من الممكن القول أن الجهود السياسية والدبلوماسية التي قادها الشرع بنفسه خلال أسفاره ولقاءاته مع دبلوماسيين غربيين، وزيارات وزير خارجيته الشيباني لأكثر من بلد أوروبي كانت قد أنتجت ثماراً معقولة جداً من ناحية بدء القبول الغربي، الأوروبي تحديداً، للإدارة السورية الجديدة والتفكير بالانخراط معها بشراكة معقولة.
الموقف الأميركي كان متردداً لأسباب كثيرة، ليس أولها أن الملف السوري لا يشكل أولوية حقيقة لإدارة ترامب، والاهتمام بالموقف والوضع الإسرائيلي أكبر، وصولاً للتردد الحاصل بسبب خلفية الشرع وفريقه وتاريخ هيئة تحرير الشام. غير أن الأميركيين سارعوا للحديث مع الشرع منذ ديسمبر وقدمت باربرا ليف مجموعة من المطالب الأميركية كرست بنود لقاء العقبة.
ثم وقعت أحداث الساحل السوري وما رافقها من إنتشار الأخبار والصور والفيديوهات عن الإنتهاكات التي اقترفتها القوات المشاركة في الهجوم على قرى وبلدات في الساحل السوري.
بموضوعية، يمكن القول أن الفصائل المشاركة سببت ضرراً جسيماً لأحمد الشرع أكثر بكثير مما قد سببته للعلويين أنفسهم. الشرع وفريقه هم المتضرر الأكبر مما حصل على يد القوات الحكومية والفصائل المتحالفة معها.
“لقد أعادت أحداث الساحل الوقت للوراء، ربما عامين للخلف، بعد التقدم الذي أحرزناه على مدى ثلاثة أشهر”. تعليق من شخصية دبلوماسية أميركية حول موقف الولايات المتحدة اليوم ورؤيتها لما يحصل أو قد يحصل في سوريا.
تشير التفاصيل إلى أن إنقساماً أميركياً حول الشرع وإدارته كان قد بدأ بالظهور والنمو فعلاً. من جهة، ترغب وزارة الخارجية الأميركية بشكل واضح بالانخراط بحوار سياسي مع الشرع. تشجعها أصوات كثيرة على رأسها المملكة العربية السعودية. مع دعوات لتعيين مبعوث أميركي خاص لسوريا يتواصل مع الإدارة السورية بشكل مباشر.
تقف وزارة الدفاع على مسافة أبعد قليلاً من الخارجية، فرغبتها بالتعاون مع الشرع وفريقه عملياتية للغاية، ضمان اندماج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد وضمان إنسحاب أميركي لائق في حال قرر الرئيس ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا. وبالطبع، تعاون محدود لضمان عدم عودة تنظيم داعش إلى الظهور في حال انسحاب القوات الأميركية. دعمت وزارة الدفاع توقيع الاتفاق بين الشرع ومظلوم عبدي خلال ذروة العنف في الساحل في محاولة لإنقاذ الوضع ومساعدة الشرع في تهدئة الشارع السوري. نقلت مروحية أميركية مظلوم عبدي إلى مطار الضمير قرب دمشق للقاء الشرع وتوقيع الاتفاق.
الموقف المتشدد الأكثر ضد الشرع يكمن في فريق ترامب المصغّر في مكتب الأمن القومي الأميركي. مقاربة هذا الفريق لسوريا هي “مكافحة إرهاب” بحتة، لا أكثر ولا أقل. يلعب مدير مكتب مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي سيبستيان غوركا دوراً مباشراً في ترجيح مقاربة “مكافحة الإرهاب” بالنسبة لسوريا. يعزز ثقل هذا الفريق وصوته مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد المتشددة بكراهية التنظيمات الإسلامية عموماً وتنظيمات المعارضة السورية خصوصاً.
بعد أحداث الساحل، صاغت وزارة الخارجية الأميركية بياناً علنياً متوازناً ومعقولاً لحد كبير، يدين العنف الطائفي ويتحدث عن أعمال اقتتال طائفية ويدعو جميع الأطراف لوقت القتال وضبط النفس. أرسل وزير الخارجية روبيو البيان للبيت الأبيض للموافقة عليه، عاد البيان إلى وزير الخارجية مع عبارات قاسية: “تندد الولايات المتحدة بإرهابيين إسلاميين متطرفين من بينهم متشددون أجانب قتلوا أشخاصا في غرب سوريا في الأيام القليلة الماضية”. “يجب على السلطات المؤقتة في سوريا أن تحاسب مرتكبي هذه المجازر ضد المجتمعات الأقلية في سوريا”. التزم وزير الخارجية بتعديلات البيت الأبيض وأصدر البيان كما ورده.
