axel Garcia

منذ السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بات  يحيى السنوار ر، رئيس المكتب السياسي لـ “حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) في قطاع غزة، المطلوب رقم واحد لإسرائيل التي قالت إنه العقل المدبر لتلك الهجمات الدامية، التي أسفرت عن مئات القتلى والأسرى، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الى وصف السنوار بانه “رجل ميت يمشي” في إشارة إلى أن اغتياله، مسألة وقت فحسب.

قيل الكثير عن هذا القيادي النحيل ذي الشعر الأبيض، واللحية الخفيفة البيضاء، والحاجبين الأسودين، والذي يبلغ 61 عاما، فقد ولد في مخيم خان يونس للاجئين بغزة عام 1962، وهو ينحدر من عائلة كانت تعيش في عسقلان قبل تهجيرها إبان نكبة 1948، وتلقى السنوار تعليمه في مدارس المخيم حتى أنهى دراسته الثانوية، ليلتحق بالجامعة الإسلامية في غزة لإكمال تعليمه الجامعي، ويحصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية.

قضى السنوار معظم سنوات شبابه في السجون الاسرائيلية، ففي عام 1982 أُلقي القبض عليه ووضع رهن الاعتقال الإداري لمدة أربعة أشهر بتهمة الانخراط في “أنشطة تخريبية”، لكن التحول في حياة السنوار جاء في عام 1988، حين قضت محكمة إسرائيلية على السنوار بالسجن مدى الحياة أربع مرّات (مدة 426 عاما)، قضى منها 24 عاما في السجون الإسرائيلية، قبل أن يطلق سراحه في صفقة لتبادل الأسرى عام 2011 وشملت، آنذاك، إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الذي كانت حماس قد أسرته في العام 2006.

واللافت أن إسرائيل، التي فاوضت على الصفقة مع “حماس”، وكان السنوار السجين هو صلة الوصل مع قيادات الحركة لإتمام الصفقة، لم تكن تعارض أن تشمل الصفقة السنوار الذي كان قد ظهر خلال سجنه في حوار مع قناة إسرائيلية يتحدث بالعبرية بطلاقة، وبدا مرنا في أجوبته، وهو ما رأت فيه تل أبيب أن سنوات السجن قد نجحت في ترويض السنوار، وإن الإفراج عنه لن يشكل “صداعا في الرأس” لها. وذهبت تحليلات بعد السابع من اكتوبر إلى أن السنوار نجح في “خداع” إسرائيل، إذ تحول من سجين مسالم وطيع، إلى قيادي “شرس” يقض مضجع الدولة العبرية، فبعد الإفراج عنه، سرعان ما أصبح قياديا في “كتائب عز الدين القسام”، الذراع العسكرية لحركة “حماس”، فهو من أعضاء “الحركة الاوائل وكان قد أسهم في تشكيل جهاز أمنها الخاص المعروف اختصارا بـ “مجد”.

استفاد السنوار، الذي أدرجته واشنطن في  2015 على لائحتها السوداء “للإرهابيين الدوليين”، من معرفته بالسجون الإسرائيلية، التي حصل عليها خلال السنوات الطويلة التي قضاها في زواياها، حيث تعلم العبرية وعرف ذهنية قادة إسرائيل وطريقة تفكيرهم، مما أعطاه نفوذا بين القيادات العسكرية في الحركة، وهو ما تجسد فعليا في عام 2017، حين انتُخب رئيسا للمكتب السياسي للحركة في قطاع غزة، خلفا لاسماعيل هنية.

الشوك والقرنفل

ما تغفله التقارير عن سيرة هذا الرجل، هو أنه صاحب نص أدبي عنوانه “الشوك والقرنفل” كان قد شرع في كتابته خلال فترة احتجازه في سجن بئر السبع الإسرائيلي، وأنهاه في العام 2004، أي قبل نحو سبع سنوات من إطلاق سراحه، وفي ذات العام كان قد خضع، وهو سجين، لعملية جراحية “دقيقة” في المخ، وربما كان ذلك سببا في التوقف عن الكتابة.

ورغم أن القراءات نعتت النص بـ”الرواية”، غير أن هذا التصنيف يبدو مبالغا فيه، ذلك أن النص يفتقر إلى مقومات الرواية وشروطها من حبكة فنية وتطور للشخصيات، وطريقة السرد، ناهيك عن أن النص لا يأبه كثيرا بالبلاغة اللغوية والجمالية، وهي كذلك إحدى مقومات الرواية، رغم أنه مكتوب باللغة العربية الفصحى المخففة، مع بعض العبارات والتعابير باللهجة العامية الفلسطينية.

