عدم التزام الولايات المتحدة قد يدفع الحلفاء إلى ملاحقة تدابير أمنية مستقلة مما يهدد بانتشار الأسلحة النووية وسباق التسلح الإقليمي
فيما يستعد الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي لمنع تجديد تمويل الحرب في اوكرانيا ما لم يوافق الديمقراطيون على إضافة إجراءات صارمة لتقييد الهجرة على حدود أميركا مع المكسيك، تواجه إدارة الرئيس جو بايدن خيار الاستسلام لمطالب الجمهوريين أو المخاطرة باحتمالات هزيمة أوكرانيا في ساحة المعركة خلال الأشهر المقبلة ضد روسيا، إذا لم تصل إليها المساعدات بحلول نهاية العام. فما حسابات وتوازنات المعركة داخل الكونغرس، وهل يعارض الجمهوريون تمويل كييف، ولماذا يتوقع أمين عام حلف الناتو أخباراً سيئة في شأن حرب أوكرانيا؟
انهيار وشيك
عشية التصويت الاختباري الحاسم في مجلس الشيوخ على مشروع قانون الإنفاق الطارئ لتمويل أوكرانيا وإسرائيل وتايوان بقيمة 106 مليارات دولار، منها 61.4 مليار لأوكرانيا، بدا الانهيار الذي تخشاه إدارة بايدن وشيكاً مع اشتراط الجمهوريين إضافة عديد من الإجراءات على مشروع القانون لتشديد أمن الحدود الجنوبية وتقييد الهجرة المتزايدة للبلاد، ويعني هذا إضعاف احتمالات التوصل إلى أي اتفاق بين الحزبين قريباً، ومن ثم إثارة القلق حول ضعف عزيمة الولايات المتحدة في وقت حذر فيه أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ من احتمال صدور أخبار سيئة في شأن الحرب في أوكرانيا مع حلول الشتاء في ظل موقف متأزم على الجبهة عقب فشل هجوم كييف المضاد
وعلى رغم مشاركة كبار مسؤولي إدارة بايدن في إحاطة سرية داخل مجلس الشيوخ ضمت وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، والجنرال تشارلز كيو براون رئيس هيئة الأركان المشتركة، وقادة آخرين من الاستخبارات، إلا أن المحصلة النهائية ظلت صفراً مع تصاعد الصراخ والاتهامات المتبادلة بين الجمهوريين والديمقراطيين، مما أدى إلى انسحاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من المشاركة عبر الفيديو في هذه الإحاطة، التي كان يأمل من خلالها توجيه نداء شخصي للحصول على مزيد من المساعدة الأميركية لبلاده.
معارك سياسية
غير أن المعركة بين الحزبين لم تكن في حقيقة الأمر تتعلق برفض الجمهوريين تمويل أوكرانيا، حيث كان من الواضح أن غالبيتهم يؤيدون التمويل، من أبرزهم زعيم الأقلية الجمهورية ميتش ماكونيل والسيناتور ليندسي غراهام، بل إن رئيس مجلس النواب مايك جونسون وصف علناً وبشكل متكرر مساعدات أوكرانيا بأنها أولوية حاسمة لمجلس النواب خلال الأسابيع الأخيرة، على رغم تصويته ضد المساعدة الأمنية الإضافية لكييف في وقت سابق من هذا العام قبل أن يصبح رئيساً للمجلس.
وما يفسر هذا التغير، أن الجمهوريين الراغبين في تنفيذ أجندتهم السياسية حول تشديد إجراءات الهجرة، وجدوا الفرصة سانحة لتحقيقها عبر دمج عناصر خطتهم في مشروع قانون التمويل الطارئ المقدم، لجعل اللجوء السياسي لأميركا أكثر صعوبة، ومعالجة ما يصفونه بأوجه الخلل في أزمة المهاجرين، وهو ما يعترض عليه الديمقراطيون الذين يتهمون الجمهوريين بممارسة السياسة بشكل يهدد أمن ومستقبل أوكرانيا، بحسب السيناتور كريس مورفي، الذي قال إن الجمهوريين سيندمون عندما يدخل فلاديمير بوتين إلى إحدى دول “الناتو”.
