لا يزال ملف القواعد الروسية في سوريا أحد أكثر الملفات تعقيداً في المشهد الجيوسياسي الحالي. فمن جهة، تصر روسيا على الإبقاء على قواعدها العسكرية الاستراتيجية التي توفر لها منفذاً حيوياً على البحر الأبيض المتوسط، ومن جهة أخرى، يزداد الضغط الأوروبي لإخراج القوات الروسية من البلاد فوراً. يترافق ذلك مع تزايد الرفض الشعبي للوجود الروسي، خصوصاً مع ورود تقارير عن احتضان قاعدة حميميم عدداً من قادة “فلول النظام البائد” المتورطين في شن هجمات على قوات الأمن الداخلي والمدنيين في مناطق مثل اللاذقية، طرطوس، حماة وحمص.
عرض روسي جديد إلى دمشق
وفقاً لمصدر مطلع تحدث لموقع “لبنان الكبير”، قدَّمت روسيا عرضاً للرئاسة السورية عبر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، يتضمن خمس نقاط رئيسية:
– استئناف صفقة القمح: تزويد سوريا بكميات من القمح بأسعار مخفضة، مع الاشارة إلى أن هناك 300 ألف طن لم يتم توريدها بعد. هذا العرض يحمل أهمية كبرى لسوريا التي تواجه أزمة غذائية متفاقمة بفعل العقوبات الاقتصادية والانخفاض الحاد في الانتاج المحلي نتيجة الحرب وتأثير التغيرات المناخية على الزراعة.
– كبح القوى المعادية: تعهد روسيا بكبح بقايا فلول النظام السابق والدول الاقليمية التي تسعى الى دعمهم، ما يشير إلى استعداد موسكو للعب دور أكبر في استقرار النظام الحالي من خلال ضبط اللاعبين غير المنضبطين على الساحة السورية.
– الدعم في مجلس الأمن: استخدام موسكو لحق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن لصالح دمشق، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل الضغوط المتزايدة التي تمارسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتمرير قرارات تمس المصالح السورية.
– تسليح الجيش السوري: دعم الجيش السوري عسكرياً، وهو أحد أهم الجوانب التي التي يمكن أن تراهن عليها دمشق، خصوصاً أن روسيا كانت المورد الرئيسي للأسلحة لسوريا، في وقت لا تستطيع فيه أوروبا أو الولايات المتحدة تقديم مساعدات عسكرية بسبب العقوبات.
– تفعيل اتفاقية أمنية مع إسرائيل: التزام موسكو بضمان أمن الحدود السورية مع الجولان المحتل ضمن اتفاقية سبق التفاوض عليها في قاعدة حميميم. هذا البند يعكس محاولات روسيا للحفاظ على توازن دقيق بين دعمها لسوريا وعلاقاتها مع إسرائيل، التي نفذت عشرات الضربات الجوية ضد أهداف إيرانية وسورية خلال السنوات الأخيرة.
سيناريوهات الرفض والبدائل المطروحة
في حال رفضت دمشق العرض الروسي، فقد تطرح موسكو سيناريو خروج منسق للقوات الروسية، يراعي الحفاظ على مكانتها الاقليمية والدولية. أما في حال قبول العرض، فستتم إزالة الديون جزئياً أو كلياً كجزء من المفاوضات المستقبلية.
على الرغم من أن موسكو لم تفرض حتى الآن أي تهديدات مباشرة، إلا أن الضغط غير المباشر قد يكون واضحاً من خلال تقليل الدعم الاقتصادي، مثل توريد النفط والغاز أو تقليص الدفعات المالية المطبوعة في موسكو، ما قد يؤدي إلى خلل كبير في التوازن الاقتصادي الداخلي لسوريا.
المصدر نفسه أشار إلى أن العرض الروسي جاء بتنسيق من الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ورئيس إحدى الجمهوريات الروسية ذات الأغلبية المسلمة، الذي يشغل منصباً مهماً في مجلس الأمن الروسي. حتى الآن، لم ترد الرئاسة السورية على المقترح، وليس هناك مؤشرات واضحة على قبوله.
بين موسكو وأوروبا.. هامش محدود للمناورة
آرام الدوماني، أمين سر التحالف السوري الوطني، يرى أن دمشق تمتلك فرصة محدودة للمناورة بين العروض الروسية والضغوط الأوروبية. “ربما يكون الحل الأمثل هو الإبقاء على قاعدة روسية واحدة ولكن ضمن شروط متفق عليها، مقابل حوافز من أوروبا.”
ويضيف: “روسيا تطرح هذه العروض كبداية لمفاوضات طويلة، وقد تكون مستعدة لتقديم مزيد من التنازلات. أما أوروبا، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، فلديها أيضاً أوراق ضغط، خصوصاً في ظل العقوبات المفروضة على سوريا. لا يمكننا إهدار أي فرصة، فنحن في وضع كارثي، نعاني من الإنهاك جراء الحرب، ونترقب رفع العقوبات الدولية التي قد تحدث خلال أشهر أو ربما سنة، بناءً على قرار إدارة ترامب المرتقب. كما أن للمملكة العربية السعودية دوراً كبيراً في تحديد مسار هذه التطورات.”
مستقبل الوجود الروسي في سوريا
الواضح أن روسيا لا تنوي الانسحاب من سوريا بسهولة، بل تسعى إلى تعظيم مكاسبها الجيوسياسية والاقتصادية. ومع احتدام الصراع بين القوى الكبرى، ستكون المفاوضات القادمة بمثابة اختبار حقيقي لقدرة دمشق على تحقيق توازن يضمن استمرار دعم حلفائها، من دون خسارة فرص الانفتاح على أوروبا.
في ظل هذه التحديات، يبقى السؤال الأهم: هل ستنجح سوريا في استثمار هذا التنافس الدولي لصالحها، أم أنها ستجد نفسها في موقف الخضوع لإحدى القوتين من دون تحقيق مكاسب استراتيجية؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف عن المسار الذي ستتبعه دمشق في هذا الملف الشائك.