النقد العلماني لسِفر الخروج.. المواجهة بين إدوارد سعيد ومايكل والزر
مع أن النقاش بين سعيد ووالزر قديم، إلا أن الحجج المتداولة بينهما ما زالت راهنة | تصميم خاص بالفِراتْس
كتب الفيلسوفُ الأمريكيُّ وأحدُ أشهر منظري الحربِ العادلةِ مايكل والزر مقالةً في صحيفة نيويورك تايمز في 21 سبتمبر 2024 بعنوان “لا مكان لهجمات البيجر الإسرائيلية في نظرية الحرب العادلة”. وصف والزر في هذه المقالة التفجيرات المتزامنة لمئات من أجهزة البيجر وأجهزة اتصال لاسلكية محمولة من نوع “ووكي توكي آيكوم” التي يحملها أعضاء من حزب الله اللبناني في 17 و18 سبتمبر 2024 أنها “على الأرجح جرائم حرب وهجمات إرهابية لدولة طالما شنعت الهجمات الإرهابية التي كانت تقع على مواطنيها”. ومع شدّة هذا الانتقاد إلا أن مايكل والزر استدرك في منتصف المقال قائلاً: “من المهم تأكيد فرق مهم. إن إدانة هجوم حربي واحد لا يعني إدانة الحرب نفسها”. أي إن الإدانة الأخلاقية لهجمات البيجر لا تشمل الموقف الأخلاقي من الحرب التي خاضتها إسرائيل في غزة ولبنان. وهو يوضح هذا المقصد بقوله إنَّ “حماس وحزب الله يقاتلون إسرائيل لسبب غير أخلاقي ولا عادل، وهو إزالة الدولة اليهودية”، وهذا يمنح إسرائيل المبرر الأخلاقي لشنّ حربها في غزة، ولا يقدحُ في أخلاقية هذه الحرب حصولُ بعض الأفعال غير الأخلاقية فيها.
يعكس موقف والزر الأزمة التي يعيشها تيار “الصهاينة الليبراليين” الذي يُعد هو أحد رؤوسه. والمقصود بالصهيونية الليبرالية الاتجاه الفكري والسياسي الذي يدافع عن شرعية المشروع الصهيوني من مفاهيم تنطلق من التراث الليبرالي مثل الحقوق والمواطنة والحرية الدينية، ويعدّ حل الدولتين حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية. أما أزمة مفكري هذا التيار فتتمثل في تناقض رئيس بين الإصرار على التمسك بحقوق الإنسان وعالميتها، وفي الوقت نفسه تقديم الحجج الليبرالية للتمسك بالمشروع الصهيوني ودولة إسرائيل.
الأزمة التي أبرزتها الحرب الأخيرة لم تكن خفية قبلها، كما يكشف نقاش سابق بين إدوارد سعيد ووالزر. سنة 1985، نشر والزر كتابه “سفر الخروج والثورة”، وظف فيه التراث الديني اليهودي لتقديم قراءة علمانية لقصة خروج بني إسرائيل من مصر، تفتح المجال لتكون نموذجاً لكل حركة تحرر. أراد والزر من تأسيس الصهيونية الليبرالية على التراث الديني أن يجعلها منافسة لصهيونية أخرى عدّها ضارة بالمشروع الصهيوني هي الصهيونية اليمينية التي تستند على التراث نفسه. بعد كتابته لهذا الكتاب، نشر إدوارد سعيد مراجعة نقدية له بيَّن فيها انتهاء محاولة والزر لعكس مقصوده: فعوضاً عن علمنة الدين، ثبّتَ قداسته، باعتماده على قراءة تأويلية مفتقرة للتاريخ. مع أنَّ هذا النقاش بين الاثنين قديم، إلا أن الحجج المتداولة بين الطرفين ما زالت راهنة، وخصوصاً في سياق حرب الخمسة عشر شهراً على غزة.
ما كان إدوارد سعيد ليأبه بكتاب مايكل والزر لولا أنَّ الأخير بدأ يبرز واحداً من أهم المنظرين السياسيين وأنشط المثقفين في المجال العام في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولد والزر سنة 1935 في مدينة نيويورك لأسرة يهودية ونشأ فيها. انتقل بعد ذلك إلى مدينة بوسطن حيث أكمل في سنة 1956 درجة البكالوريوس في تخصص التاريخ من جامعة برانديز التي لم تكمل آنذاك عامها الثامن بعد أن أسسها مجموعة من يهود نيويورك في سعيهم إلى مواجهة سياسة “الكوتا” التي كانت تفرضها الجامعات الأمريكية ضد الطلبة اليهود والتي استمرت حتى الستينيات.
تابع والزر بعد ذلك دراساته العليا في كل من جامعة كامبريدج في بريطانيا ثم في هارفارد التي نال منها درجة الدكتوراه في تخصص العلوم السياسية سنة 1961. عمل بعد تخرجه في قسم العلوم السياسية في جامعة برينستون حتى سنة 1966 ثم انتقل بعدها إلى جامعة هارفارد التي عمل فيها اثنتي عشرة سنة. في سنة 1980، أصبح عضو هيئة تدريس دائم في كلية العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برينستون.