مخاوف حقيقية أم مبالغة؟
قبل يومين، حذرت مديرة مكتب البيت الأبيض للإدارة والموازنة شالاندا يونغ، في رسالة إلى رئيس مجلس النواب، من أن قطع تدفق الأسلحة والمعدات الأميركية سيعرقل أوكرانيا في ساحة المعركة، وأنه لا يوجد وعاء سحري متاح حالياً للتمويل، مؤكدة أن المال لدى الإدارة نفد، وكذلك الوقت.
ووفقاً لرسالة البيت الأبيض، فقد أنفقت الوكالات الفيدرالية كل أو معظم التمويل الإضافي الذي وافق عليه الكونغرس لدعم أوكرانيا، وحتى منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استخدمت وزارة الدفاع 97 في المئة من الأموال التي تلقتها، وأنفقت وزارة الخارجية 100 في المئة من التمويل المتعلق المساعدات العسكرية التي تلقتها، كما استنفدت أوعية المساعدات الأخرى بالمثل.
لكن بعض مسؤولي البنتاغون نفوا مزاعم البيت الأبيض بأن المساعدات العسكرية لأوكرانيا على وشك النفاد، قائلين لصحيفة “نيويورك تايمز”، إنهم يتوقعون استخدام 4.8 مليار دولار متبقية من المساعدات تستمر خلال فصل الشتاء.
مكانة أميركا على المحك
وفيما يراوح مشروع قانون الموازنة الطارئ مكانه، حذر محللون سياسيون ودفاعيون من أن حجب الدعم الإضافي لكييف في هذا المنعطف الحرج لن يضر بالجهود الحربية الجارية فحسب، بل سيقلل أيضاً من مكانة الولايات المتحدة العالمية، مما يضخ حالة من عدم اليقين إلى العالم بعدما أثبتت الولايات المتحدة التزامها منذ بدء الحرب في فبراير (شباط) 2022 بدعم القانون الدولي والنظام العالمي الليبرالي، ومواجهة تصورات التراجع عن القيادة العالمية.
واستنكر مدير برنامج العلاقات الدولية في كلية ماكسويل للمواطنة والشؤون العامة في جامعة سيراكيوز الأميركية، مايكل جون ويليامز، التناقض الأميركي الصارخ في إنفاق تريليونات الدولارات على حربين في العراق وأفغانستان، من دون أن يظهر سوى القليل جداً من التطورات الإيجابية، في حين لم تقدم سوى القليل من المساعدات التي استخدمتها كييف بحكمة لإضعاف ما تسميه وزارة الدفاع الأميركية المنافس القريب من الحلفاء، محذراً من أنه “إذا لم يهزم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ساحة المعركة الآن، فسوف تنفق الولايات المتحدة أكثر بكثير للردع والدفاع ضد أي عدوان روسي في المستقبل”.
ويضيف ويليامز الذي يشارك أيضاً كخبير في مبادرة الأمن في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن التابع للمجلس الأطلسي، أن إيمان الخصوم بتصميم الولايات المتحدة على الاستمرار في دعم كييف، سيجعل موقف الردع العالمي للولايات المتحدة أكثر قابلية للتصديق وأكثر فاعلية، كما أن المساعدات المقدمة لأوكرانيا من شأنها أن تطمئن الأصدقاء والحلفاء في مختلف أنحاء العالم، وتؤكد الاستقرار والأمن، في حين أن تصور عدم موثوقية الولايات المتحدة قد يدفع الحلفاء إلى ملاحقة تدابير أمنية مستقلة، مما يهدد بانتشار الأسلحة النووية وسباق التسلح الإقليمي، وكلا الأمرين لا يصبان في مصلحة الولايات المتحدة.
