استعاد اللبنانيون أمس لساعات ذكريات حرب الدمار التي شنتها إسرائيل العام الماضي، مع عودة الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، مرفوقة بتهديدات عنيفة ضد لبنان، مع “إسناد” مطلق من الادارة الترامبية، التي حمّلت لبنان مسؤولية “خرق وقف إطلاق النار” وفرضت عقوبات جديدة على “حزب الله” وطالبت علناً الجيش اللبناني بنزع سلاح “الجماعات المسلحة”.
هُددت الضاحية الجنوبية لبيروت، وبدأت عملية الإخلاء وسط حالة من الذعر، ثم جاء القصف ليحوّل المبنى إلى ركام، وكأن الزمن قد عاد إلى الوراء، إلى زمن “جبهة الإسناد” المشؤومة. جاءت صواريخ “مجهولة” جديدة لتفتح الباب أمام موجة أخرى من الغارات، كأنها امتدادٌ لما بدأ السبت الماضي، حين سقطت صواريخ أخرى بقيت هويتها لغزاً. وبينما يتساءل اللبنانيون عن مصير التحقيقات بشأنها، ترتفع نبرة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو: “المعادلة تغيرت، سنضرب في كل مكان بلبنان ضد أي تهديد لدولة إسرائيل”. وهنا يبرز سؤال أشد عمقاً: هل هو تصعيد عشوائي، أم أنه يتماهى مع الضغوط الأميركية لدفع لبنان إلى طاولة التفاوض المباشر مع إسرائيل، في وقت تبدو فيه تل أبيب ماضية بخطى حثيثة نحو محاولة فرض التطبيع الشامل؟
يتزامن هذا المشهد المتوتر مع زيارة مرتقبة لنائبة المبعوث الأميركي في الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس إلى تل أبيب، وسط ترقب لاحتمال مرورها على بيروت، فيما تواصل واشنطن التصعيد بفرض عقوبات جديدة على كيانات لبنانية تتهمها بدعم شبكة تمويل “حزب الله”. وعلى الجانب الآخر، تبدو الغارات الاسرائيلية رسالةً سياسية بامتياز، لا إلى لبنان فحسب، بل إلى باريس أيضاً، التي استقبلت رئيس الجمهورية جوزاف عون في موقف اعتُبر غطاءً داعماً لبيروت في هذا التوقيت الحرج.
وسط هذه العاصفة، يبقى الموقف اللبناني صامداً، يؤكد أن قرار الحرب والسلم هو شأن سيادي لا يقبل المساومة، فيما تتوالى الادانات ضد اعتداءات اسرائيل وخرقها اتفاق وقف إطلاق النار.
سلسلة غارات إسرائيلية تستهدف لبنان
عقب إطلاق قذيفتين، نفذ الجيش الاسرائيلي غارات جوية عنيفة استهدفت بلدات جنوب لبنان، قبل أن يوسع عملياته إلى منطقة الجاموس – الحدت في الضاحية الجنوبية لبيروت، للمرة الأولى منذ اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي. وأسفر القصف على بلدة كفر تبنيت عن سقوط ثلاثة قتلى وإصابة 18 آخرين، فيما طالت الضربات الاسرائيلية مواقع أخرى قرب النبطية وصور، مخلفة أضراراً جسيمة في البنية التحتية والممتلكات.
وقبل شن الغارات، حذر المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي، أفيخاي أدرعي، سكان الضاحية الجنوبية وطالبهم بإخلاء المباني التي زعم أن “حزب الله” يستخدمها، مهدداً بأن من يبقى سيكون معرضاً للخطر.
بدوره، صعّد وزير الدفاع الاسرائيلي، يسرائيل كاتس، لهجته، محمّلاً الحكومة اللبنانية مسؤولية إطلاق الصواريخ. وأكد أنه “إذا لم يعم الهدوء في بلدات الجليل، فلن يكون هناك هدوء في بيروت”. كما هدد بفرض وقف إطلاق النار بالقوة إذا لم تلتزم الحكومة اللبنانية بمنع الهجمات من أراضيها.
“الحزب” ينفي مسؤوليته عن إطلاق الصواريخ
في أول تعليق رسمي، نفى “حزب الله” أي علاقة له بإطلاق الصواريخ من جنوب لبنان، مؤكداً التزامه باتفاق وقف إطلاق النار. وجاء في بيان عبر “تلغرام”: “ننفي أي علاقة لحزب الله بالصواريخ التي أُطلقت اليوم (أمس) باتجاه شمال فلسطين المحتلة”.