ينتمي كتاب مايكل والزر “سفر الخروج والثورة” إلى خطّ أقلّ شهرة في تكوّن والزر الفكري وتطوره. فالخط الذي منحه الشهرة والمكانة الكبيرة في الأوساط الأكاديمية والفكرية الأمريكية متعلّق بسؤال العدالة في توزيع الموارد والمنافع العامة. في سنة 1971 نشر الفيلسوف الأمريكي والأستاذ في جامعة هارفارد جون راولز كتابه “نظرية في العدالة”، والذي انطلق فيه من إطار ديموقراطي ليبرالي لتقديم مقاربة جديدة في مسألة العدالة قائمة على المواءمة بين الحرية الفردية والمساواة.
في السنة نفسها من نشر الكتاب، درّس والزر فصلاً مشتركاً في جامعة هارفارد عنوانه “الرأسمالية والاشتراكية”، وهو حوارات مطولة مع زميل له سيكون ذا شأن مماثل لوالزر فيما بعد هو الفيلسوف الأمريكي روبرت نوزيك. شكلّت حوارات هذا الفصل والتأثير الكبير لكتاب راولز المكونات الرئيسة لهذا الخطّ الأول في تفكير والزر، وكانت الأساس لتأليف كتابه الرئيس “سفيرز أوف جستس”، أو مجالات العدالة، المنشور سنة 1983 والذي دافع فيه عمّا أسماه “المساواة المعقّدة”.
أما الخط الأقل شهرة في فكر مايكل والزر، والذي ينتمي إليه كتاب “سفر الخروج والثورة”، فموضوعه دور التقاليد الدينية في تشكيل التاريخ. بدأ والزر بحث هذا السؤال في أطروحته للدكتوراه المنشورة سنة 1965 بعنوان “ذا ريفوليوشن أوف سينتس”، أي ثورة القديسين، وهي دراسة اجتماعية وتاريخية لدور بعض اتجاهات الحركة الإصلاحية المسيحية التي أدّت إلى ولادة البروتستانتية في تأسيس العالم الحديث أخلاقياً وسياسياً. ثمّ ألف والزر كتابه الضخم ذي الثلاثة مجلدات المعنون “ذا جويش بوليتيكال تراديشن”، أي التقاليد السياسية اليهودية، الذي نشره بين سنتي 2000 و2018، والذي يعيد قراءةَ الفلسفة السياسية وبناءها في التلمود.
وبين هذين الكتابين، ألف والزر كتاب “سفر الخروج والثورة” ليقدم قراءة تأويلية لأحد أسفار الكتاب المقدس، وهو سفر الخروج. تتنقل القراءة بحرية بين تفسيرات علماء اليهود القديمة، المسماة “مدراش”، وكتابات الآباء المؤسسين في الولايات المتحدة الأمريكية وأدبيات لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية.
رسّخت كتابات مايكل والزر السياسية ضدَّ حرب فيتنام ودفاعه القوي عن إسرائيل بعد حرب 1967 سمعته مرجِعاً أخلاقياً لنظرية الحرب العادلة خاصة في كتابه “جست آند أنجست وورز”، أي الحروب العادلة وغير العادلة، المنشور سنة 1977. وعمل والزر محرراً في مجلة “ديسينت” التي تأسست سنة 1954 وعُرِفت رسمياً أنها من منشورات اليسار الجديد الذي سعى إلى شق موقع متمايز عن رأسمالية دول أوروبا وشمال أمريكا من جهة وشيوعية دول الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى. كتب والزر في هذه المجلة مقالات متعددة عن السياسة الخارجية والسياسة الليبرالية.
لم يكن مايكل والزر يوماً ماركسياً ولا من دعاة السلمية. يظهِر مساره الفكري اتساقاً ثابتاً. فمع انتقاده حربَ فيتنام، يبيّن والزر في “الحروب العادلة وغير العادلة” أنه ليس ضد الحروب من حيث المبدأ. كان الكتاب محاولةً منه إيضاح موقفه الأخلاقي الذي جمع بين صيغة محدثة من نظرية الحرب العادلة التي صيغت في القرون الوسطى و”التوضيحات التاريخية” المتنوعة من الحروب البيلوبونيسية، وهي حرب يونانية قديمة بين أثينا واسبرطة، إلى حرب فيتنام وحرب 1967.
يعترف والزر أن دافعَه لكتابة الكتاب محاولةُ إيضاح سبب وقوفه ضد حرب فيتنام من جهة ودعمه إسرائيلَ في حرب 1967 من جهة أخرى. ومع أن حرب 1967 تشغل حيّزاً يسيراً من الكتاب لا يتجاوز خمس صفحات في فصل بعنوان “الضربات الاستباقية”، إلا أن هذه الحرب وجهت مشروع الكتاب وصارت محفّز سؤاله الرئيس. مع الوقت، تحول كتاب “الحروب العادلة وغير العادلة” إلى ما يشبه الكتاب المدرسي في أخلاق الحرب والقانون الدولي. وعبَّر والزر عن دعمه إسرائيلَ وارتباطه الوثيق بها مستشهداً بأصوله اليهودية وتأثره بالثقافة اليهودية التي شكلت وجدانه منذ الصغر في نيويورك وما سمعه وتعلمه عن التاريخ المأساوي لليهود في أوروبا.
