقّق الإسرائيليّون أهدافهم في قطاع غزّة. في هذا الوقت، تسلّط بكين الضوء على أهدافها التنمويّة العالميّة. في افتتاحيّتها منذ يومين، كتبت صحيفة “غلوبال تايمز” الصينيّة أنّه “بينما تؤجّج الولايات المتحدة نيران الحرب، تصدّر الصين السلام والتنمية عبر مبادرة الحزام والطريق”. وأضافت: “كقوة للتنمية المشتركة ومرساة استقرار للسلام العالميّ، تتحمّل الصين مسؤوليّات قوّة ناشئة في هذه الحقبة من الانتقال بين القديم والجديد”.

تبقى معرفة ما إذا كان هذا الانتقال يمكن أن يتمّ من دون دبلوماسيّة صينيّة أكثر نشاطاً في الشرق الأوسط.