–
على الطريق الواصل بين دمشق والساحل السوري وما إن تنعطف من حمص يساراً باتجاه محافظة طرطوس حتى يتبدل المشهد كلياً، فالمشهد الصحراوي والجبال الجرداء الممتدة على طول الطريق تتحوّل فجأة إلى مساحات خضراء من الأراضي الخصبة والبساتين الممتدة إلى حدود غابات غاية في الجمال، كما تختفي كلياً مشاهد الدمار التي كانت تظهر بين الحين والآخر، لتدخل منطقة لم تشهد أياً من أحداث الثورة السورية طوال السنوات الـ14 الماضية، إلا أنها تعيش الآن بعد تحرير البلاد واقعاً أمنياً ومعيشياً من الأسوأ بين كل المناطق السورية. جال “العربي الجديد” على بعض مناطق الساحل السوري التي شهدت أحداثاً أمنية خلال الفترة الماضية وعمليات قتل طائفي راح ضحيتها المئات، شملت كلاً من جبلة، واللاذقية، وطرطوس، واستمع إلى البعض من السكان ممن لم يخشوا الحديث، سواء بأسمائهم الحقيقية أو حتى المستعارة، لكن الأمن العام لم يسمح لـ”العربي الجديد” بدخول بعض مناطق ريف اللاذقية تحت مبرر المخاوف الأمنية على الفريق، وعدم منح وزارة الإعلام تصريحاً بدخول تلك المناطق.
مع العلم أن تقريراً صادراً عن الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان بتاريخ 9 إبريل/ نيسان 2025، وثق مقتل 1562 شخصاً في آذار/ مارس 2025، قتل منهم 1334 شخصاً، بينهم 60 طفلاً و84 سيدة، على خليفة تصاعد أعمال العنف في مناطق الساحل السوري وقد وثق مقتل 889 شخصاً، بينهم 51 طفلاً و63 سيدة، على يد القوى المسلحة المشاركة في العمليات العسكرية في الساحل السوري، 445 شخصاً، بينهم 9 أطفال و21 سيدة، على يد المجموعات المسلحة خارج إطار الدولة المرتبطة بنظام الأسد، فيما وثق مقتل ما لا يقل عن 227 مدنياً، بينهم 42 طفلاً و15 سيدة، (وذلك إلى جانب الضحايا الذين سقطوا نتيجة أعمال العنف في منطقة الساحل السوري) قتل منهم 10 مدنيين، بينهم طفل واحد على يد الحكومة السورية، ومدنيان، أحدهما طفل، على يد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ومدني واحد على يد المجموعات المسلحة خارج إطار الدولة المرتبطة بنظام الأسد.
وكان لافتاً خلال الطريق إلى بعض مدن الساحل السوري عدد الحواجز الذي يتجاوز السبعة حواجز بين حمص وطرطوس، جميعها من الأمن العام، ولم يكن هناك أي حواجز لفصائل تابعة لوزارة الدفاع. التعامل على الحواجز كان منضبطاً مع المارة، إذ يستقبل العناصر السيارات بابتسامة ويسألون عن الوجهة وبعضهم يسأل عن الهويات الشخصية، وبعض الحواجز تقوم بتفتيش بسيط للسيارات، إلّا أن بعض عناصر الحواجز ما زالوا يرتدون اللثام رغم صدور قرار بعدم ارتدائه، برره بعض العناصر لـ”العربي الجديد” بأنه لضرورات أمنية. إلا أن بعض من التقيناهم من سكان ريف طرطوس أكدوا أن وضع الحواجز بين ريف طرطوس والمدينة مختلف، سواء لناحية المعاملة أو لناحية وجود بعض الحواجز التي تتبع لوزارة الدفاع، من دون أن نتمكن من رصد تلك الحواجز.
الساحل السوري بعد أحداث العنف
خلال جولة “العربي الجديد” داخل المدن والقرى في الساحل السوري، تعكس البيوت الريفية البسيطة التي تغطي معظم ريف الساحل السوري حالة الفقر التي يعيشها الكثير من سكان المنطقة، تجاورها قصور فارهة شُيّدت على حساب معاناة السوريين وابتزازهم طوال سنوات الثورة. ففي منطقة جبلة عشرات الفيلات والقصور، لم يتمكن فريق “العربي الجديد” من دخول أي منها بسبب استيلاء عناصر الأمن العام عليها، والذين أبلغونا بأنها تحوّلت إلى نقاط أمنية، إلا أننا أرشِدنا من قبل الأهالي إلى مالكي بعض تلك القصور، مثل لؤي العلي الذي كان رئيساً لفرع الأمن العسكري في درعا، وغيره من مسؤولي النظام السابقين الذين يمتلكون قصوراً على ساحل مدينة جبلة، بالإضافة إلى قصور وفيلات فارهة لموظفين عاديين في مواقع تسمح بالفساد، مثل موظفين بالجمارك وبالأفرع الأمنية.