تبعا لذلك، فإن هذا النص هو أقرب إلى “السيرة الذاتية” غير الموثقة أو المذكرات أو الاعترافات، خطه قلم سجين كان يملك فائضا من الوقت، تماما كأولئك السجناء الذين يزجون الوقت بصنع أشكال من الخرز، مثلا، لكن السنوار اختار الكتابة سبيلا إلى تحمل وطأة السجن وأيامه الطويلة التي انعكست سلبا على بنية النص الذي جاء سائبا ومسترسلا بلا ضوابط أو قيود، مع الكثير من التكرار والجمل النافلة العادية،  ويمكن اختصار هذا النص المكون من 340 صفحة إلى النصف، وذلك لن يغير من مضمونه شيئا، بل سيزيد في تماسكه وجماليته، ولا يخلو النص كذلك من بعض الأخطاء الطباعية ومن بعض التراكيب اللغوية الملتبسة.

وبمعزل عن الجوانب الفنية والجمالية لهذا النص، ما الذي يمكن أن نعثر عليه بين سطوره حول شخصية كاتبه السنوار؟

يمكن، بسهولة، تبين ذلك التشابه بين سيرة بطل الرواية والراوي بضمير المتكلم أحمد في هذا النص، وبين سيرة السنوار نفسه، بل أن هذا التشابه لا يقتصر على السنوار فقط، فما عاشه وعايشه أحمد، بطل “الشوك والقرنفل”، يكاد يتقاطع مع سيرة جيل كامل من الفلسطينيين من مجايلي السنوار ممن ولدوا مطلع الستينات، وعاشوا في المخيمات بعد أن هجرت عائلاتهم من أراضيها وقراها وبلداتها، خلال النكبة، فتوزع أفرادها في المخيمات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، فضلا عن مخيمات في دول الجوار كلبنان والأردن وسوريا. وهو ما يشير إليه السنوار في استهلاله لهذا العمل، إذ يقول “هذه ليست قصتي الشخصية وليست قصة شخص بعينه، رغم أن كل أحداثها حقيقية، كل حدث منها أو كل مجموعة أحداث تخص هذا الفلسطيني أو ذاك. الخيال في هذا العمل فقط في تحويله إلى رواية تدور حول أشخاص محددين ليتحقق لها شكل العمل الروائي وشروطه، وكل ما سوى ذلك حقيقي، عشته وكثير منه سمعته من أفواه من عاشوه على مدار عشرات السنوات على أرض فلسطين الحبيبة”، وهو يهدي العمل إلى “من تعلقت أفئدتهم بأرض الإسراء والمعراج من المحيط إلى الخليج، بل من المحيط إلى المحيط”.

شقاء المخيمات

بطل هذا النص عاش في مخيم الشاطئ بقطاع غزة، وتفتح وعيه على الدنيا مع نكسة يونيو/ حزيران 1967 ، وهو التاريخ الذي يبدأ به هذا النص ليشرع في تقديم عرض كرونولوجي واف عن تطورات القضية الفلسطينية وتحولاتها وانعطافاتها وتشعباتها ومحطاتها البارزة، من “أيلول الأسود” إلى حرب أكتوبر، فالحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان ومجازر صبرا وشاتيلا، وزيارة الرئيس المصري محمد أنور السادات لإسرائيل، وصولا إلى الانتفاضة الأولى (1987 ـ-1993) واتفاقات اوسلو (1993) ومقتل إسحق رابين وحتى بدايات الانتفاضة الثانية (2000 -2005) التي تشكل خاتمة النص.

