تصاعد الفوضى العالمية وسباق الردع النووي
يعيش العالم اليوم ظاهرة غير مسبوقة من “تناذر الفطام الأمني الاستراتيجي الكوني”، حيث تتخلى القوى الكبرى عن تحالفاتها التقليدية، مما يدفع الدول المتوسطة والصغيرة إلى البحث عن وسائل ردع ذاتية، غالباً عبر الخيار النووي. ويعيد هذا المشهد للأذهان فوضى ما بعد الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بحرب ثانية أكثر دموية، لكن هذه المرة، يبدو أن العالم يقترب من معادلة خطرة لا تترك بديلاً سوى الردع النووي كوسيلة لتجنب الحروب المباشرة.
ورغم أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قدم نفسه كصانع سلام دولي، فإن سياساته، سواء بالتخلي عن حلفاء الولايات المتحدة التقليديين أو تقويض المؤسسات الدولية، دفعت العالم نحو مرحلة خطيرة من انتشار الأسلحة النووية. لم يعد هذا السيناريو مجرد تكهنات، بل أصبح واقعاً ملموساً، حيث تسارع العديد من الدول، في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، نحو امتلاك قدرات نووية دفاعية بعد تراجع المظلة الأمنية الأمريكية.
تفكيك التحالف الغربي وعودة منطق القوة
يظهر التخلي الأمريكي بأوضح صوره في أوروبا، حيث وجدت القارة العجوز نفسها مكشوفة استراتيجياً أمام التهديدات الروسية المتصاعدة. ففي مؤتمر ميونيخ عام 2014، أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوضوح إلى طموح روسيا لاستعادة هيمنتها على أوروبا الشرقية، من بولندا ورومانيا إلى حدود ألمانيا. مع انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها الأمنية، تعود الهواجس الأوروبية من الاجتياحات الروسية، سواء على الطريقة الإمبراطورية القيصرية أو عبر الأساليب الحديثة من الحروب الهجينة والمناورات الجيوسياسية.
لكن لا تتوقف أزمة الفطام الأمني عند أوروبا فقط، فقد تسببت الحرب التجارية التي أطلقها ترامب في تصدعات كبيرة داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو). كما أن تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين، مثل السناتور جي دي فانس، عن “احتلال غرينلاند” تشير إلى نظرة أمريكية جديدة لا ترى في الحلفاء سوى منافسين يمكن الضغط عليهم أو التخلي عنهم.
الانعكاسات في شرق آسيا: سباق تسلح نووي محتمل
في آسيا، ازداد القلق من احتمالية أن تساوم الولايات المتحدة على أمن المنطقة في إطار صفقاتها مع الصين. وقد أدى إلغاء وزير الدفاع الأمريكي السابق اجتماعات استراتيجية مع المسؤولين العسكريين في كوريا الجنوبية إلى تعزيز مخاوف الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، الذين أصبحوا يعتقدون أن عليهم الاعتماد على أنفسهم لحماية أمنهم القومي.
اليابان، التي تمتلك واحدة من أقوى القوات البحرية في العالم، باتت تفكر جدياً في تطوير برنامجها النووي، بينما ترى تايوان أن الخيار النووي قد يكون السبيل الوحيد لمواجهة تهديد الغزو الصيني. أما كوريا الجنوبية، التي كانت تمتلك برنامجاً نووياً عسكرياً خلال الستينيات، فيمكنها إعادة تفعيله بسرعة كبيرة، حيث يقدر الخبراء أنها قادرة على امتلاك سلاح نووي وظيفي خلال أسابيع.
أوروبا.. الخيار النووي كبديل عن الحماية الأمريكية
مع فشل أوروبا في إقناع واشنطن بتوفير غطاء أمني كافٍ، أصبح السباق نحو الردع النووي واقعاً جديداً في القارة.
أوكرانيا، التي كانت القاعدة العلمية والصناعية للبرنامج النووي السوفيتي، أدركت بعد الغزو الروسي أن الضمانات الدولية لحمايتها لا تعدو كونها “وعوداً جوفاء”. يقدر الخبراء أن كييف تحتاج إلى أقل من ستة أشهر لاستعادة قدراتها النووية العسكرية إذا قررت ذلك.