خطرت فكرة كتاب “سفر الخروج والثورة” عندما زار مايكل والزر مدينة مونتغمري في ولاية ألاباما سنة 1960 صحفياً لتغطية اعتصامٍ لطلبة سود، وصفه بأنه “بداية العمل السياسي الراديكالي في الستينيات”. استمع هناك إلى موعِظة كنيسة معمدانية ربط فيها القس بين سفر الخروج ونضال السود في جنوب الولايات المتحدة ضد نظام الفصل العنصري. أثار هذا الربط اهتمامه حتى صار يرى سفر الخروج والنبي “موسى” أينما التفت. فالآباء المؤسسون الأمريكيون يحيلون إلى سفر الخروج وكذلك أوليفر كرومويل صاحب الثورة المجيدة ضد الملكية البريطانية ودعاة إلغاء العبودية ومنظرو لاهوت التحرير، وأخيراً حركة الحقوق المدنية. خلص والزر إلى أن سفر الخروج لا بد أن يكون النموذج الأساسي الذي يحتوي مفتاح الحركات الثورية كلها.
أراد والزر تعميم فكرة أثر سفر الخروج في الفعل الثوري على كل الثورات ولو اضطره ذلك للتعسّف. فمع أنه يعترف أن نظريته لا تنطبق على الثورة الفرنسية أو على ماركس الذي لم يوظف السردية الموسوية في خطابه، إلا أنه لم يعبأ بهذه العقبة في وجه فرضيته.
ففي حركة غريبة، التقط اقتباساً عشوائياً من عضو في لجنة السلامة العامة، التي حكمت فرنسا في “عهد الإرهاب” بعد الثورة الفرنسية، يقول فيه إنه يجب تحمل إرهاب الثورة فترة تتراوح بين “ثلاثين وخمسين عاماً”. يستخلص مايكل والزر من هذه العبارة أنه لا بد أن الفرنسيين اختاروا هذه المدة في إشارة إلى التيه “أربعين عاماً” في سفر الخروج. ودليله على هذا الاستنتاج هو أن سفر الخروج حاضر من غير وعي، وإن لم يشر إليه. وبهذه الطريقة ترتبط أقوال التحرير أو التمكين جميعها به. يسمح والزر لنفسه بهذه الصورة أن يعقد صلات غريبة بين الأحداث، ويقفز في مناسبة أخرى فجأةً من موسى إلى لينين ثم يعود إلى موسى.
يظهر مغزى الكتاب الحقيقي في فصله الأخير الذي يناقش الصهيونية مباشرةً. رغب والزر في التمييز بين نوعين من الصهيونية: “صهيونية الخروج” و”الصهيونية المُخلِّصة”. تركز صهيونية الخروج على ذاكرة هروب بني إسرائيل من مصر وتيه الأربعين عاماً في القفار والوصول إلى الأرض الموعودة. أما الصهيونية المُخلِّصة فتركز على عودة المُخلِّص في المستقبل والقيامة التي تسبق عودته.
تمنح صهيونية الخروج الأولوية لاستقلال القرار السياسي للبشر وقدرتهم على صياغة تاريخهم. فهي تروي قصة صراع بشري ضد القمع ورحلة التخلّص منه وصولاً إلى النضج السياسي. بالمقابل، تتسم الصهيونية المُخلّصة بأنها أقل “مأساوية” في تعبيرها. فهي تحلم بحلول يوم القيامة المفاجئ، لا بالتعلُّم البطيء في الصحراء. صهيونية الخروج معتدلة وعقلانية وقابلة للترجمة ومتاحة للثوريين والاستحواذ العلماني. أما الصهيونية المخلصة فتنتمي إلى اليمينيين الذين يبذل والزر جهداً كبيراً لإبعاد نفسه عنهم. يهدف الكتاب إلى عرض موقفٍ يتيح للصهيونية الليبرالية أن تنافس الصهيونية اليمينية على الساحة الدينية والنصّية نفسها.
لكن هناك حدود واضحة لهذه الخطة تتلخص في أن قصة خروج بني إسرائيل نفسها قيامية. فهي تحتوي على غزو الأرض ووصية إلهية بذبح سكانها. يقول مايكل والزر: “استثني الكنعانيون صراحة من اهتمام العالم الأخلاقي. فوصايا سفر التثنية أمرت بأنه يجب طردهم أو قتلهم جميعاً، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتحطيم أصنامهم”. وهذا ما نسميه بمعايير اليوم الإبادة الجماعية. إلا أن والزر يقتبس عن حاخامات تلموديين من القرون الوسطى، ومن بينهم ابن ميمون، الذين أبطلوا هذه الوصية. إذ أن “الوصية كانت تنطبق، حسب المُعلّقين، على مجموعة محددة من الناس فقط ذُكروا في النص، ولم يعودوا موجودين أو لا يمكن التعرف إليهم حالياً”. ولا يناقش الكتاب هذه المسألة بالغة الحساسية المرتبطة بالعلاقة مع الغرباء أو سكّان الأرض المراد غزوها إلا في أربع صفحات من أصل مئتي صفحة.
