صحيح أن رئيس الجمهورية جوزاف عون أعرب عن نيّته في بدء حوار مع “حزب الله” لتسليم سلاحه إلى الدولة اللبنانية، لكن آليات هذا الحوار لم تتضح بعد، وكل ما فهمه المراقبون أن “الحزب” يبدي مرونة حيال هذا الحوار، وربما يكون قد بدأ التواصل، على الرغم من ميله إلى إنتظار نتائج المفاوضات الأميركية-الايرانية في مسقط.
تكشف مصادر سياسية مطّلعة أن إعداد عون وفريق عمله استراتيجية الأمن القومي التي ستتضمن خطة كاملة لحماية لبنان بواسطة سلاح الدولة قد تساعد على إنجاح الحوار، لكن ليس من الضروري أن يكون هذا الحوار علنياً وإعلامياً، بل قد يجري بعيداً عن الأضواء على نحو هادئ، وإذا وصل إلى نتائج إيجابيّة، فسينتقل إلى مرحلة ثانية تقنية تجمع ممثلين من الجيش اللبناني من جهة وممثلين عن “الحزب” من جهة أخرى، للبحث في الآلية التي ستُعتمد لتسليم السلاح، علماً أن هذه الخطوات حصلت في عملية تسليم مواقع “الحزب” في جنوب الليطاني.
قد يكون هذا السيناريو متفائلاً، لكن أوضاع “الحزب” بعد الحرب مع اسرائيل والخسائر التي مُني بها، تستوجب منه التواضع والقبول بالحوار مع الرئيس فوراً وتسهيل الخطوات بإتجاه تسليم السلاح، ولو تطلب ذلك مهلة زمنيّة معيّنة.
وفي قراءة لخبير في شؤون الأمن والدفاع متابع للأحداث التي مرت منذ اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني الفائت وحتى اليوم، يؤكّد أن “الحزب” كان في هذه المرحلة يتعرّض لحرب اسرائيلية صغيرة وضربات نوعيّة واغتيالات خطيرة جداً وقد طاول بعضها الضاحية الجنوبية. ويُعدّد الخبير ما حصل، على سبيل المثال لا الحصر، في الشهر الجاري، إذ هاجمت اسرائيل في 1 نيسان، مبنى من تسعة طوابق في الضاحية الجنوبية، وكان هدف الهجوم هو حسن بدير، الذي كان يوجه عناصر “حماس” ويساعدهم في محاولة تنفيذ هجوم عنيف ضد المدنيين الاسرائيليين وفق ما أعلنته تل أبيب. ويبدو أن بدير كان عنصراً بارزاً في الوحدة 3900، وهي وحدة مشتركة بين “الحزب” وفيلق القدس الايراني.
في 3 نيسان، استهدفت اسرائيل عنصراً من “الحزب” في قرية علما الشعب في الجنوب. ويبدو أن العنصر أصيب. بالاضافة إلى ذلك، هاجمت مبنى تابعاً لهيئة الصحة الاسلامية التابعة لـ”الحزب” في بلدة الناقورة، فدُمّر المبنى، الذي كان يُستخدم كبنية تحتية عسكرية، وفق ما أعلنت اسرائيل.
في 4 نيسان، قُتل حسن فرحات في صيدا، المعروف بـ “أبو ياسر”، وكان قائد القطاع الغربي لـ “حماس”-لبنان. وفي 6 نيسان، هاجمت طائرات سلاح الجو الاسرائيلي عنصرين من “الحزب” كانا يستخدمان جراراً في منطقة زبقين في الجنوب، وكانا يعملان لإصلاح بنية تحتية عسكرية لـ”الحزب”، بحسب ما زعمت اسرائيل.
أما في 7 نيسان، فقد هاجمت اسرائيل قائد المدفعية في منطقة الطيبة في “الحزب” محمد عدنان منصور وقتلته.
واللافت أن كل هذه العمليات العسكرية الاسرائيلية وما سبقها بقيت من دون رد من “الحزب”، ويرى الخبير في شؤون الأمن والدفاع أن “الحزب” يتذرّع بوقف إطلاق النار وضبط النفس، إلا أنه في الواقع عاجز عن الرد، ولا يستطيع بعد خوض مواجهة مع اسرائيل على الرغم من كل ما تقوله إيران عن إعادة ترميم هيكليته العسكرية.
يقف “الحزب” عند مفترق طرق مهم: يتعرّض لضغوط دولية ومحلية كبيرة من أجل تسليم سلاحه إلى الدولة اللبنانية من جهة، وتتجه أنظاره إلى المفاوضات الايرانية-الأميركية من جهة أخرى. يحاول أن يلعب ورقة كسب الوقت، لكن لا شيء مضمون، وهو يتخبط في أزمات عدة باتت مكشوفة.
