للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة، منذ سيطرة “حماس” على قطاع غزّة وتحويله إلى “إمارة إسلاميّة” على طريقة “طالبان” في أفغانستان، تصدر عن رئيس السلطة الفلسطينية جملة مفيدة ما لبث، للأسف، أن تراجع عنها. قال محمود عبّاس (أبو مازن) في اليوم التاسع من الحرب الدائرة بين “حماس” وإسرائيل، إنّ “سياسات حماس وأفعالها لا تمثل الشعب الفلسطيني”. ووصف في اتصال هاتفي مع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، منظمة التحرير الفلسطينية، بأنّها “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”. قال أيضاً: “أرفض قتل المدنيين من الجانبين، وأدعو الى إطلاق سراح المدنيين والأسرى والمعتقلين من الجانبين”.
ما لبثت وكالة “وفا” التابعة للسلطة الوطنيّة أن حذفت كلمة “حماس” من الخبر الذي وزعته. لكن، بغض النظر عن حذف كلمة “حماس” أو عدم حذفها، يختزل كلام رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وإن جاء متأخّراً، الواقع القائم في المنطقة. يريد “أبو مازن” التصالح مع هذا الواقع، كونه يعلم جيداً أن لا مستقبل لـ”حماس”، بغضّ النظر عن احتجازها نحو 200 أسير إسرائيلي وربّما أكثر. لا مستقبل لطرف فلسطيني لا يمتلك مشروعاً وطنياً قابلاً للتحقيق، مهما بلغت قوته ومهما بلغت درجة ارتباطه بـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران.
السؤال في النهاية، هل يمكن إزالة إسرائيل من الوجود أم لا؟ هل مسموح بذلك، في ظلّ المعطيات الدوليّة أم لا؟ لا بدّ من التذكير دائماً بأنّ الولايات المتحدة وأوروبا ترفضان زوال إسرائيل، كذلك روسيا التي لم تتردّد يوماً في دعم الدولة العبريّة. كلّ ما أرادته روسيا منذ أيام الاتحاد السوفياتي هو استخدام الصراع العربي – الإسرائيلي لتكريس الجمود السياسي من جهة، وإيجاد موطئ قدم في الشرق الأوسط من جهة أخرى.
في ظلّ الوضع القائم في المنطقة، لا مفرّ من إيجاد صوت فلسطيني عاقل ولو بالقوّة، أقلّه لتمرير المرحلة الراهنة، وهي مرحلة انتقالية قبل أي شيء آخر. يفترض بـ”أبو مازن” تمثيل هذا الصوت العاقل، في وقت تبدو الإدارة الأميركية مقتنعة أكثر من أي وقت، بأنّ لا مفرّ من قيام دولة فلسطينية. من الواضح أنّ مثل هذه الدولة الفلسطينية لا يمكن أن تقوم إلّا بعيداً من بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي من جهة، والقيادة الفلسطينية الحالية واستمرار وجود “حماس” من جهة أخرى.
ترتسم منذ الآن الخطوط العريضة لمستقبل أرض فلسطين، خصوصاً بعدما أعلن الرئيس جو بايدن تأييده لقيام دولة فلسطينية. ترافق ذلك مع تحذير أميركي واضح لإيران. دعا الرئيس الأميركي “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى الابتعاد عن التصعيد. كيف ذلك فيما تعتبر إيران أنّها باتت تمتلك الورقة الفلسطينية، وأنّها صاحبة قرار الحرب والسلم في المنطقة كلّها وليس في غزّة ولبنان فقط. تؤكّد ذلك تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان وجولته في المنطقة. تصرّف الوزير الإيراني، الذي وضع شروطاً لتفادي أي تصعيد، حماية مصالح “الجمهوريّة الإسلاميّة” قبل أي شيء آخر. ما لم يقله صراحة إنّ مصالح إيران تكمن في الاعتراف الأميركي بأنّها القوة المهيمنة في الشرق الأوسط والخليج. ما لم يقله أيضاً إنّ على أميركا التفاوض مع إيران في كلّ شأن يهمّ المنطقة.
الأكيد أنّ لدى “أبو مازن” حسابات خاصة به جعلته يتفادى إدانة “حماس” بعدما أدانها. يعتبر رئيس السلطة الوطنيّة أنّ مثل هذا النوع من اللعب على الكلام يفيده سياسياً، خصوصاً بعدما عاود الرئيس الأميركي الاتصال به، وبعدما التقى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في عمّان. يتجاهل “أبو مازن” أنّ مستقبله السياسي صار خلفه، وأنّ فلسطين في حاجة إلى عقل سياسي مختلف كلّياً عن عقله. يصلح وجود سلطة وطنيّة لتمرير المرحلة الراهنة فقط. وهي مرحلة بالغة الخطورة والدقّة.
لا شكّ في أنّ إسرائيل ترتكب حالياً جرائم في حقّ الإنسانيّة، بل ترتكب مجزرة في حق شعب فلسطين، خصوصاً أنّ هدفها تهجير أهل غزّة. لكن ذلك لا يبرّر الموقف المائع لرئيس السلطة الوطنيّة الذي يعرف قبل غيره أنّ قضية فلسطين، هي قضية شعب محروم من أبسط حقوقه أوّلاً. ما يُفترض بمحمود عباس إدراكه أنّ الوضع الفلسطيني ما كان ليصل إلى ما وصل إليه لولا الحلف غير المعلن بين تطرّفين. تطرّف اليمين الإسرائيلي وتطرّف الإسلام السياسي ممثلاً بـ”حماس”. لا فائدة من تفادي تسمية الأشياء بأسمائها في مرحلة ستمهّد لأحداث كبيرة، وفي عالم يعي تماماً أنّ الخروج من العنف لا يكون سوى بتغييرين جذريين في إسرائيل وفلسطين، تمهيداً لقيام دولة فلسطينية…