عنون إدوارد سعيد مراجعته كتابَ مايكل والزر، التي نشرت سنة 1986، “قراءة كنعانية”. ومع أن معاملة والزر قصةَ الكنعانيين لم تكن الموضوع الوحيد لمراجعة سعيد، إلا أنها شكلت نقطة المواجهة الرئيسة بين إدوارد سعيد ومايكل والزر.
فقبل سبع سنوات من هذه المواجهة، نشر سعيد مقالة بعنوان “الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها”. حاجَّ سعيد فيها بأنه لا مفر للصهيونية من التمسّك بخرافة أنَّ أرض فلسطين كانت أرضاً بلا شعب. أو حتى إن كان فيها سكان، فهم إما “لا ينشغل بهم العالم أخلاقياً” وإما “غير موجودين ولم يعد ممكناً التعرف إليهم”.
وجد إدوارد سعيد في كتاب مايكل والزر، الذي تجاهل فيه وجود الفلسطينيين تماماً، تأكيداً لتحليله هذا. كان انشغال والزر الوحيد هو الصهيونية اليمينية التي تستند إلى وصية قتل الأطفال والنساء جميعاً لتبرير تصرفاتها، ولكنه لم يكن معنياً بمدى راهنية السؤال، بل تجاهل التاريخ الفعلي الذي يحرِج حجته. فهو على سبيل المثال يقول: “ليس لهذه الوصية آثار عملية، فاليهود العائدون إلى الأرض لن يلتقوا الحثيين أو العموريين”، لكنه لا يسمّي من سيلتقي بهم اليهود.
في حين أن النصف الأول من مراجعة إدوارد سعيد خصّص عن الكتاب نفسه، يمكن قراءة النصف الثاني تحليلاً اجتماعياً للمثقف يحاول وضع عمل والزر في سياقه الاجتماعي والتاريخي. يبدأ إدوارد سعيد مراجعته بالتعبير عن تقديره لمعرفة مايكل والزر الواسعة. ولكنه ينتقل بسرعة لتفنيد حججه، ابتداءً من جعله قصة سفر الخروج النموذج الأساسي للتحرر بتجاهل بعض حالات التحرر الرئيسة، واستخدامه غير المنضبط المنهجَ التأويلي.
يصف إدوارد سعيد تكتيك مايكل والزر التأويلي أنه “تضمين عبر التأجيل”. ويعني بذلك أن والزر يعد بمناقشة الإشكاليات المطروحة على ما يقوله لاحقاً، لكنه لا يفعل ويستمر بتأجيلها حتى تُنسى ويُحيَّد أثرها. يقول إدوارد سعيد: “في حقيقة الأمر، ينفث نصه ضباباً لإخفاء المشكلات التي تنطوي عليها حججه فيُبعِدها ويتجنبها قبل أن تسبّب له مشكلة. وأكبر ما يتجنّبه هو التاريخ”. والنتيجة، حسب سعيد، هي إسباغ صفة تقدمية زائفة على أفكار شديدة المُحافَظة.
يركّز إدوارد سعيد نقده على زعم مايكل والزر أن قراءته علمانية. يقول والزر في مقدمة كتابه: “لا أقصد النيل من المقدس، بل أرمي فقط إلى استكشاف الدنيوي: فلا يعنيني ما فعله الله، بل ما فعله الرجال والنساء بالنص التوراتي أولاً، وما فعلوه كذلك في العالم وهم يحملون بين أياديهم هذا النص”.
يتخذ والزر الفيلسوف الماركسي الألماني إرنست بلوش مرجعاً، ولكن لا يبدو أنه تعلّم شيئاً من الحداثة الأسلوبية التي يتبناها بلوش وفهمه الجدلياتِ التاريخيةَ المثيرة للسخرية. يتعمّد بلوش توظيف الأسطورة التوراتية والفضيلة الدينية توظيفاً تهكمياً لأغراض ثورية، متّبعاً أسلوباً جمالياً حداثياً. فنجده يقابل صوراً غير متعاصرة جنباً إلى جنب بطريقة متعمّدة تبيّن أوجه قصور الحاضر وما يستدعيه هذا من عدم اكتمال التاريخ، أو ما يسميه بلوش مرحلة “ليس بعد”.
تنتج هذه الطريقة زعزعة كلٍ من العلماني والمقدّس معاً، وإعادة صياغتهما معاً انطلاقاً من المستقبل. يصف إدوارد سعيد أسلوب مايكل والزر أنه “ثرثرة”. ولذلك، فافتقار والزر للحساسية الجمالية أو الأسلوبية يؤدي إلى إمكانية قراءة عمله على أنه تقديس وتجميد للتاريخ العلماني وتحويله إلى أسطورة ممتدة ومتكررة. لا يختلف هذا في شيء عن التفكير الديني اليميني المفتقر للبعد التاريخي. وليس هناك حِسّ مستقبلي لدى والزر، بل إنه قدّم المستقبل هدية مجانية “للصهيونية المخلصة” وأحلامها المرتبطة بيوم القيامة.
