هل يشهد لبنان لحظة تأسيسية جديدة؟ سؤال بات يفرض نفسه مع كل تصريح يصدر عن رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي لم يكتفِ بكسر جدار الصمت، بل بدأ بتفكيك معادلات طالما حُفرت في ذاكرة الدولة كخطوط حمر. في سابقة لم يشهدها تاريخ الجمهورية، أعلن عون أن الجيش اللبناني فكّك أنفاقاً وصادر أسلحة في مناطق جنوب الليطاني من دون أن يلقى اعتراضاً من “حزب الله”. لم تكن هذه مجرد عملية أمنية في جغرافيا منسية، بل حدث سياسي بامتياز، يُعيد ترتيب علاقة الدولة بسلاح خارجها، ويؤسّس لمسارٍ طال انتظاره: استرداد القرار السيادي.
عون، الذي بدا حازماً في نبرته، حريصاً في خطواته، أعلن أن قرار حصر السلاح بيد الدولة قد اتُّخذ. لكنه اختار طريق الحوار لا المواجهة، وفَهِم أن التغيير الصامت أكثر فاعلية من صخب التصادم. في كلامه، إشارات واضحة إلى تفاهم غير مُعلن مع الحزب، قائم على مبدأ أن الزمن تغيّر، وأن منطق الدولة لم يعد خصماً، بل ضرورة.
وإذا كان الجنوب يتنفس هدوءاً جديداً تحت سقف القرار 1701، فإن الشرارة التالية جاءت من الشرق. دمشق لم تعد تُخيف. الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة نواف سلام، على رأس وفد وزاري رفيع، إلى العاصمة السورية، لم تكن مجرد بروتوكول سياسي، بل إعلان ضمني عن نهاية زمن الوصاية وبداية علاقة ندية بين دولتين جارتين، تتشابكان جغرافياً وتنفصلان سيادياً.
رئيس سوريا الجديد، أحمد الشرع، استقبل الرئيس سلام كرئيس دولة، لا كمندوب. والملفات التي طُرحت على الطاولة – من ترسيم الحدود، إلى ضبط المعابر، إلى إعادة اللاجئين – ليست سوى تمهيد لإعادة ترسيم الدور السوري، لا على الخريطة وحسب، بل في الوعي اللبناني أيضاً. فقد ولّى زمن التبعية، وبدأت ملامح شراكة تُبنى على السيادة والاحترام المتبادل.
مواكبة سعودية
وفي موازاة المسارات المحلية والاقليمية، تتكثف الحركة الديبلوماسية. فالموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان، المكلف بالملف اللبناني، حطّ في بيروت، والتقى الرئيس عون، حاملاً معه تقاطعاً سعودياً – دولياً واضحاً: لا تطبيع مع النظام السوري، لكن لا ممانعة بتنسيق مشروط. والشرط واضح: سيادة لبنان الكاملة، وترسيم حدوده، وعودة اللاجئين، وتفكيك شبكات التهريب. أما ملف ترسيم الحدود مع سوريا، فقد وُضع على سكة مفاوضات جدية، برعاية سعودية مباشرة.
الاصلاحات الداخلية
داخلياً، يسير العهد الجديد بسرعة تفوق التوقعات. ثلاثة أشهر فقط مرّت على انتخاب الرئيس، وثمانية أسابيع على تشكيل الحكومة، كانت كافية لإطلاق ورشة إصلاحات جدية: تعيينات أمنية وقضائية، ومشاريع قوانين تبدأ بتعديل السرية المصرفية ولا تنتهي بإصلاح النظام المالي. عهد يدرك أن استعادة ثقة الخارج تمر أولاً من باب الداخل، وأن الزمن لا ينتظر أحداً.
في السياق، عقدت لجنة المال والموازنة جلسة برئاسة النائب ابراهيم كنعان وحضور وزير المال ياسين جابر لمتابعة درس زيادة مساهمة لبنان في صندوق النقد الدولي وتعديل الزيادات على الرسوم التي أقرتها الحكومة في موازنة 2025. وقال كنعان بعد الجلسة: “موافقون على زيادة الاكتتاب بحصة لبنان في صندوق النقد وفق تصور واضح على قاعدة امكانات الخزينة التي ستحددها وزارة المال في الهيئة العامة”.
جابر: التغيير خلال اسابيع
أما جابر فأكد بعد اجتماع لجنة التفاوض مع صندوق النقد أن الجميع سيشعر خلال أسابيع قليلة بتغيير كبير سيحصل في البلد من خلال التعيينات الجديدة التي وضعت لها آلية شفافة.
وأشار وزير الاقتصاد عامر بساط لـ”بلومبرغ” الى أن المودعين اللبنانيين سيستردون أموالهم تدريجياً كجزء من أي إصلاح مالي شامل.
دعم أميركي مشروط
وفي قلب هذا المشهد، تبرز زيارة عضو مجلس الشيوخ الأميركي بول غروف كإشارة دعم مشروطة: نعم للمساعدات، نعم لدعم الجيش والمؤسسات، لكن لا مساومة على الإصلاح. والرد اللبناني جاء واضحاً: “بدأنا الاصلاح لأنه مصلحة وطنية قبل أن يكون مطلباً دولياً”، بحسب تعبير الرئيس عون. لم يعد لبنان يطلب الإنقاذ من الخارج، بل يسعى إلى بناء مناعة داخلية تجعله شريكاً لا مستهلكًا للدعم الدولي.
وسط كل هذه التطورات، يبقى السؤال الأهم: هل نحن أمام لحظة تحول حقيقية أم مجرد فاصل في زمن الجمود؟ الأكيد أن مشهدية العهد الجديد توحي بأن صفحة الجمهورية اللبنانية تُعاد كتابتها بخط يد الدولة، لا بحبر السلاح. وأن السياسة اللبنانية بدأت تتنفس من رئتي السيادة والإصلاح في آنٍ معاً.
وإذا استمرت الدينامية الحالية، فإن ما كنا نظنه يوماً حلماً – دولة سيدة، جيش ممسك بالأمن، وسلاح واحد تحت علم واحد – قد يصبح واقعاً، لا شعاراً.
ربما، فقط ربما، تكون هذه بداية الجمهورية الثالثة… وأول ما فيها: لا أحد فوق الدولة.