من المفروض والطبيعي أن يؤدي الإعلام دوراً محورياً في تشكيل الرأي العام، خاصة في الدول التي تمر بمرحلة انتقالية بعد تغييرات سياسية كبرى. اليوم، مع انتقال سوريا إلى مرحلة ما بعد نظام الأسد، وتولي الحكومة الانتقالية مهام تسيير أعمال الدولة، يصبح دور الإعلام أكثر أهمية من أي وقت مضى. فالإعلام في هذه المرحلة ليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار، أو التغطيات، بل أصبح أداة حقيقية وبناءة لصياغة مستقبل البلاد، وضمان الشفافية بين قادة المرحلة والمواطنين، وتعزيز الوحدة الوطنية، ومراقبة أداء الحكومة.
لكن التحديات التي تواجه الإعلام السوري في هذه الحقبة الجديدة، لا تقل أبداً عن الفرص المتاحة أمامه ليكون فاعلاً وموجهاً للرأي العام، وسلطة رابعة حقيقية أيضاً.
كلنا يعلم الإرث الذي يحمله إعلامنا السوري من سيطرة للسلطة، وتوجيهه بما تقتضي مصالحها. فما كان من مهمة له سوى تلميع صورة الأسد، وانجازاته، وتضخيم كل ما يقوم به، إذ كان إعلام الرأي الواحد والشخص الواحد، وأداة دعائية للنظام وحده لا غير من دون أي هامش حرية يذكر.
مع اندلاع الثورة السورية، انقسم المشهد الإعلامي بين وسائل إعلام موالية ومعارضة، ما أدى إلى استقطاب شديد في الخطاب الإعلامي، وهو أحد أهم التحديات التي تواجه الإعلام بعد سقوط الأسد، وفي هذه المرحلة بالتحديد، إذ لا بد من إعادة بناء المؤسسات الإعلامية، وإعادة هيكلة المشهد الإعلامي السوري بشكل مهني ومدروس، على أسس مهنية، على أن يتمتع القطاع كله بالاستقلالية وحماية حرية التعبير، كي نضمن أن يكون سلطة رابعة بالفعل لا بالشعارات، كما كان في السابق.
في الوقت نفسه، يجب محاربة الاستقطاب الإعلامي. فقد اعتادت وسائل الإعلام السورية في السنوات الماضية الانحياز إلى طرف معين. اليوم، باتت الموضوعية والحياد ضرورة ملحة لنقل الحقائق بصدق، بعيداً عن التلاعب السياسي، وهذا يحتاج إلى موارد مالية. لكن التمويل الدولي أو الداخلي قد يحمل معه تأثيرات سياسية، ما يتطلب البحث عن نماذج تمويل شفافة ومستدامة، ولا تتدخل بالسياسات التحريرية.
أما ضمان حرية الصحافة فهو الأهم، لضمان مستقبل آمن للصحافة السورية عامة. بالرغم من سقوط النظام السابق، قد تواجه الصحافة قيوداً جديدة تحت ذرائع مختلفة، مثل حماية الاستقرار أو منع التحريض، ما يجعل وجود قوانين تكفل حرية التعبير أمراً لا بد منه، ويجب أن يتضمن الدستور السوري الجديد مواد تضمن حرية الإعلام، واستقلاليته التامة.
وفي ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، مع تأخر بث أي وسيلة إعلام رسمية، أصبحت الشائعات والأخبار المضللة تمثل خطراً حقيقياً على استقرار البلاد، ما يستوجب وضع آليات للتحقق من الأخبار، ونشر الوعي الإعلامي بين المواطنين.
في هذه المرحلة الحرجة، يؤدي الإعلام دوراً مركزياً في إعادة تشكيل وعي المواطنين وصياغة مستقبل سوريا. ويمكن تحديد أبرز أدواره على النحو التالي:
مراقبة الحكومة الانتقالية وضمان الشفافية: الإعلام المستقل هو أحد أهم أدوات الرقابة على الأداء الحكومي، إذ يضمن عدم انحرافه عن المسار الديموقراطي من خلال التحقيقات الصحفية ونقل صوت الشارع. وبالتالي، يمكن الإعلام أن يحدّ من الفساد، ويجبر المسؤولين على التزام مبادئ الحكم الرشيد.