المستفيد الأكبر
وبخلاف ما يعتقد كثيرون، فإن المستفيد الأول من مساعدة أوكرانيا هي الولايات المتحدة الأميركية وصناعتها الدفاعية وجيشها، بحسب ما يقول مارك ثيسن المتخصص في معهد أميركان إنتربرايز، حيث يشير في مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن 90 في المئة من أصل 68 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا والتي وافق عليها المشرعون في الكونغرس، لا تذهب مباشرة إلى أوكرانيا، بل يتم استخدامها في الولايات المتحدة لصناعة أسلحة جديدة أو لاستبدال الأسلحة المرسلة إلى كييف من المخزونات الأميركية.
ووفقاً لتحليل أجراه فريق من الخبراء في معهد أميركان إنتربرايز، فإن هناك 117 خط إنتاج في 31 ولاية و71 مدينة أميركية في الأقل، ينتج فيها العمال الأميركيون أنظمة أسلحة رئيسة لأوكرانيا، فضلاً عن 13 خط إنتاج آخر في 10 ولايات و11 مدينة تنتج أسلحة أميركية جديدة لحلفاء “الناتو” لتحل محل المعدات التي أرسلوها إلى أوكرانيا، وهذا من شأنه تعزيز القاعدة الصناعية الأميركية عبر ضخ أموال نقدية كبيرة في المصانع في أنحاء البلاد مما يفيد العمال الأميركيين بشكل مباشر، وتخلق وظائف وفرصاً للموردين المحليين والمتاجر والمطاعم، وغيرها من الشركات التي تدعم المصانع التي تنتج الأسلحة.
والأهم من ذلك، فإن القاعدة الصناعية العسكرية التي ظلت خاملة إلى حد بعيد في بعض نظم الأسلحة والذخيرة عادت للعمل، وعلى سبيل المثال لم تصنع الولايات المتحدة صاروخاً واحداً جديداً مضاداً للطائرات من طراز “ستينغر” منذ عام 2005، لأنها كانت تقاتل تنظيمات متطرفة لا تمتلك مقاتلات نفاثة، لذا تعثر الإنتاج. لكن الآن وبفضل المساعدات الأوكرانية، وقع البنتاغون عقداً بقيمة 624.6 مليون دولار العام الماضي لبناء صواريخ “ستينغر” في توكسون، لتحل محل نحو 1400 صاروخ تم إرسالها إلى أوكرانيا، ومن دون جهود إعادة الإمداد في أوكرانيا، فمن المرجح أن يظل خط إنتاج “ستينغر” مغلقاً حتى تبدأ القنابل في التساقط خلال صراع حول تايوان.
التسمية خطأ
ومن بين الأمثلة الأكثر إثارة للصدمة على تراجع القاعدة الصناعية الدفاعية، هو كفاح الولايات المتحدة لإنتاج ذخيرة بسيطة نسبياً مثل قذائف مدفعية عيار 155 ملم، التي سيكون هناك طلب كبير عليها في أي صراع تخوضه الولايات المتحدة، ولأن أوكرانيا تطلق ما بين ستة وثمانية آلاف قذيفة من هذا النوع يومياً، تحولت الولايات المتحدة من إنتاج أقل من 15 ألف قذيفة شهرياً إلى زيادة قدرها 500 في المئة بعدما خصص البنتاغون 1.5 مليار دولار لزيادة الإنتاج، وهو في طريقه للوصول إلى 100 ألف قذيفة شهرياً.
وخلص مارك كانسيان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن كثيراً من الأموال التي تدعم أوكرانيا بشكل مباشر لا تنفق في الخارج، بل في الولايات المتحدة، وهذا يجعل من مساعدة أوكرانيا بنحو 68 مليار دولار حرفياً “تسمية خطأ”.
عوائق إضافية
لكن المشكلة التي تواجه أوكرانيا لا تتعلق فقط بالتمويل الأميركي، إذ تكافح الدول الأوروبية أيضاً لتأمين مساعدات جديدة لأوكرانيا، حيث كان زعماء الاتحاد الأوروبي يتوقعون حتى وقت قريب الاتفاق على منح أوكرانيا 50 مليار يورو، أي ما يعادل نحو 54 مليار دولار، في هيئة دعم طارئ لموازنة البلاد للسنوات الأربع المقبلة في قمة الاتحاد الأوروبي المقبلة، وكان الاتحاد يدرس تقديم دعم عسكري إضافي لكييف، لكن هذه المساعدة أصبحت الآن موضع شك بسبب معارضة المجر ومشكلات الموازنة في برلين.