يضاعف إدوارد سعيد من تركيزه على هذه النقطة قبل ختم القسم الأول من مراجعته. فهو يرى أنه لا يمكن لوالزر استكشاف الدنيوي لأنه ضحى بأي تعامل منضبط مع التاريخ. يقول سعيد: “يتوقع المرء، نظراً للتطورات التاريخية الأخيرة، أن والزر سيعيد النظر في كل مسألة المشاريع السياسية التي تستلهم الإلهي ويستبدلها بتأملات أكثر صفاءً، أو ربما تنطوي حتى على بعض السخرية”. إلا أن ما ينتج من قراءة والزر تاريخ مجمّد. ويختتم سعيد القسم الأول من المراجعة بهذا السؤال: “لِمَ يختار والزر أن يقدم رؤية تبسيطية خالية من التحولات الجدلية ومناقضة للتاريخ ومسخّفة للواقع؟”.
يكشف إدوارد سعيد مفارقة مهمة عن الصهيونية. فهي تشَرْعَن كونها تحرراً قومياً، مع أن قادة الغرب السياسيين ومثقفيه نزعوا شرعية التحرر من الاستعمار وحركات التحرر القومي المناوئة له ووصموها بأنها مشاريع فاشلة. يقدّم لنا عمل مايكل والزر نموذجاً فجاً عن هذا التناقض الغريب.
يشير إدوارد سعيد إلى أنه من المفترض أن عهد التحرر من الاستعمار قد انتهى مع حلول السبعينيات والثمانينيات في المجالين الفكري والسياسي، باستثناء حالتَي نيكاراغوا وجنوب إفريقيا. وازى ذلك تحولاً كبيراً في الطيف السياسي كله يساراً ويميناً. إذ هيمن الانشغال المتزايد بالثقافة وخطاب الحضارات والأديان وغطى على المفاهيم السابقة التي ناقشت مسألة الاستعمار مثل القمع والتحرر الوطني.
وإذا كان الأمر كذلك، فما سبب أن مناصرة الصهيونية ما زالت تستخدم مصطلحات مثل التحرر الوطني؟ وما الذي يفسّر مصادرة والزر مصطلحات متشددة ليحقق مهمته، خصوصاً أن والزر نفسه مثالٌ على تحول المثقفين إلى سياسة الهويات ضد الماركسية؟ ففي عمل مايكل والزر الأبرز تنظيراً ومنهجيةً “مجالات العدالة”، ركّز على قيمة الجماعة إطاراً مهيمناً للعلوم الاجتماعية النظرية، مما أدى به إلى التعبير عن رؤية سياسية قائمة على الاختلاف الثقافي نهاية المطاف. لماذا إذن، إذا كان الأمر هكذا، يحتاج والزر إلى مفهوم الثورة؟
دعم اليسار الغربي إسرائيلَ قبل سنة 1967 لأنها تجربة اشتراكية، خصوصاً عندما لم يكن التحالف مع الولايات المتحدة أساسياً لأمنها. إلا أنه بعد سنة 1967 أصبحت هذه الصورة لإسرائيل أقل مصداقيةً نظراً لزيادة نفوذ الجيش وتجذّر احتلال أراضي 1967 وتعاظم الاعتماد على دعم من مركز خارجي يمثل قوة عظمى هي أمريكا، وهذه كلها سمات تقليدية للاستعمار الاستيطاني. من جهة أخرى، قدّم اليسار الجديد نفسه معارضاً لحرب فيتنام والحرب الباردة. فكيف يمكن إذن الحفاظ على دعم إسرائيل في ضوء عدم الاتساق الأخلاقي؟ هذه المعضلة هي التي حددت النموذج التحليلي الذي اتبعه مايكل والزر كما وصفه إدوارد سعيد. فهدف والزر هو إقناع جيله من اليسار الجديد أن دعم إسرائيل ليس تنكّراً لالتزاماتهم التقدمية.
يصف إدوارد سعيد هذا العنصر من طرح مايكل والزر أنه خطابي في المقام الأول، ولكنه ذو تبعات نظرية. فثمة تناقض في عمل والزر بين ادعائه التمسّك بطرح كوني، صالح لكل مكان وثقافة وزمان، والتزامه الموازي بسياسات الهوية. يظهر هذا التناقض بوضوح في كتاب “مجالات العدالة” آنف الذكر.