بولندا، رغم افتقارها لصناعة نووية متقدمة، تمتلك قاعدة صناعية قوية وتكنولوجيا متطورة، ما يجعل تطوير سلاح نووي في متناولها خلال 9 إلى 12 شهراً.
رومانيا، بوضع مشابه لأوكرانيا، قد تسعى لتعاون نووي إقليمي مع دول البحر الأسود لموازنة تهديدات روسيا.
ألمانيا والسويد، اللتان تمتلكان تكنولوجيا متقدمة، تناقشان علناً إمكانية تطوير برامج نووية عسكرية، في ظل تراجع الثقة بالتحالف مع واشنطن.
من جانبها، تدرس ألمانيا خياراً آخر يتمثل في الدخول في شراكة نووية مع فرنسا، لكن يبدو أن برلين، في نهاية المطاف، ستميل إلى تطوير سلاحها النووي الخاص، رغم التعاون مع باريس لاكتساب الخبرات اللازمة.
الشرق الأوسط.. قنبلة موقوتة
في الشرق الأوسط، يبدو الوضع أكثر خطورة، حيث تتزايد مخاوف الدول الإقليمية من أن تتحول إسرائيل إلى قوة مهيمنة بشكل مطلق، خصوصاً مع الدعم الأمريكي اللامحدود. ومع تصاعد القمع ضد الفلسطينيين وفرض ما يسمى “السلام الإسرائيلي” (Pax Israelica)، تجد دول المنطقة نفسها أمام معضلة أمنية كبرى.
تدرك بعض القوى الإقليمية أن استمرار التوسع الإسرائيلي في ظل الدعم الأمريكي المطلق قد يؤدي إلى انعدام أي توازن استراتيجي، مما يدفعها نحو البحث عن قدرات ردعية مستقلة. وهنا يبرز الخيار النووي كأحد البدائل الأكثر واقعية، خاصة إذا استمر الانفصال الأمريكي عن التزاماتها الأمنية التقليدية.
على المدى القريب، من المرجح أن تؤدي هذه التطورات إلى تزايد برامج التخصيب النووي في دول المنطقة، مما يجعل سيناريو الانتشار النووي أكثر ترجيحاً من أي وقت مضى.
انهيار نظام عدم الانتشار النووي
مع تسارع الأحداث، يبدو أن منظومة منع انتشار الأسلحة النووية قد أصبحت مجرد “وهم عتيق”، حيث تتحضر العديد من الدول لامتلاك قدراتها النووية العسكرية في المستقبل القريب. تشير التقارير إلى أن ثماني دول على الأقل تتخذ خطوات جدية في هذا الاتجاه، مما يعكس فشل النظام الدولي في احتواء السباق النووي الجديد.
في ظل هذه الفوضى، يبدو أن إدارة ترامب لم تدرك أن فرض الاستراتيجيات الأمنية على الحلفاء يتطلب طمأنتهم وليس التخلي عنهم. لكن بدلاً من ذلك، أقدمت واشنطن على كسر تحالفاتها الاستراتيجية، والتخلي عن حماية التجارة العالمية، بل والاقتراب من الدول القوية التي تهدد حلفاءها أنفسهم.
العالم أمام معادلة نووية جديدة
بينما يتداعى النظام الدولي، يصبح استبعاد سيناريو المواجهات النووية ضرباً من السذاجة. لقد أدى التخلي الأمريكي عن حلفائه إلى تآكل الثقة الدولية في اتفاقيات الأمن الجماعي، مما جعل دول العالم تفكر بشكل جاد في تأمين نفسها عبر القوة النووية. ومع ازدياد عدد الدول التي تدخل سباق التسلح النووي، يصبح من الواضح أن المرحلة القادمة ستكون الأكثر خطورة في تاريخ البشرية.
وفي النهاية، لم يعد السؤال: هل سيحدث الانتشار النووي؟ بل أصبح: متى سيحدث.. ومن ستكون أولى ضحاياه؟