ومع تصاعد القصف الإسرائيلي، أُغلق العديد من المدارس في الجنوب اللبناني، وتجنب السكان التنقل خوفاً من الاستهداف، فيما شهد بعض القرى الحدودية موجة نزوح. كما أُغلقت الطرق المؤدية إلى بلدات مثل الغندورية وفرون نتيجة استمرار القصف الاسرائيلي، بينما أُفيد بسماع دوي انفجارات عنيفة قرب جسر القعقعية.
وأعلن الجيش اللبناني لاحقاً تحديد موقع إطلاق الصواريخ، مشيراً إلى أنها انطلقت من منطقة قعقعية الجسر – النبطية شمال نهر الليطاني، مع استمرار التحقيقات لمعرفة الجهة المسؤولة عن العملية. وأكد التزامه بمنع أي نشاط عسكري غير شرعي داخل الأراضي اللبنانية.
أورتاغوس: على لبنان تحمّل المسؤولية
وفي أول تعليق أميركي، أكدت المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، لقناة “العربية” أن “الولايات المتحدة لا تريد الحرب، بل ترغب في استمرار وقف النار بين لبنان وإسرائيل”. وأضافت: “حان وقت الديبلوماسية، والرئيس اللبناني جوزاف عون يدعم المفاوضات”، مشددةً على أن “أميركا تؤكد ضرورة نزع سلاح حزب الله بالكامل، وإيران والحزب مسؤولان عن جرّ لبنان إلى الحرب”.
كما دعت أورتاغوس لبنان إلى “تحمّل مسؤولياته بدلاً من إلقاء اللوم على إسرائيل”، مشيرة إلى أن انسحاب إسرائيل من النقاط الحدودية يجب أن يتم عبر المفاوضات.
الموقف اللبناني الرسمي
أدان رئيس الحكومة نواف سلام القصف الاسرائيلي واعتبره “تصعيداً خطيراً يهدد أمن لبنان واستقراره”، مؤكداً التزام الحكومة بالقرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن. وأجرى اتصالاً بقائد الجيش العماد رودولف هيكل، مطالباً بتحقيق عاجل لضبط الأمن ومنع أي استغلال خارجي للوضع.
وخلال زيارته الرسمية إلى باريس، أكد رئيس الجمهورية جوزاف عون أن لبنان “يرفض أن يكون ساحة لتصفية الحسابات”، مشدداً على أن الدولة اللبنانية لا تتبنى أي عمليات عسكرية ضد إسرائيل. وأوضح أن التحقيقات تشير إلى أن “حزب الله” ليس وراء إطلاق الصواريخ الأخيرة، داعياً جميع الأطراف إلى عدم التصعيد. كما أجرى عون اتصالاً بالرئيس السوري أحمد الشرع لمناقشة التطورات الحدودية، والاتفاق على تعزيز التعاون الأمني لمنع أي عمليات تسلل أو تهريب أسلحة.
ماكرون يدعو إلى ضبط النفس
واعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الضربات الاسرائيلية على لبنان “غير مقبولة”، واصفاً إياها بانتهاك واضح لوقف إطلاق النار وتهديد لاستقرار المنطقة. وأعلن عزمه التواصل مع رئيس الوزراء الاسرائيلي والرئيس الأميركي دونالد ترامب لبحث التصعيد ومحاولة احتواء الأزمة، معرباً عن استعداد فرنسا لاستضافة مؤتمر دولي لدعم لبنان اقتصادياً وإعادة إعمار المناطق المتضررة.
عقوبات جديدة على “حزب الله”
وسط التصعيد، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بـ”حزب الله”، متهمةً إياها بتمويل أنشطته عبر شبكات تجارية وتهريب النفط. وأكدت أن هذه الخطوة تأتي في إطار جهودها “لوقف أنشطة الحزب التي تهدد استقرار لبنان والمنطقة”.
إسرائيل تواصل تهديداتها
حذر رئيس الوزراء الاسرائيلي من أن إسرائيل “لن تتسامح مع أي تهديد من لبنان”، مؤكداً أن “المعادلة قد تغيرت” وأن تل أبيب سترد بقوة على أي هجوم صاروخي يستهدف أراضيها. كما شددت قيادة الجيش الاسرائيلي على أن الضربات الأخيرة “رسالة تحذيرية”، مشيرة إلى استعدادها لتوسيع عملياتها إذا استمرت التهديدات.
الى ذلك، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش جميع الأطراف إلى الالتزام بالقرار 1701 ووقف العمليات العسكرية فوراً. كما أجرى وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي محادثات مع نظرائه في لبنان وإسرائيل وفرنسا، محذراً من تداعيات استمرار العنف، فيما أعلنت الجامعة العربية عقد اجتماع طارئ لبحث الأزمة.
إشترك بالقائمة البريدية
البريد الإلكتروني
إشترك الأن