سامر ديوب: معظم سكان الساحل لم يكن لديهم خيار سوى الاعتماد إما على الزراعة ومواسم الحمضيات
أما مدينة جبلة فهي منقسمة طائفياً منذ ما يزيد عن خمسين عاماً، بحسب سكان المنطقة؛ قسم معظم سكانه من الطائفة السنّية، ويعمل معظمهم بأعمال حرة، وقسم معظم سكانه من الطائفة العلوية، وكانوا بأغلبهم موظفين في قطاعات الدولة وبشكل خاص في وزارة الدفاع، أو لدى الفروع الأمنية، الأمر الذي جعلهم من أكثر المتأثرين بحل وزارة الدفاع والتسريحات التي طاولت العاملين في الوزارات. هذا الأمر يؤكده سامر ديوب من مدينة جبلة لـ”العربي الجديد”، موضحاً أن المشكلة في التسريحات التي حصلت أنها تركت المسرّحين معلقين بدون أي رؤية لما ينتظرهم في المستقبل. ويضيف: “معظم سكان الساحل السوري لم يكن لديهم خيار سوى الاعتماد إما على الزراعة ومواسم الحمضيات، وإما على الوظيفة لدى الدولة التي كانت متاحة لهم في السابق”، مبيناً أن الوظيفة كانت لا تكفي حتى لتأمين أبسط متطلبات الحياة، لذلك فإن الفاسدين في بعض القطاعات كانوا يمتلكون ثروات كبيرة، فيما معظم السكان يعيشون على الكفاف، لذلك عمليات التسريح أثرت عليهم بشكل مباشر وأكثر من غيرهم كون نسبتهم في الإدارات هي الكبرى.
ويلفت ديوب إلى أن النظام السابق لم يقم بأي مشاريع تنموية أو استثمارية تؤمن فرص عمل في منطقة الساحل، الأمر الذي ساهم في انسداد الأفق أمام عدد كبير من السكان، موضحاً أن الدولة حالياً لم تقدّم أي بديل بعد تسريح الموظفين الذين تُركوا دون أي أمل لتحسين أوضاعهم في المستقبل، مطالباً الحكومة ببيان أوضاع المسرّحين، فيما إذا كانت ستعيدهم إلى وظائفهم أو ستؤمن لهم بدائل عنها، محذراً من أن ترك آلاف العائلات بدون مصدر رزق وبدون أي وعود بتسوية أوضاعهم سيحوّل المنطقة إلى بؤرة توتر. ورغم لقاء عدد من العائلات التي تقطن في المناطق التي انطلقت منها عمليات فلول النظام السابق ضد عناصر الأمن العام أوائل شهر مارس/ آذار الماضي، إلا أن كل من التقاهم “العربي الجديد” تحدثوا برواية واحدة؛ وهي أنهم لا يعلمون ما حدث وكل ما شاهدوه هو إطلاق نار طاول المباني السكنية، ومن المنطقة التي انطلقت منها أحداث مدينة جبلة. ويقول ضابط يحمل بطاقة تسوية، فضّل عدم كشف اسمه، لـ”العربي الجديد”، إنه سمع إطلاق نار كثيفاً على “سوبر ماركت” قريبة من بيته، تلاه دخول عناصر من الأمن العام بأسلحة متوسطة، وبدأوا بإطلاق النار على المباني المحيطة، فيما بدأ لاحقاً عناصر من فصائل تتبع لوزارة الدفاع باقتحام المنازل. ويوضح أن عمليات الاقتحام كان يسودها جوّ من الترهيب لسكان الحي، إذ كان العناصر يطلقون الرصاص بشكل عشوائي أثناء استجواب السكان، ولا تزال هناك آثار رصاص على أرضيات الشقق التي اقتُحمت.