في هذا الكتاب، ينتقد والزر النظرية السياسية الليبرالية لأنها لا تولي اهتماماً كافياً بحقيقة أن المنافع الاجتماعية مثل التعليم والصحة والنفوذ السياسي والثروة متعددة وغير متوافقة فيما بينها، وأنها تحتاج آليات توزيع مختلفة في ما يسميه “مجالات العدالة”. وهو يريد من ذلك أنه لا يمكن التوصل إلى صيغة واحدة للمساواة نظراً لأن هناك طرق متعددة لتقييم هذه المنافع وتوزيعها. تقتضي هذه النظرة أن لدى المجتمعات معايير خاصة للعدالة تتكشّف بالطرق المحددة والثابتة التي تتبعها لتصنيف هذه المنافع الاجتماعية. ينجم عن ذلك أن أية محاولة لنقد مجتمع ما يجب أن تكون من الداخل، أي لا بد لها من أن تتقيّد بإطاره الخاص للعدالة. ومع أن هذا الاستنتاج ليس جديداً في تفكير والرز، إلا أن أفصح تعبير له عنه جاء في مقالة “المثقفون المترابطون” وكتاب “التفسير والنقد الاجتماعي” المنشور سنة 1993.
يساوي مايكل والزر بين أشكال النقد المختلفة ويتنقل بينها. فهو يستهلك النقد السياسي بالنقد الثقافي ويمنح الأولوية للهوية العرقية والدينية والقومية لأنها التأطير الأهمّ للمشكلة. يذكر والزر أمثلة عدة عن المثقفين المترابطين ولكن بطَلَه الرئيس هو الروائي الفرنسي ألبير كامو. ويركّز تحديداً على علاقة كامو بأصوله الفرنسية الجزائرية ومجتمع “الأقدام السوداء” في أثناء حرب تحرير الجزائر. انتقد ألبير كامو العنف المفرط الذي مارسته جبهة التحرير الوطني الجزائرية في مقاومتها الاستعمارَ الفرنسي، وتعاطفَ مع أبناء هويته مع أنه كان ممثلاً للموقف المناهض للاستعمار في الدوائر الفكرية الفرنسية. يخلص والزر من هذا المثال إلى أن الناقد يجب أن يتحدث إلى أبناء هويته فقط حتى يتسنى له مخاطبة ضميرهم، وأن للهوية والولاء والانتماء أولوية على المبادئ الأخلاقية المجردة.
يصرّ مايكل والزر على أهمية النقد والتأمل والالتزام بمُثُل عالمية مثل الحرب العادلة، وفي الوقت نفسه يؤكد الحاجة للجماعة والانتماء. يتيح له هذا الموقف شرعنة مشروعه السياسي القائم على الهوية والثقافة بتقديمه مفردات يمكن لليسار قبولها. ويفسر هذا الموقف منهجه إزاء إسرائيل والصهيونية، إذ يمكن إعادة تعليب الجانب العرقي الديني للمشروع الصهيوني بأطرٍ تبدو على السطح تقدّمية وعلمانية، مع أنها تجاوزت مع تجاوز السياسة الثورية. ينتج عن ذلك عالم أخلاقي مغلَق تُقبَل فيه حدود المجتمع المحلي بلا مساءلة، وتأخذ فيه الأشكال العرقية الدينية للهوية والسلطة الأولوية.
هذا الجانب من تفكير مايكل والزر هو ما يهاجمه إدوارد سعيد بشدة، وتحديداً مثال ألبير كامو. يطرح سعيد سؤالين أساسيين. الأول: “هل المسافة النقدية بين الناقد وجماعته تأتي دائما على حساب الارتباط الوثيق بينهما؟”. أما الثاني، فهو ما إذا كان الناقد الذي يخاطر بهجر جماعته له أحق بالاحترام من “العضو الموالي للأغلبية المتورطة”؟، والكلمة المحورية في هذا السؤال هي “يخاطر”.
يرفض سعيد اعتبار الارتباط بهويةٍ ما مقياساً كافياً لأي فعلٍ نقدي، مع أنه يقبل أهمية هذا الارتباط، ويستبدله بما يعدّه عنصراً جوهرياً آخر وهو مدى تعريض الناقد نفسه للإقصاء من جماعته. يصرّ إدوارد سعيد على أن هذا هو الدرس الحقيقي الذي يمكن تعلّمه من “التقاليد المسيحية واليهودية”. ويبدو أن هذه هي مشكلة “سفر الخروج والثورة”. فوالزر لا يعرّض نفسه لأي خطر في أي من حججه. هي ترضي التزاماته “العلمانية”، أو السياسية، و”الدينية” على حدٍّ سواء، لأنه لم يخاطر بأي منهما.
جاء ردّ مايكل والزر الذي كتبه في سنة 1986 على إدوارد سعيد ساخراً ومتهرباً. لم يرَ والزر مطلقاً تفاصيل قراءة سعيد، ولم يجِب على الأسئلة المنهجية المحددة التي طرحها سعيد.
فمثلاً، انتقد إدوارد سعيد كلاماً لمايكل والزر دافع فيه عن أخلاقية “جعلهم يغادرون”، أو إقصاء الغرباء الذين لا ينتمون للجماعة الوطنية بتسهيل هجرتهم. أجاب والزر بأن هذا إقرار واقعي بسياسات ترسيم الحدود التي هي امتداد لتقرير المصير. ولكن لم تكن هذه النقطة هي لبّ نقد سعيد. فقد بيّن إدوارد سعيد أيضاً كيف أن المواطنة الإسرائيلية تحديداً يُحامى عنها على أسس عرقية ودينية مما يعني استحالة أن تكون دولة “لجميع مواطنيها”. أي أصرّ على إبراز التناقض بين الهوية العرقية والهوية المدنية.