لا يتعمق الكاتب كثيرا في تحليل هذه الأحداث وقراءتها، بقدر ما يرصد تداعياتها وتأثيراتها على مخيم الشاطئ حيث كان يعيش الطفل أحمد وسط أسرة مؤلفة من ثلاثة أطفال وبنتين هو أصغرهم. يسكنون دارا بسيطة في المخيم، ولعل ما يذكره الطفل وهو في الخامسة من عمره، يختزل تاريخا طويلا من المعاناة، إذ يدون في الصفحة الأولى: “مرارا وتكرارا تدفقت مياه سيول الشتاء إلى ساحة دارنا الصغيرة ثم تدفقت إلى  داخل هذه الدار التي تسكنها عائلتنا منذ بدأ الحال يستقر بعد أن هاجرت من بلدة الفلوجة في الأراضي المحتلة عام 1948 وفي كل مرة يدب الفزع بي وباخواني الثلاثة واختيّ، وخمستهم كانوا يكبرونني سنا، فيهب أبي وأمي إلينا ليرفعونا عن الارض ولترفع امي الفراش قبل ان تبلله المياه،.. مرات عديدة استيقظت ليلا على أيدي أمي تزيحني جانبا وتضع على فراشها الى جواري مباشرة طنجرة من الالمنيوم او صحنا من الفخار الكبير لتسقط فيه قطرات الماء، التي تتسرب من التشقق في سقف الكرميد ( هكذا مكتوب) الذي يغطي تلك الغرفة الصغيرة، طنجرة هنا، وصحن هناك، وإناء ثالث في مكان اخر. احاول في كل مرة النوم، فأفلح احيانا، ثم استيقظ على صوت قطرات الماء وهي ترتطم بما تجمع من مياه في ذلك الإناء، بصورة منتظمة ، وعندما يمتلئ الوعاء يصبح رذاذ الماء يتراشق عليه مع كل قطرة، فتهب أمي لتضع وعاء جديدا مكان الذي امتلأ وتخرج لتسكبه خارج الغرفة”.

هذا المقطع لا يعطي لمحة عن لغة الكاتب فحسب، وإنما يعكس حالة البساطة والفقر التي كانت تعيشها العائلة، كما كان الحال في أغلب المخيمات الفلسطينية التي بنيت على عجل، دون تنظيم أو تخطيط، وسط اكتظاط سكاني خانق وافتقار إلى أدنى مقومات العيش. ولم تكن عائلة أحمد استثناء، بل كانت تتقاسم شقاء الحياة مع بقية الفلسطينيين في الداخل والشتات.

ومما يشير كذلك إلى فقر الحال، هو الحديث المتكرر عن منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونرا) التي يرد ذكرها مرارا في النص، إذ كانت العائلة تتلقى منها المساعدات، فهي كانت الملجأ الوحيد بعد غياب الأب الذي اختفى إثر انخراطه في صفوف المقاومة مبكرا، ليصل إليهم لاحقا خبر وفاته في الأردن في ظروف لا يكشف النص ملابساتها، وكذلك مقتل عم بطل النص وتكفل والدته برعاية وتربية طفليه حسن وإبراهيم الذي تأثر بنشاط التيار الإسلامي حتى مقتله، أيضا، وكان بمثابة الأب الروحي لبطل الرواية، إلى جانب شيخ الجامع الذي كان يرتاده أحمد في طفولته وصباه في المخيم.

ومن المشاهد المؤثرة والمعبرة عما عانته أسرة أحمد من حرمان، هو حديثه عن زيارة لخاله الثري، تاجر النسيج، إلى منزلهم حيث جلب له ولأخوته ملابس جديدة، إذ يقول إنه شم للمرة الأولى رائحة الثياب الجديدة، فهم كانوا يعتمدون على ما تقدمه لهم “الأونروا” من ملابس مستعملة.

وسط هذه الظروف المعيشية الصعبة عاش أحمد، وما زاد من هذه المعاناة هو أن الاحتلال الإسرائيلي كان جاثما فوق الصدور، فقد كانت غزة محتلة إلى أن انسحبت منها إسرائيل في عام 2005، وكان الاحتلال يفاقم معاناة الغزاويين ومنهم أسرة أحمد، إذ يحفل النص بمفردات من قبيل: الاقتحامات، الأسلاك الشائكة، الحواجز، المداهمات، الاعتقالات، الغاز المسيل للدموع، الاضراب عن الطعام، المستوطنات، وغيرها من المفردات التي  تختزل جانبا من الصراع العربي الإسرائيلي الذي ما إن يهدأ قليلا حتى يعود أكثر عنفا وشراسة كما هو الوضع حاليا مما يتعرض له القطاع من قصف إسرائيلي مدمر، إثر هدنة قصيرة.

النص “العفيف”

النص الذي بين أيدينا يتميز بما يمكن تسميته بالعفة، وتطغى عليه نفحات دينية وروحانية،  وهو حافل باستشهادات من الأحاديث النبوية وسور من القرآن الكريم، ومن العبث أن تعثر بين سطوره على قصة مماثلة لقصة فيلم “غزة مونامور” مثلا.