ويسترسل الخبير في شؤون الأمن والدفاع في الكلام عن هذه الأزمات، مشيراً إلى أن أزمة “الحزب” الأولى هي الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، معتبراً أن هناك ضغوطاً داخلية في لبنان – سواء من الجمهور اللبناني الذي سئم من تورط “الحزب” في الصراعات الخارجية على حسابه، أو من الحكومة الجديدة في لبنان التي تسعى إلى إعادة تأهيل البلاد اقتصادياً والحفاظ على الاستقرار السياسي. بالاضافة إلى ذلك، يواجه “الحزب” صعوبات داخلية في تدفقاته النقدية، وبالتالي صعوبة في إعطاء الأولوية لإعادة تأهيل قاعدته المدنية أو إعادة تأهيله العسكري.
والأزمة الثانية هي علاقات إشكالية داخل القيادة السياسية والقيادة العسكرية، ومشكلات إدارية: خلّف القضاء على الأمين العام السابق لـ”الحزب” حسن نصر الله وهاشم صفي الدين فراغاً هائلاً، لم يستطع الأمين العام الحالي نعيم قاسم، ملئه. وتسود صراعات على السلطة وعدم قبول للسلطة بين كبار الشخصيات في القيادة السياسية والقيادة العسكرية.
الأزمة الثالثة التي يواجهها “الحزب” تتعلق بالأضرار الجسيمة التي ألحقتها اسرائيل ببنيته التحتية العسكرية، وقد تحطّمت صورة التنظيم التي رسّخها وطوّرها منذ العام 2006 داخلياً وخارجياً. وأدرك الكثيرون في لبنان تحديداً، وفي الشرق الأوسط عموماً، مدى ضعف “الحزب” عسكرياً مقارنة بالصورة التي بناها. وعلى الرغم من أن الدافع للعمل ضد إسرائيل نابع من الفكر المتطرف الكامن وراء نشاط “الحزب”، إلا أن معنويات عناصره تضررت أيضاً بسبب هذا الفشل.
الأزمة الرابعة تتعلق بسلسلة اعتقالات تستهدف عناصر من “الحزب” في أوروبا. ففي الأول من نيسان، أعلن الحرس المدني الاسباني عن عملية لمكافحة الإرهاب ركّزت على مشتبه بهم يعملون على دعم القسم اللوجيستي لـ”الحزب” انطلاقاً من الأراضي الاسبانية، عبر توريد قطع غيار لتجميع الطائرات المسيرة. وحتى الآن، تم اعتقال ثلاثة أشخاص في برشلونة. وفي هذا السياق، كانت السلطات الاسبانية والألمانية قد اعتقلت في تموز 2024، أربعة أشخاص للاشتباه في تورطهم بشبكة زودت “الحزب” بمكونات لإنتاج طائرات مسيّرة انتحارية، مُعدّة للاستخدام في هجمات ضد إسرائيل. أُلقي القبض على ثلاثة من المشتبه بهم في إسبانيا وواحد في ألمانيا.
وفي 3 نيسان، أعلنت الشرطة البريطانية اعتقال رجلين مرتبطين بـ”الحزب”. وذكرت الشرطة أن التحقيقات كشفت عن تورطهما في أنشطة خارج البلاد وداخلها، والعمل على الترويج لأعمال إرهابية، والتورط في تمويل التنظيم. وأوضحت الشرطة أن التحقيق يتعلق بـ”الحزب” المصنّف ارهابياً في بريطانيا.
الأزمة الرابعة هي مالية، إذ يعاني بنك “القرض الحسن” التابع لـ”الحزب” من الإرباك، وهو يبادر إلى تأجيل تسلم الشيكات وأغلق فرع صيدا، على الرغم من أن “الحزب” ينفي ذلك، وتسود حالة من الغموض وضعه المالي الذي يفتقر إلى طرق إمدادات من راعيته الايرانية.
فقد “الحزب” مقوّمات الصمود وهو في حالة يُرثى لها على كل الصعد، ويبدو أن الخناق يضيق عليه، فإيران الخاضعة للحوار مع واشنطن، سواء مباشرة أو بصورة غير مباشرة، ستكون بمواجهة شروط قاسية للتخلي عن أذرعها العسكرية بعد حلّ الملف النووي، وبالتالي لن تستطيع إنقاذ “الحزب” الذي بدأ يشعر أنه مضطر إلى التعاون مع الدولة اللبنانية وخصوصاً مع العهد الجديد الممثّل بالرئيس عون للبحث في موضوع تسليم سلاحه، وقد أصبح واضحاً أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لن يقدما أي مساعدات للبنان بهدف إعادة الإعمار والإنعاش الإقتصادي والمالي إلا إذا تمّ حصر موضوع السلاح بالجيش اللبناني.
لا مفر لـ”الحزب” من شرب هذه الكأس التي لطالما تهرّب منها، إلا أن الظروف اليوم لا تسمح بتاتاً بالمناورة والتحايل واللعب على عامل الوقت، فالخيارات ضيّقة، ومحور الممانعة ينزف، ولا بد لـ”الحزب” من التواصل مع الدولة ومعرفة رؤية عون لموضوع السلاح، وهذا ما لن يطول كثيراً.
إشترك بالقائمة البريدية
البريد الإلكتروني
إشترك الأن