ويبدو من المرجح الآن أن يواجه الاتفاق على الحزمة تأخيراً، حيث من المنتظر أن يوافق زعماء الاتحاد الأوروبي في قمتهم المقبلة على تكرار مبلغ 18 مليار يورو المقدم لأوكرانيا هذه السنة في العام المقبل، الذي تم دفعه من طريق الاقتراض من الأسواق.
هل تنهزم أوكرانيا؟
في وقت أوضح فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه يستثمر في حرب طويلة، ووقع على تخصيص ما يقارب ثلث إنفاق البلاد للدفاع الوطني في موازنة العام المقبل، أي ما يقارب 109 مليارات دولار، بزيادة كبيرة عن الأعوام السابقة، تواجه أوكرانيا طريقاً مظلماً للاستمرار في الحرب، وهو ما عبر عنه رئيس المكتب الرئاسي لأوكرانيا أندريه يرماك في تصريحات بالمعهد الأميركي للسلام في واشنطن، حيث أوضح أنه إذا فشل الكونغرس في الموافقة على المساعدة العسكرية لأوكرانيا بسرعة، فهناك احتمال كبير للغاية بأن تخسر أوكرانيا الحرب، حيث سيكون من المستحيل الاستمرار في تحرير الأجزاء التي سيطرت عليها روسيا.
ويحذر مسؤولون أوكرانيون آخرون من أنه من دون تدفق مزيد من المساعدات، فإنهم في أفضل الأحوال محكوم عليهم بالوصول إلى طريق مسدود، بعدما كافحت كييف للتقدم في ساحة المعركة مع تباطؤ شحنات الأسلحة، وتواجه حالياً تحديات التجنيد والتدريب مع تزايد نقص الجنود، وهو تحذير يتوافق مع تحذير مماثل من الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، حول احتمال صدور أخبار سيئة في شأن أوكرانيا، مطالباً الحلف بدعم أوكرانيا في الأوقات الجيدة والسيئة.
من الهجوم إلى الدفاع
في حين يتساءل المحللون عما إذا كان الهجوم المضاد الفاشل لأوكرانيا قد انتهى، يشير المسؤولون في كييف إلى تحول نحو الدفاع مع اقتراب فصل الشتاء، فقد أشار مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولياك إلى استخدام تكتيك مختلف للحرب على الخطوط الأمامية وفي المدن، من خلال الدفاع الفعال في مناطق معينة، ومواصلة العمليات الهجومية في مناطق أخرى، والعمليات الاستراتيجية الخاصة في شبه جزيرة القرم وفي مياه البحر الأسود، وإعادة صياغة الدفاع الصاروخي بشكل كبير للبنية التحتية الحيوية.
ودفع هذا التحول بعض المحللين إلى التساؤل عما إذا كان هذا التغيير يعكس انتهاء الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في يونيو (حزيران)، والذي فشل في تحقيق التقدم المأمول، إذ يشير مؤسس ورئيس مجموعة “أوراسيا”، إيان بريمر، إلى أن تحول الأوكرانيين إلى بناء التحصينات الدفاعية، يضع نهاية للهجوم المضاد الفاشل، كما قال محللون في معهد دراسة الحرب الأميركية، السبت، إن سوء الأحوال الجوية يواصل إبطاء وتيرة العمليات القتالية الأوكرانية والروسية عبر خط المواجهة بأكمله، لكنه لم يوقفها بالكامل.
وتنتظر كييف بفارغ الصبر موافقة الكونغرس على المساعدات حتى تتمكن من صد أي هجمات روسية محتملة خلال الشتاء أو الربيع، لأنه من دون هذه المساعدات من المؤكد أن هزيمة أوكرانيا ستكون على الأرجح مسألة وقت وليس مسألة محل شك.