ومثل هذه “الطهرانية” في الكتابة، إذ جاز التعبير، تعكس قناعات الكاتب الذي يتجنب أي حديث له علاقة بالشتائم والكلام البذيء أو بقصص الحب والغرام،  وحتى عند حديثه عن الفتيات فإن ثمة حذرا شديدا في التعبير، فأقصى ما يورده النص من غزل في وصف جمال فتاة ما، هو أنها تشبه القمر. وحين خفق قلب الفتى أحمد للمرة الأولى لفتاة حسناء، هي زميلته في جامعة غزة الإسلامية التي انتسب لها (الجامعة  نفسها التي درس فيها السنوار)، فسرعان ما يكبح أهواءه، انسجاما مع قناعته الراسخة بأن ثمة عشقا وحيدا، لا ينبغي أن يزاحمه أي عشق آخر، وهو عشق الوطن.

تبجيل الأم

يتحدث بطل النص، عبر فصوله الثلاثين، بكثير من التبجيل عن والدته التي قاست وعانت الكثير في غياب الأب، وكافحت وسط ظروف بائسة كي ترعى أبناءها وتوفر لهم معيشة معقولة وفرصة لمتابعة تعلميهم، كما ان هذه الام لم تكتف برعاية أبنائها فحسب، بل أظهرت حرصا مماثلا على رعاية حسن وإبراهيم، وهما طفلا زوج شقيقها، أي أبناء عم أحمد.

ثمة الكثير من عبارات التقدير والثناء لدور هذه الأم التي استطاعت بكل هشاشتها وحنانها أن تصمد في وجه العواصف والمصاعب بل والمصائب التي تشهدها المخيمات. وفي مقابل هذا التوقير للأم، فإن الأب يكاد أن يكون غائبا تماما عن النص مثلما كان غائبا فعليا عن يوميات الأسرة.

الحس الأمني.. و7 اكتوبر

من الواضح أن كاتب النص يتمتع بحس أمني رفيع، وبذهنية شديدة الحرص والحذر، وهو ما يتواءم مع سيرة السنوار نفسه الذي برز ضمن صفوف “حماس”، في البدايات، كأحد أشهر المناهضين لجواسيس وعملاء “الشاباك” الإسرائيلي وسط المخيمات، وقد سُجن السنوار، أصلا، لدوره في قتل ستة جواسيس كانوا يعملون لصالح الدولة العبرية.

النص يركز في الكثير من صفحاته على قصص هؤلاء العملاء والجواسيس، وكيفية التشويش على جهود إسرائيل في هذا المضمار، وكيفية تصفية العملاء بطرق لا تثير الريبة، والأساليب المعقدة لإسرائيل في تجنيدهم، وهو ما يذكرنا بفيلم “صالون هدى” لهاني ابو أسعد، الذي يستعرض طريقة الابتزاز لأم شابة من أجل تجنيدها لصالح إسرائيل.

 

وبالطبع لا يمكن فصل هذه الخبرة الواسعة في العمل الأمني والاستخباراتي، كما يظهر في النص، عما جرى في السابع من أكتوبر، والذي استلزم تخطيطا أمنيا دقيقا ومعقدا، والأرجح أن السنوار، بحنكته ودهائه، يقف وراءها، كما ذهبت التحليلات الإسرائيلية، إذ يمكن اعتبار تلك الهجمات، بمعنى ما، تتويجا لتاريخ طويل من مراكمة الخبرة والمران في العمل الاستخباري السري.

على المستوى السياسي، وبعد أن نتقدم في صفحات النص سنعرف أن أحمد يعارض بشده اتفاقيات أوسلو، وهو لا يؤمن بسياسات “فتح” المرنة، لكن من دون أن يهاجمها، بل هو في طفولته كان من المعجبين بشخصية الزعيم ياسر عرفات، وهو لا يؤمن كذلك بحل الدولتين، ووفق منطقه، كيف للفلسطينيين أن يفرّطوا بنحو ثلاثة أرباع الأرض التاريخية لهم في مقابل دولة هزيلة في قطاع غزة والضفة، ويظهر كذلك في النص ذلك النفس الإسلامي الذي يخلط بين اليهود وبين الإسرائيليين، فالبطل لا يتواني عن إبداء الكراهية إزاء اليهود، دون تحفظ أو تمييز بينهم وبين الإسرائيليين، وما يلفت الانتباه كذلك هو حديثه المتكرر عن المقدسات الدينية وضرورة الدفاع عنها وحمايتها، أكثر من حديثه عن فلسطين، كوطن محتل، ما يعني أن للخطاب الديني لدى السنوار أولوية على حساب الخطاب الوطني.