تصاعد أعمدة الدخان بعد اشتباكات وقعت في بانياس، مارس 2025 (Getty)
تقارير عربية
العفو الدولية: مذابح الساحل السوري ارتكبتها مليشيات موالية للحكومة
وعن الوضع الحالي في مدينة جبلة، يقول الضابط إن الوضع الأمني أكثر استقراراً الآن والحياة بدأت بالعودة إلى طبيعتها، إلا أن الوضع المعيشي هو الذي يهدد بتوتير الأوضاع، موضحاً أن بطاقة التسوية التي أعطيت للعسكريين أصبحت عبئاً عليهم، فقد باتت بمثابة ورقة تجريد من الحقوق المدنية، إذ لا يتمكن حامل هذه الورقة من إجراء أي معاملة مدنية، مثل تسجيل حالة ولادة أو تسيير معاملة لدى دوائر الدولة. من جهته، يقول قاسم فوال، وهو مدرس من أهالي مدينة اللاذقية، لـ”العربي الجديد”، إن المرحلة المقبلة تحتاج إلى اتخاذ قرارات مهمة وإشراك جميع الطوائف في الحكم والإدارة. ويدعو إلى إعادة ضباط الشرطة والجيش والموظفين السابقين ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء إلى وظائفهم وأن يضم جهاز الأمن العام والجيش سوريين من مختلف الطوائف، حتى يكون جيشاً وطنياً. ويشدد على أنه لا يمكن تعميم جرائم نظام بشار الأسد والتشبيح على طائفة معينة، مستدلاً على كلامه بالفقر المنتشر في قرى ريف اللاذقية. ويعتبر أن المحك الرئيسي لصدق الحكومة الجديدة في تعزيز السلم الأهلي وبناء دولة المواطنة سيظهر في نتائج لجنة التحقيق التي شكّلها الرئيس أحمد الشرع للتحقيق في “المجازر” التي ارتُكبت في الساحل.
مبادرات السلم الأهلي
ساهمت حالة الخوف وانعدام الثقة بين السكان الذين ينتمون إلى الطائفة العلوية من جهة، وسكان المنطقة من الطوائف الأخرى المؤيدين للدولة الجديدة، والجهات الأمنية من جهة أخرى، والتي كانت واضحة ضمن أحاديثهم، في صعوبة نجاح مبادرات السلم الأهلي والتي كانت تواجَه من كلا الطرفين بالتخوين والهجوم على صاحب المبادرة، الأمر الذي عزاه بعض أصحاب المبادرات إلى حالة التوتر والاحتقان لدى كلا الطرفين التي ربما تحتاج إلى بعض الوقت وكثير من التنسيق لإنجاحها. المحامي علي طارق نصور من مدينة جبلة وأحد الناشطين في مجال السلم الأهلي، يرجع في حديث لـ”العربي الجديد” تصاعد الخطاب الطائفي والانقسام الاجتماعي في الساحل السوري إلى أسباب عديدة، أبرزها غياب دور الوجهاء وضعف المبادرات الاجتماعية بسبب الخوف من الأهل ومن ردة فعل الطرف الآخر.
علي طارق نصور: يجب نزع اللثام واستبعاد أي عناصر أجنبية من الحواجز وعدم إتاحة المجال لهم للاحتكاك مع الناس
ويرى أن هناك تقصيراً حكومياً وأخطاء يجب تداركها، مثل ضبط الحواجز العسكرية واستبعاد العناصر الذين يضايقون المدنيين بأسئلة طائفية لم يعتد عليها سكان المنطقة، مشدداً على ضرورة نزع اللثام واستبعاد أي عناصر أجنبية من الحواجز وعدم إتاحة المجال لهم للاحتكاك مع الناس. نصور الذي كان أحد المبادرين لتعزيز السلم الأهلي في مدينة جبلة عقب الاقتتال الذي حصل في 6 مارس الماضي، يؤكد أن الناس يحتاجون اليوم إلى الأمان أولاً حتى يعودوا إلى حياتهم الطبيعية ويخرجوا من منازلهم، كذلك يحتاجون إلى وقف حوادث الخطف والاعتقال، وبعد هذا الأمر يمكن معالجة مشكلة فصل الموظفين والأوضاع الاقتصادية التي تركت آلاف الأسر بدون أي مصدر دخل.
مبادرات اجتماعية
يعمل جعفر خضور، وهو ناشط مدني يدير فريقاً من شبان متطوعين في ريف مدينة جبلة، على عدة مبادرات اجتماعية وإنسانية لتعزيز التواصل بين أهالي المدينة والريف وإعادة الأوضاع إلى طبيعتها، بعد ما وصفه بحالة المقاطعة بين الطرفين. ومن بين هذه المبادرات كانت زيارة الحواجز الأمنية وتقديم هدايا للأطفال في كل من القرى والمدينة، وإقامة جلسات شعبية وتوعوية في مقاهٍ وأماكن عامة وإجراء زيارات لرفع مستوى الوعي العام ونبذ الخطاب الطائفي. ويقول خضور، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن ترك الساحة للمحرضين في كلا الطرفين ونشر الإشاعات على وسائل التواصل الاجتماعي ساهما في زيادة الشرخ الاجتماعي، مضيفاً أن أهل المنطقة كانوا متعايشين منذ آلاف السنين، وبينهم علاقات قرابة وجيرة.