لم يتنبّه مايكل والزر إلى هذه النقطة، ولا يمكنني إلا تخمين السبب. فإجابته كانت من قبيل “وماذا عن كيت وكيت؟”. فهو ادعى أنه حافظ على مواقف متّسقة طوال حياته، وكأنها فضيلة، وكال الاتّهامات لسعيد بسبب علاقته بعرفات. إلا أن الأدهى هو العبارة التالية، التي كتبت في سنوات الثورة الإيرانية وصعود حزب الله وحماس والحرب في أفغانستان:
“لم يبذل [سعيد] أي جهد للتعاطي مع الحماسة الدينية للعرب المسلمين المعاصرين، في حين يمثل “سفر الخروج والثورة” محاولة للتعاطي مع الحماسة الدينية لليهود المعاصرين. ولعله يرى أن التناول الوحيد الممكن هو المعارضة التامة. وهذا لا يقتصر على معارضة الحركات الأصولية فحسب، بل معارضة التراث الديني بأكمله. ولعل هذا مسار طبيعي لسعيد، الذي ينتمي لأقلية مسيحية فلسطينية تقف وجهاً لوجه مع إسلام متشدد، بل قد يكون لا مفر منه. هذا مع أنني لا أعلم إن كان قد دعا إلى ذلك علناً رفاقه في منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن هذه القضية لا تناسبني بسبب تقاطع الديانة اليهودية مع ثقافة اليهود ودورها في تكوينها”.
يبدو أن مايكل والزر هنا يقترح باستعلاء أن انتماء إدوارد سعيد إلى “الأقلية” المسيحية يحرمه من “الارتباط” بالحركة الوطنية الفلسطينية على النحو الذي ينتمي به هو لإسرائيل واليهودية. والآن، بعد أن ردّ كل النشاط السياسي والنقدي إلى الهوية العرقية الدينية، فيمكنه بسهولة تجنّب انتقادات سعيد عن المنهجية التي اعتمدها، أو بالأحرى انعدام المنهجية، في هذا “التناول” للدين. فهو ليس مضطراً للإجابة على أسئلة منهجية لأن هويته تعفيه من هذه الأسئلة، ولأن هوية سعيد تحرمه من حق طرح مثل هذه الأسئلة.
يمكن تلخيص الخلاف بين إدوارد سعيد ومايكل والزر في عدّ الأول الارتباطَ الشرطَ الوحيد لشرعية النقد، وعدّ الثاني المخاطرةَ شرطاً إضافياً ضرورياً لها. يوجه هذا الخلاف نقاشهما أسئلةَ المنهج. فوالزر يعلّي من شأن النصية والتأويل، في حين يمنح سعيد الأولوية لما يسمّيه العالمية والتاريخ. وهذا هو جوهر النقد العلماني الذي يقدّمه سعيد مقابل النقد الارتباطي الذي يقدّمه والزر.
عادة يُعاب على منهج إدوارد سعيد في النقد العلماني لأنه إما موقف أخلاقي كونيّ مجرد أو موقف معادٍ للدين. وكلا هذين التفسيرين استخدمهما مايكل والزر في ردّه. وهناك من يتجاهل هذا النقد بذريعة أنه يلغي المعرفة أو المنهج، أي أنه يُقرأ على أنه نوع جديد من خطاب ما بعد الحداثة.
ولكن النقد العلماني في كتابات سعيد أدقُّ وأكثر إثارةً للاهتمام من هذه القراءة. ظهر هذا النقد في نقاش سعيد نظريةَ الأدب والنقد الأدبي، وفي نقده النزعاتِ السائدة في هذين المجالين، لاسيما استيراد “النظرية الفرنسية” إلى أقسام دراسة الآداب في الجامعات الأمريكية. ولكن هذا كان جزءاً من نقد أوسع للمجال الأدبي كله، إذ رثى تراجع العالمية والوعي الذاتي التاريخي في الأدب.
ويقصد إدوارد سعيد بمصطلح “العالمية” معاني متعددة. فهو يشير تارة إلى تجربة المنفى ورؤية المنفي العالمَ. ويركز تارة أخرى على فكرة أن العوالم الثقافية والفكرية نتاجٌ بشري وتاريخي. يضع سعيد هذه الرؤية على النقيض من المذاهب النصّية التي تهيمن على المخيلة الأدبية والتي تُخرِج التاريخ الاجتماعي من الفعل الأدبي، والاستشراق مثالٌ واضح على ذلك بهَوَسه بعلم اللغة. وأكثر من يمثّل هذه “العالمية” عند سعيد هم كل من الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو والفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي والفيلسوف الألماني إيغيش أوَباخ. يرى سعيد أن العالم هو مجال الصناعة السياسية والاجتماعية البشرية. وأن النصوص الأدبية تسهم في هذه الصناعة وتؤطّر الواقع بأشكال يمكن للباحث الأدبي إعادة بنائها.