رجحت أحداث الساحل بشكل كبير مقاربة “مكافحة الإرهاب” الأميركية وأضعفت موقف وزارة الخارجية ومقاربتها بـ “الانخراط” بحوار سياسي مع الإدارة السورية الجديدة، على الأقل حتى الآن طالما أن سياسة الولايات المتحدة حيال سوريا لا تزال قيد الإنجاز.
يستند فريق مكتب الأمن القومي الأميركي في معلوماته عما حصل في الساحل إلى معلومات تصله من “الكنائس”، التي زودت الإدارة الأميركية بمعلومات حول استهداف المسيحيين والأقليات وتصفيتهم في سوريا. على الأرجح هذه الأصوات هي أصوات كنائس أميركية تحركت على وقع الأخبار القادمة من سوريا بخصوص استهدف الأقليات، عززها نشر إيلون ماسك لتغريدة يتساءل فيها عن عدد المسيحيين الذين سقطوا في سوريا. وعلى الرغم من نفي عشرات الأطراف هذه المعلومات وتقديم معلومات صحيحة ودقيقة عن أن الضحايا كانوا بالغالبية العظمى من العلويين وأن عدداً ضئيلاً جداً من المسيحيين قد سقط، يسود مناخ مناهض للحقيقة في فريق ترامب الأمني حيال ما حصل في سوريا. هذه الرواية انتشرت في واشنطن انتشاراً سريعاً، ما دفع رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي السيناتور جيم ريش التعليق على أحداث الساحل بأن “المجرزة بحق علويين ومسيحيين عُزّل مروعة. إنها تذكرنا بضرورة سلوك الولايات المتحدة الحذر في التعامل مع الملف السوري”.
الانقسام الأميركي حيال الملف السوري في واشنطن برز في مجموعة من المواقف المتباينة أو المتعارضة في واشنطن حيال سوريا في ذات اليوم (أمس الجمعة). شخصيات قيادية في الكونغرس تطالب بتخفيف العقوبات الاقتصادية، لا سيما العقوبات القطاعية. فيما ترى الخارجية الأمريكية أن “السلطة أصبحت متركزة بيد شخص واحد وهذا غير صحي” وأنها تراقب الوضع ولن تعمل على رفع العقوبات قريباً. والموقف الثالث المفاجئ والأخطر هو كلام سيتف ويتكوف، مبعوث الرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط حول إمكانية التطبيع الإسرائيلي مع لبنان وسوريا. (الموقف الأخير خطير للغاية ويهدد بسيناريو محاصرة سوريا والشرع للتطبيع مع الإسرائليين مقابل الاعتراف به ودعمه اقتصادياً).
لم تحسم الإدارة الأميركية سياستها حيال سوريا بعد. قررت وزارة الخارجية الأميركية إرسال بعثة ثانية إلى سوريا للقاء الشرع في منتصف نيسان المقبل، من المرجح أن تقودها نائب معاون وزير الخارجية، ناتاشا فرانشيسكا، للحديث مع الشرع حول المخاوف والمطالب الأميركية، والتي لا تزال تتلخص بمطالب بنود العقبة، مضافاُ إليها ملف الساحل والإعلان الدستوري الذي وصفته وزارة الخارجية بأنه يمركز السلطة بيد شخص واحد. التوافق الوحيد بين جميع أركان إدارة ترامب حول سوريا هي ضرورة رؤية تغيير حقيقي في سوريا في طبيعة السلطة الجديدة، لا يكرر سلوك النظام السابق بمركزة السلطة واستخدام العنف ويشرك باقي الأطراف السورية في العملية السياسية مما سيسهل الحل للاستعصاء الحاصل الآن ويسهل الانسحاب الأميركي من سوريا ويشجع واشنطن على رفع عقوباتها عن سوريا.
نجح الشرع بامتصاص الضربة المؤذية التي سببتها له قواته والفصائل المتحالفة معها في الساحل عبر الإعتراف العلني بالانتهاكات وإدانتها وتشكيل لجنة تقصي الحقائق، لكن هذا الملف لن يختف سريعاً من قائمة المطالب الأميركية، بعد أن أعاد عقارب الساعة الأميركية اتجاه الشرع للبداية!