قطيعة بين المدن والأرياف
لم يسمح الأمن العام لـ”العربي الجديد” بدخول بعض مناطق ريف اللاذقية، تحت مبرر المخاوف الأمنية على الفريق، وعدم منح وزارة الإعلام تصريحاً بدخول تلك المناطق، فيما يتحدّث سكان في مدن الساحل السوري عن شبه قطيعة بين الساحل والريف، إذ يقول أحد سكان مدينة جبلة لـ”العربي الجديد” إن سكان الريف يتعمدون من خلال دعوات شعبية مقاطعة المدينة، فيما يعزو سكان الأرياف هذه القطيعة إلى الوضع الأمني ومخاطر المرور على الحواجز. تقول المعلمة سهام (اسم مستعار) من قرية حريصون التابعة لبانياس في طرطوس لـ”العربي الجديد”: “هناك تخوّف كبير من الأهالي بشكل عام من التحرّك والتنقل بين الأرياف، فضلاً عن عدم تخديم وسائل النقل لأهل القرية، فهناك ثلاث حافلات فقط تقل الركاب من القرية إلى مدينة بانياس، خلال الساعات الأولى من النهار، وتتوقف عن العمل عند الساعة العاشرة صباحاً، بينما يذهب موظفو مصفاة بانياس إلى أعمالهم بشكل يومي عبر حافلات تابعة للمصفاة”.
في جبلة بعد أحداث الساحل، 12 مارس 2025 (عمر حج قدور/فرانس برس)
تقارير عربية
تمديد عمر لجنة التحقيق في أحداث الساحل السوري… وانتقادات لعملها
وتشير سهام إلى أن مصدر الخوف نابع من الحواجز المنتشرة على الطرقات أو بعض الحوادث الفردية التي حدثت خلال الأيام الماضية، لافتة إلى عدم معرفتها ما إذا كانت تلك الحواجز تتبع للأمن العام أو للفصائل، ولكن عند دوار حريصون يوجد حاجز للأمن العام يُبدّل عناصره بشكل دوري. وحول توافر الأدوية والمواد الغذائية، توضح سهام أن المنطقة المحيطة بدوار حريصون كانت مليئة بالصيدليات التي جرى تكسير أغلبها خلال الفوضى التي عمّت في الأسابيع الماضية، لذلك أُغلقت، أما بالنسبة للصيدليات العاملة فهناك شح كبير في الأدوية، نتيجة عدم مجيء موزعي المستودعات إلى القرية منذ وقوع المجازر في بانياس، وهذا الأمر خلق نقصاً كبيراً في المواد الطبية، في ظل تخوف الأهالي من الذهاب إلى المدينة. وفيما يخصّ المدارس، تشير سهام إلى عودة الدوام بالمدارس، إذ يقدم الطلاب حالياً المذاكرات بشكل طبيعي.
من جهتها، تقول الطبيبة يارا من مدينة بانياس، لـ”العربي الجديد”، إن حالة الفصل بين الريف والمدينة غير متعمدة كما يشاع، والسبب في ذلك يعود إلى الحالة الاقتصادية لأهالي الأرياف، الذين يذهبون إلى المدينة في يوم استلام الرواتب التي تتراوح بين 20 و30 دولاراً للموظف الواحد، فيشترون حاجياتهم ويعودون إلى قراهم، ولا يوجد سبب آخر للذهاب. لكنها تشير إلى أن هناك حالة تخوّف من التنقل بين مدينة بانياس ومركز مدينة طرطوس حتى بالنسبة لأصحاب البقاليات، وهذا ما أدى إلى نقص كبير في المستلزمات الغذائية ومواد التنظيف وغير ذلك، فضلاً عن امتناع الكثير من المواطنين عن افتتاح محالهم نتيجة اطلاعهم على تهديدات كثيرة على صفحات “فيسبوك”، موضحة أنها لم تسمع شيئاً من تلك التهديدات على أرض الواقع، ولافتة إلى أن حركة الأسواق ضعيفة جداً بالمجمل.
وتثمّن يارا مبادرات المجتمع المدني لإعانة الأهالي الذين دمرت أرزاقهم، إضافة إلى صناديق التكافل الاجتماعي في الصيدليات لتقديم الأدوية بالمجان للمحتاجين. وفيما يخص الأوضاع الأمنية، تشير إلى أن الوضع الأمني جيد جداً في المدينة، وهناك انتشار مكثف لعناصر الأمن العام وفصائل من محافظة إدلب في الحي الذي تقطن فيه يعاملون الأهالي باحترام، ولكن الأهالي يفضّلون عدم الخروج من منازلهم بعد الساعة السادسة مساء لعدم وجود إنارة في الشوارع.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News