ثمة تناقض آخر يبيّنه إدوارد سعيد بين النقد العلماني ومبدأ الاختصاص والخبرات الذي هيمن على المجال الأكاديمي والمجال العام. إذا كانت الخبرات تبدو قمة الثقافة العِلمية والعلمانية، بمصطلح سعيد المستقى من فيكو، فإن هذا النوع من ثقافة الخبراء تمحو دور الوقائع في أية رواية تاريخية للصناعة البشرية. وبالتالي، تصبح المعايير المعرفية التي تحدد الحقيقة التاريخية محصنة من النقد. أما النقد العلماني فيناقش هذه المعايير مباشرةً.
وهذا النوع من النقد علمانيٌّ، لأنه يركز على مجال التاريخ السياسي، ولأنه يتحدى تقديس النصوص والتقاليد والقوانين لاسيما عند فرضِها بسلطة الدولة. وأظن أن هذه النقطة توضح المواجهة بين إدوارد سعيد ومايكل والزر.
يظن والزر أنه يُعلمِن الرواية التوراتية بتقديمها حكمةً سياسية قابلة للتبني والتكرار. ولكن المفهوم الوحيد للتاريخ البشري الذي يقبله والزر هو المفهوم المُعرّف مسبقاً في سفر الخروج، وبذلك يبدو التاريخ العلماني امتداداً غير متناهٍ للرواية التوراتية. ينتج عن ذلك تقديس القوة البشرية وتقديس السياسة. إلا أن إدوارد سعيد يرى أن هذه النظرة ليست إلا تبريراً وخدمة للذات، لأنها تحمي الناقد من أي مخاطرة يمكن أن تمسّ حدود الجماعة والمعرفة والتاريخ والسياسة. وهي حدود تكتسب معنى مقدساً في معظم الأحيان. يظن والزر أن منهجه يسمح بالنقد المرتبط، أما سعيد فيرى أن الارتباط ليس كافياً للسماح للناقد بالنقد، بل تقع سلطة الناقد في مخاطرة فعل النقد نفسه. فالحقيقة لا بد لها أن تكون خطرة لأنها تفرض على قائلها أن يرهن مصداقيته عليها، وهي مصداقية قد تُساءَلُ لاحقاً.
الغاية من استحضار المواجهة بين إدوارد سعيد ومايكل والزر اليوم فضح الطرق التي تستند فيها الصهيونية الليبرالية على الأساطير العرقية الدينية وتتنكّر لها في الوقت نفسه.
فوهم الصهيونية الليبرالية الأخطر هو أنها تظن نفسها قادرة على التحكّم بتبعات رغباتها. فمتى حظرت الأساطير والرغبات يضحي التحكم أمراً صعباً. في نهاية المطاف، كل محاولة لوضع رغبات عرقية دينية خيّرة مقابل رغبات عرقية دينية شريرة مصيرها التهاوي والفشل. وذلك لأن الأساس الذي يستند إليه هذا التمييز متروك دائماً لمن هو مستعد للمخاطرة بتحقيق أساطيره. وعندما تتحقق الأساطير، يمكن للمثقفين الليبراليين الحفاظ على ضمائرهم نقيّة لأنهم قادرون على إسقاط رغباتهم على الآخرين، والادعاء بعد ذلك أنهم ضحايا مأساة إعادة التاريخ لنفسه. “كانت نيتنا حسنة…”.
ولكن بعيداً عن البعد السياسي لهذا النقاش، أود أيضاً استعادة الأسئلة التي طرحها إدوارد سعيد عن المنهج والنقد. فما زال السؤال مفتوحاً عن أثر الحرب على غزة على العالم الأكاديمي والفكري، وما إذا كانت هناك فرصة لإزالة آثار الحروب الثقافية أو سياسة الهويات أو حروب العلمانية. لطالما قُرئ سعيد مفكراً يمثل ما بعد الحداثة، وأنه اختزل الحقيقة إلى لعبة من ألعاب السلطة، وهو وصفٌ رفضه وقاومه مراراً ولكنه لم يصححه. انتُقِد سعيد أيضاً من اليسار العلماني لأنه لم ينتقد الحركات الإسلامية أو الخطاب الديني بحدّة كافية. وهو النقد الذي يستغلّه مايكل والزر بانتهازية في النقاش الذي دار بينهما. وقرأتُ مؤخراً لكاتب وناشط يتهم سعيد بالاستشراق بسبب ميوله العلمانية.
تعجز هذه القراءات جميعاً عن مواجهة خصوصية نموذج إدوارد سعيد النقدي. لا يكتفي سعيد بتقديم مفردات للتعامل مع تلك الأسئلة، بل يقدّم أيضاً تحليلاً اجتماعياً للمثقف يمكنه أن يقدّم تشخيصاً لأمراض الحياة الفكرية والأكاديمية. لا يخلو النقد العلماني الذي كتبه سعيد من العيوب والغموض، ولكن يمكنه المساعدة في البحث عن مسار يتجاوز الآفاق المسدودة في النظرية النقدية كما نعرفها اليوم.
إسرائيل
,
الحرب على غزة
,
فلسطين
,
فلسفة
:تصنيفات