لم تكن مجرد فضفضة ولا مجرد مقابلة للبوح بما يدور في ذهن الرجل حول السلطة الحالية في سوريا، تركيبتها، ومركزيتها الشديدة. ولم تكن مجرد رأيه الشخصي كسوري يحق له إبداء الرأي في حال بلاده. الكلام الذي صدر عن رجل الأعمال السوري-البريطاني أيمن أصفري، عدا أنه كلام صحيح ومحق أولاً، وصدر عن الكثيرين غيره من السوريين، ممن شاركوا أو قاطعوا مؤتمر الحوار الوطني ثانياً، هو كلام دولي، ينقل علناً ما يدور في أروقة الدبلوماسية الدولية حول سوريا.
خصوصية كلام أصفري مرده إلى مجموعة من العوامل، بات بعضها معلوماً:
1- مجموعة لقاءات مكوكية قام بها أصفري بعد الحوار الوطني والإعلان الدستوري، التقى فيها مجموعة ليست بقليلة من مسؤولين ودبلوماسيين غربيين، أهمها الزيارة الخاصة التي قام بها إلى واشنطن ومجموعة اللقاءات مع مسؤولين رفيعي المستوى فيها بعيداً عن الإعلام أو الأضواء، في محاولة فهم موقف واشنطن وتحفظاتها، مروراً ببريطانيا وفرنسا وصولاً إلى قطر والزيارة الخاصة بأميرها. قطر الدولة التي دفعت المرحلة الإنتقالية بالقوة وشجعت الشرع سراً وعلناً على خطوات إيجابية، وأرسلت عدة رسائل للشرع، بعضها علني، أن القرار بيد الولايات المتحدة الأميركية ولو امتلكت قطر بحراً من الأموال ورغبة واضحة بالدعم والمساعدة.
2- خصوصية لقاءات أصفري الدبلوماسية تأتي من عدة عوامل، أهمها أنه التقى بالشرع مرتين (حتى قبل تقلد الشرع منصب الرئاسة الإنتقالية)، إحداها بعيداً عن مجاملات الإعلام والكاميرات، تناقش فيها الرجلان صراحة حول مستقبل سوريا بعد سقوط الأسد. وهو النقاش الجدي الوحيد الذي خاضه الشرع سياسياً مع أي شخصية سورية من خارج فريق هيئة تحرير الشام. وأيضاً بأنه كان المرشح الأبرز لرئاسة أول حكومة سورية بعد سقوط الأسد لكن ذلك لم يحصل لأسباب بقيت طي الكتمان ولم يبح بها أصفري في مقابلته الهامة؛ يردها الكثيرون إلى أن الرجل لم يقبل بأن يكون رئيس حكومة بلا صلاحيات فعلية ودون أن يقود حكومة تقنية تعددية تعكس توجهاً للإنفتاح نحو الداخل السوري والخارج الدولي بذات الوقت.
3- كلام أصفري بلا شك هام، لكنه ليس كلامه وحده، ولا كلام السوريين الحالمين بديمقراطية ودولة مدنية، هو كلام مجموعة الدول الكبرى التي ترعى المرحلة الإنتقالية في سوريا، لكنها ليست راضية البتة عما يدور في سوريا. لم يتطور عدم الرضا هذا إلى حالة مقاطعة حتى الآن، وهذا ما تأمله هذه الدول التي رغبت أن تخبر الشرع وشعبه علناً عن عدم رضاها عن المسار السياسي لسوريا وتدفعه لـ “إصلاحات” وفق تعبير دبلوماسي أوروبي.
أدناه ربط مقابلة أصفري مع بعض التطورات الدولية والضغوط التي مورست على الشرع، دون المبالغة في التحليل:
– خفضت الولايات المتحدة رتبة التمثيل الدبلوماسي السوري في الأمم المتحدة. ورغم محاولات التقليل من أهمية ودلالة “الخطوة الإدارية”، إلا أن التفصيل الأهم أن وزارة الأمن القومي الأميركية (التي تشرف على إدارة الهجرة) طلبت رسمياً قراراً حيال الاعتراف بالحكومة السورية من وزارة الخارجية الأميركية، والتي استشارت بدورها فريق الأمن القومي في البيت الأبيض. القرار أن الولايات المتحدة لا تعترف بأي حكومة سورية حالياً. صدر هذا القرار بعد إنطلاق الحكومة السورية الجديدة.
– قبلها، سربت الإدارة الأميركية لوكالة رويترز مجموعة مطالب سلمتها لوزير الخارجية الشيباني في مؤتمر بروكسل، وبدأت علناً التعليق عليها والمطالبة بتنفيذها. منذ أسبوع أيضاً، علّق رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميري جيم ريتش أن الإدارة السورية فشلت بتحقيق أي تقدم بملف الأسلحة الكيمائية بعد تقرير سلبي لنيويورك تايمز عن الموضوع.
