مع استمرار حربي أوكرانيا وغزة، تدور معركة أخرى في الأروقة الأميركية بشأن أي دولة ينبغي أن تتلقى أموال المساعدات المالية والعسكرية.
في الأشهر الأخيرة، أعرب الجمهوريون في الكونغرس عن شكوكهم المتزايدة حيال الموافقة على صرف المزيد من الأموال لحكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تسعى قواته لصد غزو روسي واسع النطاق.
لكن هذه المعارضة تنامت منذ بداية الحرب بين إسرائيل و”حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، إذ اعتبر بعض الجمهوريين أن المساعدات المقدّمة يجب أن تكون إما لإسرائيل أو لأوكرانيا.
وكتب السيناتور الجمهوري جوش هاولي على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد يومين من بدء الحرب: “تواجه إسرائيل تهديداً وجودياً. يجب إعادة توجيه أي تمويل لأوكرانيا إلى إسرائيل على الفور”.
ويقول الخبراء إن النهج المتباين، مع الدعم الجمهوري الأقوى لمساعدة إسرائيل مقارنة بأوكرانيا، يشير إلى القوة المتنامية للجناح اليميني المتشدد للحزب.
تأثير ترامب المستمر

وقال نائب مديرة “مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط” مهند الحاج علي لـ”النهار العربي”: “في الحزب الجمهوري، يتجه المنحى العام حالياً نحو اليمين، الأقرب للرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يتحدث دورياً عن علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقدرته على انهاء الحرب”، مضيفاً أنّ “هذا الخيار هو الأقرب للكتلة الكبرى من ناخبي الحزب الجمهوري”.
ولفت الحاج علي إلى أنّ اليمين المتشدد من الحزب الجمهوري يتمتع بسمتين أساسيتين، الأولى هي “تجنّب الانخراط في مواجهات خارجية”، أي عزل الولايات المتحدة وتجنب الصراعات الطويلة مثل أوكرانيا، أما الثانية فترتكز على “علاقة دينيّة وعاطفيّة بإسرائيل” ما يجعل دعمها أسهل مقارنة بأوكرانيا.
وأضاف: “ثمة إرهاق من حرب أوكرانيا، وما يحدث في الحزب الجمهوري ينسحب أيضاً على أوروبا حيث يرتفع منسوب النقد لحكومة كييف”، وخصوصاً بعد فشل الهجوم المضاد.
بدأت الانعزالية تعود إذاً، وشهدت السنوات الأخيرة ابتعاد شريحة متزايدة من الحزب الجمهوري عن سياسة خارجية إمبريالية وتدخلية بشكل علني إلى سياسة خارجية أكثر انعزالية.
ومع ذلك، فإنّ الميول المسيحية القوية في الحزب الجمهوري تسمح بتبني طلبات المساعدة لإسرائيل بسهولة أكبر. ويرجع استثناء إسرائيل إلى حد كبير  للتأثير القوي للمسيحيين الأصوليين الذين يعتقدون أنّ “دولة إسرائيل الحديثة هي مظهر من مظاهر إسرائيل الكتابية وبالتالي فهي في صالح الله”.
ويعد ترامب حالياً المرشح الجمهوري الأوفر حظاً في السباق الرئاسي لعام 2024، في مواجهة المرشح الديموقراطي الرئيس جو بايدن، وقد دافع خلال فترة وجوده في منصبه عن سياسة خارجية تحت عنوان “أميركا أولاً”، والتي نتج عنها انسحاب الولايات المتحدة من بعض الاتفاقيات الدولية لصالح مواقف أكثر انعزالية.
اضطرابات داخل الحزب الجمهوري
ويأتي الخلاف بشأن المساعدات الخارجية وسط اضطرابات داخل الحزب الجمهوري، الذي كافح قبل شهرين لانتخاب رئيس جديد لقيادة مجلس النواب. فبعد أسابيع من الاقتتال الداخلي، فاز المحافظ الديني مايك جونسون أخيراً بالمنصب في 25 تشرين الأول (أكتوبر)، في انتصار واضح للمصالح المتشددة والإنجيلية.
كانت إحدى الخطوات الأولى التي اتخذها جونسون هي تقديم مشروع قانون يتضمن ما يقرب من 14.5 مليار دولار لدعم إسرائيل، ولكن صفر مساعدات لأوكرانيا. وقد مر القانون في مجلس النواب – الذي يسيطر عليه الجمهوريون – بأغلبية 226 صوتاً مقابل 196، ليتم إيقافه في مجلس الشيوخ الذي يقوده الديموقراطيون.
وفي هذا الصدد، نوّه الكاتب السياسي سام منسّى، في حديث لـ”النهار العربي”، إلى أنّ الانقسام داخل الحزب الجمهوري هو انقسام على أكثر من موضوع: “كان ثمة انقسام على انتخاب رئيس لمجلس النواب، وانقسام على شخص ترامب”.
وأضاف: “يمرّ الحزب الجمهوري في مشكلة تشبه ما يمرّ به الحزب الديموقراطي، بين التيار الرئيسي في الحزب والتيار اليساري الذي يشهد حركة شبابية وحركة سود (حياة السود مهمة) وحركات أخرى ناشطة داخله تغيّر جزءاً من طبيعته”.