تعزيز الحوار الوطني والمصالحة: بعد سنوات من الانقسام والتشرذم، تحتاج سوريا إلى خطاب إعلامي يوحد ولا يفرق. وهنا يأتي دور الإعلام، كي يساهم في تعزيز المصالحة الوطنية بتسليط الضوء على القواسم المشتركة بين السوريين، وإعطاء مختلف الأطراف السياسية مساحة للتعبير عن رؤاها بشكل سلمي.
نشر الوعي السياسي وتعزيز المشاركة الديموقراطية: الكثير من السوريين لم يعتادوا ممارسة ديموقراطية حقيقية بسبب عقود من القمع السياسي. لا بد للإعلام في هذه المرحلة من أن يمارس دوره في تثقيف المواطنين حول العملية الديموقراطية، وأهمية الانتخابات، وحقوقهم السياسية، ما يشجعهم على المشاركة الفعالة في بناء مستقبل البلاد.
مواجهة الدعاية المضادة والتضليل الإعلامي: رغم سقوط نظام الأسد، ثمة قوى مختلفة داخل سوريا وخارجها لا تزال تحاول التأثير على الرأي العام السوري من خلال حملات إعلامية مضللة. فيجب أن يكون الإعلام المستقل خط الدفاع الأول بوجه هذه الدعاية، من خلال تقديم محتوى دقيق، يستند إلى الحقائق لا الأيديولوجيات.
دعم عملية إعادة الإعمار: إلى جانب دوره السياسي، يمكن للإعلام أن يكون شريكاً في عملية إعادة الإعمار، بتسليط الضوء على المبادرات التنموية، ونقل احتياجات المواطنين، وتشجيع الاستثمارات، وتحفيز السوريين في الخارج على المساهمة في بناء وطنهم.
كي ينجح الإعلام في أداء دوره في هذه المرحلة الحساسة، يحتاج إلى تطوير نموذج جديد يستند إلى الإعلام المهني المستقل، من خلال إنشاء مؤسسات إعلامية جديدة، أو تطوير المؤسسات القائمة باعتمادها معايير مهنية واضحة، تعمل بعيداً عن الأجندات السياسية الضيقة. ويجب التشجيع على التعددية والتنوع، وهذا يعتمد على وجود وسائل إعلام تمثل مختلف الآراء والتيارات السياسية، من دون احتكار أو إقصاء.
لتحقيق ذلك، لا بد من حماية الصحفيين بإصدار قوانين تحميهم من الملاحقات التعسفية وتوفر بيئة آمنة للعمل الإعلامي، وتعزيز وعي المواطنين بمصادر الأخبار الموثوقة، ما يقلل من تأثير الدعاية والشائعات.
الأمر الآخر والمهم هو التعاون الإقليمي والدولي، والاستفادة من الخبرات الإعلامية في الدول التي مرت بمراحل انتقالية مشابهة، وتطوير شراكات مع المؤسسات الإعلامية العالمية لتعزيز المهنية.
يقف الإعلام السوري اليوم على أعتاب مرحلة جديدة. وبينما تمثل هذه المرحلة فرصة لإعادة بناء إعلام حر ومستقل، فإنها تحمل أيضاً تحديات كبيرة أبرزها الموضوعية، وضمان حرية الصحافة، والتصدي للأخبار المضللة. وفي النهاية، لن يكون الإعلام مجرد ناقل للخبر، بل سيكون عاملاً أساسياً في توجيه مسار البلاد نحو الديموقراطية والاستقرار، أو العكس. لذا، ليس الرهان الآن محصوراً بالإعلاميين، بل بالسوريين جميعاً، لدعم إعلام مسؤول في خدمة الوطن، وليس أداة بيد السلطة.
تصفح أيضاً