– بريطانيا ضغطت في الخفاء على الشرع وفريقه ونقلت موقفها الرافض لما يحصل في سوريا اليوم، ورفعت دعمها لحوار سري يجري حالياً بين الشرع وفريقه من جهة وقيادات لشخصيات علوية في الساحل من جهة ثانية للوصول إلى توافق يرضي الطرفين، برعاية منظمة “مركز الحوار الإنساني”، ذات المنظمة التي قادت العلاقات مع الأسد من خلال مستشارته بثينة شعبان بالنيابة عن البريطانيين.
تستعد الخارجية البريطانية لإطلاق حزمة تمويل جديدة لسوريا تدعم “إعادة الاستقرار”، بما في ذلك نزع السلاح ودمج المقاتلين. اللافت أنها لن تمول الحكومة السورية للقيام بذلك بل ستفتح التمويل للمؤسسات الغربية لتشرف على المهمة وتتعاون فيها مع الحكومة السورية. (قرار التمويل كان معلقاً لبعد تشكيلة الحكومة السورية وسيصدر خلال أيام).
– تركيا لديها مجموعة من الملفات العالقة مع الشرع، ليس أولها معاهدة الدفاع المشترك التي يرفض الشرع توقيعها، ولا ترسيم الحدود البحرية، بل الأهم هو رفض الشرع وفريقه مشورة تركيا في موضوع الإعلان الدستوري ومسودة الدستور التي عملت تركيا على تصميمه مع شخصيات المعارضة السياسية سابقاً دعماً للمرحلة الإنتقالية (باختصار، دولة برلمانية، بمجلس تشريعي بغرفتين: مجلس شيوخ أو حكماء ومجلس شعب). تمارس تركيا ضغطاً على الشرع من خلال فصائل الجيش الوطني التي لا تزال تتلقى رواتبها وأوامر قياداتها من تركيا. يظهر الضغط التركي في صراع النفوذ بين الأمن العام والمجالس المحلية التابعة للجيش الوطني في الشمال والتي ترفض التعاون مع الحكومة السورية والأمن العام في عفرين وريفها.
– قطر، التي تبدي حساسية حيال الإعجاب السوري بنموذج محمد بن سلمان (2030)، ليس من باب المنافسة مع السعودية فقط، إنما مما لمسته قطر وسمعته دولياً خلال سعيها لمساعدة الشرع وفك الحصار الإقتصادي عنه.
فكرة “الإقتصاد دون سياسة” التي يتبناها مشروع 2030 (وهو إعادة إنتاج لما يعرف بـ “الرؤية الصينية”، أي رخاء اقتصادي لكن دون حريات وصحافة وسياسة) نظرية مستحيلة التطبيق في بلد فقر ومدمر مثل سوريا. لمست قطر الحاجة لانفتاح سياسي كبير كمقدمة لرفع العقوبات وجلب الأموال اللازمة لإعادة الإعمار. المعلومات أن قطر حصلت على رفض مباشر من الإدارة الأميركية عندما طلبت “رخصة” أو “رسالة تطمينية” للبدء بتمويل الحكومة السورية ودفع رواتب الموظفين دون تعرض قطر لعقوبات أميركية. (مع الإشارة إلى أن قطر مولت سابقاً حكومة غزة التي تتبع لتنظيم مدرج أيضاً على قوائم الإرهاب إلا أن فكرة تمويل الحكومة السورية عبر “شحنات أو طائرات الكاش” كما حصل في غزة تلاقي ردعاً أميركياً واضحاً من إدارة متطرفة مثل إدارة ترامب.
بإيجاز شديد، أخبر أيمن أصفري الشرع والسوريين بالموقف الدولي حول الإداة السورية الحالية وسلوكها. موقف غير راض عما يحصل، لكنه ليس غاضب كلياً ولا يدخل في قطيعة معه حتى الآن على الأقل؛ يتيح الموقف الحالي للشرع التحرك بين هامش “عدم الرضا” الدولي وهامش “الرغبة باستقرار سوريا” التي لا تنفك تتكرر على لسان المسؤولين الغربيين والعرب.
الإشارة الأخيرة إلى أن أصفري كان شديد التهذيب، مفرطاً في الهدوء والدبلوماسية وتحاشى الذهاب إلى قطيعة مع أحمد الشرع أولاً، والأهم من ذلك، مع جمهوره الغاضب والرافض لأي نقد للسلطة حتى لو كان محقاً. كان أصفري غاية في اللطافة في نقده في المقابلة الطويلة التي صممت خصيصاً لينقل فيها الأصفري ما سمعه في دوائر الدبلوماسية الدولية. أفرط الأصفري بلطفه، فدفعت قطر بشخصية أقسى منه، عزمي بشارة، ليكيل للسلطة في دمشق نقداً علنياً وواضحاً حول الملفات الشائكة التي تعرقل فك الحصار الإقتصادي والاعتراف الدولي وتعيق تقدم سوريا والفرج على السوريين.