في الوقت الذي تتجه فيه بوصلة الأحداث الاقليمية نحو تهدئة محسوبة في شمال شرق سوريا، جاءت مشاهد انسحاب “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب لتكشف عن تحوّل صامت، لكنه بالغ الدلالة، في علاقة الادارة الذاتية مع الدولة السورية. الانسحاب لم يكن مجرد حركة عسكرية اعتيادية، بل نتاج سلسلة تفاهمات سياسية وأمنية تمخضت عن سنوات من الاستنزاف الميداني، والضغوط الاقليمية، وتغير المزاج الدولي حيال النموذج الاداري الذي أسسته “قسد” في مناطق سيطرتها.
منذ العام 2015، شكّلت الأحياء الواقعة شمال حلب نقطة تماس بين مشروعين متوازيين: الدولة السورية التي تسعى إلى استعادة سيادتها الكاملة، وقوات “قسد” التي قدّمت نفسها كشريك محلي موثوق في الحرب على الارهاب، لكنها تحولت تدريجياً إلى كيان ذي طموح سياسي مستقل، مدعوم من الولايات المتحدة. اليوم، وفي ظل غياب مظلة أميركية واضحة للمشروع الكردي، وعودة النظام السوري إلى طاولة التفاوض من موقع أقوى، تُطوى صفحة من التحدي العسكري والاداري في قلب واحدة من أكثر المدن تعقيداً.
في مشهد يعكس تغيراً لافتاً في ديناميات السيطرة شمالي سوريا، خرج أول رتل عسكري تابع لـ “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) من حيي الشيخ مقصود والأشرفية شمال مدينة حلب، في خطوة وصفت ب”الاختراق السياسي”، بعد سنوات من التوتر وغياب التنسيق بين دمشق والادارة الذاتية.
الانسحاب، الذي جرى الجمعة 4 نيسان تحت إشراف مباشر من وزارة الدفاع السورية، جاء تطبيقاً لاتفاق أُبرم مطلع الشهر الجاري بين ممثلين عن رئاسة الجمهورية و”المجلس المدني” المشرف على الحيين، وتضمن 14 بنداً أبرزها انسحاب تدريجي لـ”قسد” ودمج مؤسساتها الأمنية والخدمية في هياكل الدولة السورية.
من الانفصال إلى إعادة الاندماج
الرتل الذي ضم نحو 500 مقاتل بسلاحهم، توجّه أولاً إلى دير حافر، ثم إلى مناطق شمال شرقي سوريا، حيث الثقل العسكري والاداري لـ “قسد”. في المقابل، تولت قوات “الأمن العام” السوري مرافقة الرتل لتأمين الطريق، في دلالة على تفاهمات ميدانية تسبق التحولات السياسية.
الخطوة لم تأتِ من فراغ. فالاتفاق الأخير بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، والموقع في 10 آذار، كان بمثابة خريطة طريق لمرحلة جديدة عنوانها: “الدمج التدريجي”. وبموجب هذه التفاهمات، تبدأ عملية تبييض سجون الطرفين، وقد أفرج بالفعل عن أكثر من 200 موقوف في أولى مراحل التنفيذ، على أن يتجاوز العدد الاجمالي 600 موقوف في الأيام المقبلة.
الأشرفية والشيخ مقصود: اختبار أولي للاتفاق؟
حيّا الشيخ مقصود والأشرفية، اللذان تسيطر عليهما “قسد” منذ العام 2015، لطالما شكّلا عقدة أمنية في خاصرة النظام داخل مدينة حلب. وعلى الرغم من دخول “إدارة العمليات العسكرية” الموالية لدمشق نهاية العام الماضي، فإن التوتر بقي مسيطراً، وشهدت المنطقة عمليات قنص متبادلة واشتباكات متفرقة.
محمد نور مدني، وهو ناشط محلي، قال لموقع “لبنان الكبير” إن “من المهم إرساء الأمن في مدينة حلب بصورة كاملة، وكان الوجود العسكري لقسد يشكل تهديداً، لا سيما أن هناك عمليات قنص سبق أن حدثت، وتبعتها عمليات خطف واعتقال لكل من اقترب من الحيين، وهذا في الحقيقة شكّل مصدر قلق ورعب للأهالي”.
لكن اليوم، وللمرة الأولى منذ أكثر من عقد، تتقدم الحكومة السورية لإعادة فرض سيطرتها الكاملة على هذه الأحياء، وفق آلية تقوم على “الاندماج المؤسساتي” بدلاً من المواجهة المباشرة. وبحسب مصدر حكومي تحدث إلى “لبنان الكبير”، فإن الكوادر المدنية العاملة ضمن الادارة الذاتية ستُدمج بوزارة الداخلية، بينما تبقى قوى “الأسايش” (الأمن الداخلي) ضمن الحيين، مع أسلحة خفيفة، تحت مظلة الوزارة نفسها.
رسائل داخلية وخارجية
العملية لا تحمل أبعاداً أمنية وحسب، فهي تُقرأ كذلك كإشارة سياسية مزدوجة: أولاً، إلى الداخل السوري، بأن دمشق لا تزال قادرة على “استعادة الهوامش” التي فُقدت خلال الحرب. وثانياً، إلى الخارج، وتحديداً العواصم المنخرطة في الملف السوري، بأن أي حلول مستقبلية لن تتجاوز الدولة المركزية، حتى في مناطق كانت حتى الأمس القريب تُدار ككيانات مستقلة.
أما بالنسبة الى قوات “قسد”، التي حافظت على نفوذها في الحيين على الرغم من الضغوط المتزايدة منذ سنوات، فإن الانسحاب من حلب لا يعني بالضرورة انكفاءً استراتيجياً، بل قد يمثل محاولة لإعادة التموضع تحسباً للمرحلة المقبلة، بحيث تتكثف الضغوط الدولية والاقليمية لتقليص استقلالية الأدارة الذاتية وربطها تدريجياً بالدولة السورية.
دير الزور في الأفق؟
وفيما تتجه الأنظار إلى حلب كأول ساحة اختبار للاتفاق، يرى مراقبون أن مناطق أخرى، لا سيما دير الزور، قد تكون المحطة التالية. وفي هذا السياق، قال الدكتور فاروق الإبراهيم، رئيس حركة الاصلاح والتغيير، لموقع “لبنان الكبير”: “بعد الانتهاء من مشكلة الحيين في حلب، يجب البدء بحل مشكلة دير الزور. هذه يجب أن تكون الخطوة الأولى بعد إنهاء ملف حلب. المدنيون يتوقون الى ذلك، ونحن نرى أن هناك جهوداً إيجابية، لكن نأمل أن تُحل قريباً”.
مناورات الضرورة أم تقارب دائم؟
السؤال الذي يبقى مطروحاً: هل نحن أمام تحول حقيقي في مسار العلاقة بين “قسد” ودمشق، أم مجرد هدنة ضرورية فرضتها التوازنات الدولية والمحلية؟
ما حدث في حلب قد يكون مجرّد البداية، لا النهاية. ومع اقتراب موعد الاستحقاقات السياسية الكبرى في سوريا، ستكون الأحياء الشمالية من حلب أول ميدان يختبر فيه الطرفان صدقية الاتفاق، وقدرتهما على التعايش ضمن صيغة جديدة.