إذا كان من خلاصة عملية لزيارة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس الأخيرة الى بيروت، فإنه يمكن صياغتها على الشكل الأتي: إدارة الرئيس دونالد ترامب معنية في هذه المرحلة بأولوية الإصلاحات الداخلية، أكثر من أولوية التوصل الى ترتيبات أمنية على الحدود الجنوبية..وهي غير مهتمة في المرحلة الحالية أيضاً بما يسميه بعض اللبنانيين “التطبيع مع إسرائيل”، الذي لم يقترحه الاميركيون، ولم يطلبه الإسرائيليون، وسيظل هاجساً لبنانياً دائماً، يعبر عن أسوأ الازدواجيات في الهوية السياسية للبنان.
وهو إستنتاج أميركي مطمئن الى حد ما، لم تتوصل اليه واشنطن بناء على تمنيات لبنانية، أو توصيات إسرائيلية، بل على قراءة واقعية، دقيقة الى حد بعيد، للخلافات اللبنانية الحامية بين تيار ينكر الهزيمة، وتيار يستعجل استثمارها..مع ما يعنيه ذلك من مخاطرة مشتركة، في إساءة فهم السلوك الإسرائيلي الذي لا يخفي نواياه، في إرجاء طلب التطبيع، المستبعد أصلا، لكنه يرفض وقف اطلاق النار، ويبدو الآن وكأنه “يستجيب” لرغبة القوى السياسية اللبنانية التي لا تمانع استمرار الحرب، حتى تجريد حزب الله من الأسلحة (والأموال)، جنوب نهر الليطاني وشماله.
هكذا بدت أورتاغوس في بيروت الأسبوع الماضي، عندما نحّت جانباً، سواء في لقاءاتها وتصريحاتها، التحدي المتمثل بالمنطقة الحدودية الجنوبية، التي تُرك أمر إدارته للجانب الاسرائيلي الذي يتمتع بحرية حركة عسكرية شبه مطلقة، أصابت ضاحية بيروت، واستهدفت البيوت الجاهزة للسكن في قرى الشريط الحدودي، وتابعت الاغتيالات والتصفيات، وانغمست الموفدة الأميركية في مهمة استشكافية، للوزراء الجدد في حكومة نواف سلام، وسيرهم الذاتية وخططهم الإصلاحية، التي يراد ان تنطلق قبل حلول موعد “الإنذار” الأميركي الصريح المتصل بالاجتماعات نصف السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد في الحادي والعشرين من الشهر الحالي.. وهو إنذار يبدو انه أهم من الإنذار الأميركي المماثل، الذي أرجىء على الأرجح، الخاص بتشكيل اللجان الثلاث للتفاوض اللبناني الإسرائيلي، حول الاسرى اللبنانيين، والانسحاب الإسرائيلي من المواقع اللبنانية الخمسة المحتلة، وترسيم الحدود البرية.
هي بالتأكيد ليست مجرد عملية إعادة ترتيب أولويات أميركية في لبنان، تفرضها حاجة عهد الرئيس جوزف عون الى تحقيق قدر من الاصلاح على صعيد المال والاقتصاد والسياسة، الذي يوفر إستقراراً داخلياً يفيد في بلوغ الاستقرار على الحدود الجنوبية مع إسرائيل، والشرقية-الشمالية مع سوريا. ومثلما يمكن للبنان التعايش والتسامح مع الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية، التي تفرضها حكومة بنيامين نتنياهو، وتعتبرها قاعدة للعمل على الجبهة اللبنانية، والسورية أيضا، والتي لا تتسبب بإستئناف الحرب على نطاق واسع ، ولا حتى بإطلاق النار من الأسلحة الفردية على قوات الاحتلال الإسرائيلي المنتشرة على الأراضي اللبنانية، يمكن لواشنطن أن تصرف النظر عن الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي، الى حين، وتتفرغ للمهمة الأكثر إلحاحاً، وهي الإصلاحات اللبنانية، المطلوبة من العالم أجمع منذ ما قبل الحرب الأخيرة، وما بعدها.
وعليه يصبح هذا التحول في الموقف الأميركي، الذي يستجيب لرغبة إسرائيلية لا شك فيها، فرصة لنقل السجال اللبناني حول مطاردة “التطبيع”، أو الالتحاق به، الى العناوين الأقل إثارة للخلاف، حول إرتباط ذلك التحول بحرب الإبادة الإسرائيلية المتصاعدة على قطاع غزة، أو حرب التدمير الأميركية لليمن، أو حملة الترهيب النفسي الأميركية لإيران، أو حتى لسوريا..وهي عناوين جذابة أكثر ومفيدة جداً في مساعدة مافيا المصارف على تجنب الالتزام بالقوانين الإصلاحية للقطاع المصرفي وأسراره السياسية الدفينة.
وهو أمر سهل جداً، خصوصا وأن إدارة ترامب نفسها، توفر مثل هذه الفرصة، عندما تضع كل هذه الحروب، ومعها الحرب الروسية الأوكرانية أيضاً، في عهدة مسؤول أميركي واحد هو المتمول العقاري ستيف ويتكوف، تعاونه في لبنان “الانفلوونسر” مورغان أورتاغوس..اللذان لا يخالفان نتنياهو في رأي ولا في قرار .
بيروت في 7 / 4 / 2025