لكنّ منسى رأى أنّه “ليس صحيحاً ما يتم تداوله بأنّ المساعدات لأوكرانيا غير مرحب بها بالكامل داخل الحزب الجمهوري”، واضعاً المعارضة في الحزب الجمهوري لمساعدة كييف في خانة “حشر بايدن” في مرحلة استمالة الشباب وكسب ناخبين خلال الحملات الانتخابية.
وتابع: “موقف الجمهوريين أكثر تشدداً مع روسيا وداعمٌ أكثر لأوكرانيا وحرّيتها. هذه الشعارات هي بالأساس جمهورية. ولكن ترامب خربطها على مستوى سياساته الشخصية لتماهيه أحياناً مع زعماء مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جينبينغ”.
تأثير الحرب
مع ذلك، لا تزال المساعدات المقدمة لأوكرانيا تحظى بمؤيدين بارزين في الحزب الجمهوري، بما في ذلك زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، الذي دعا إلى جمع المساعدات العسكرية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان معاً، إلى جانب زيادة الأموال المخصصة لأمن الحدود الأميركية.
وخلال مؤتمر صحافي في 31 تشرين الأول (أكتوبر)، قال ماكونيل: “إننا ننظر إلى كل هذه المشكلات على أنها مترابطة”.
لكن وجهات نظر الولايات المتحدة بشكل عام تتحول في ما ينعلق بالحرب في أوكرانيا، مع تراجع الناخبين الجمهوريين بشكل خاص عن دعمهم الأولي للبلد المحاصر.
وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غالوب” في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) أن 41% من الأميركيين يعتقدون أن بلادهم “تفعل الكثير” لمساعدة أوكرانيا، مقارنة بـ29% في حزيران (يونيو) الماضي. وهذا الاعتقاد هو الأكثر شيوعا بين الجمهوريين، إذ وافق 62% منهم على هذا الموضوع. وأشار بعض الخبراء إلى الشعور بـ”الإرهاق” من الحرب بين الجمهور الأميركي. فالحرب في أوكرانيا امتدت لعدة أشهر منذ بدايتها في شباط (فبراير) 2022، ووصلت إلى طريق مسدود على ما يبدو.
بالمقابل، فإنّ الحرب بين إسرائيل و”حماس” حديثة، وقد اندلعت في السابع من تشرين الأول بهجوم مفاجئ شنته حركة “حماس” الفلسطينية، ولا تزال مستمرة منذ ذلك الوقت.
وجزء من المشكلة هو أنّ الصراعات الأحدث ستحظى باهتمام أكبر من الصراعات الجارية. والجزء الآخر هو أن حرب غزة أكثر عنفاً. لقد قتلت إسرائيل من المدنيين الفلسطينيين خلال الشهر الماضي عدداً أكبر بكثير مما قتلته روسيا من المدنيين الأوكرانيين خلال العشرين شهراً الماضية.
وتلعب إسرائيل دوراً مهماً في تعزيز المصالح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، ما يجعل دعم البلاد أكثر إلحاحاً.
وفي هذا الصدد، يشار إلى أنّ زيلينسكي بنفسه كان قد أعلن أنّ الصراع بين إسرائيل وغزة يبعد التركيز عن أوكرانيا، معتبراً أنّ هذا كان “أحد أهداف” روسيا، بحسب ما نقلت عنه شبكة “بي بي سي” البريطانية.
ويتبنى الأستاذ في العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية خالد العزي هذا الرأي، إذ يقول إنّ “روسيا كانت معنية بأن تشتعل جبهة الشرق الأوسط لثلاثة أهداف:
1- الاستفادة من عودة حركتها الدبلوماسية وكي يكون لها دور من خلال “حماس” وإيران.
2- كي تقول للعالم إن موضوع أوكرانيا انتهى.
3- رهانها على الاستفادة من ارتفاع سعر النفط بسبب ما يحدث في الشرق الأوسط والبحر الأحمر، لتمويل الحرب في أوكرانيا”.
الاستقطاب السياسي
ومع تراجع الدعم الجمهوري لأوكرانيا، قاد الديموقراطيون إلى حد كبير الجهود الرامية إلى تجميع المساعدات للبلدين معاً.
وفي تشرين الأول)، دعا بايدن الكونغرس إلى الموافقة على طلب تمويل إضافي بقيمة 105 مليارات دولار، يشمل 61.4 مليار دولار لأوكرانيا و14.3 مليار دولار لإسرائيل.
وفي هذا الاطار، لفت العزي، في حديث لـ”النهار العربي”، إلى وجود “قطبة مخفية مررتها إدارة بايدن بعملية الموازنة، وهي أن يسير قرار مالي يدعم إسرائيل وأوكرانيا معاً. وعند العودة الى مجلس النواب، لا أحد يستطيع فصل هذه المساعدات لأنها ضمن موازنة واحدة لدولتين مختلفتين”.
علاوة على ذلك، فإن السباق الرئاسي لعام 2024 يحتدم، إذ تظهر استطلاعات الرأي تنافساً حاداً بين بايدن وترامب.
ومن المرجح أن تكون المساعدات الخارجية إحدى نقاط التوتر العديدة، ورأى العزي أنّ “الخلاف بالأساس قائم من أجل كسب أصوات الناخبين” في الولايات المتحدة.
وهذا ما ألقى مهند الحاج علي أيضاً الضوء عليه، قائلاً: “سيشهد العام المقبل انتخابات وهذا يدفع بالجمهوريين لعرقلة أي اقتراحات ديموقراطية تمهيداً للعملية الاقتراعية والحملات الانتخابية”.