(1)
تتوزّعُ قصائدُ “اعتذار متأخر” (*)، المجموعةِ الشعرية الثالثة للأكاديمي والباحث الفلسفي محمد شيا، بعد “قمر آخر الليل” 2008، و”لحظات هاربة” 2013، على أقانيم: المكان، الزمان، والإنسان. وتقاربُ كلًّا من هذهِ الأقانيمِ من منظورٍ شعريٍّ مختلفٍ عن الآخر؛ ففي الأقنومِ الأوّل، يرى شيّا إلى المكان، بنوعَيْهِ الإنساني والطبيعي، من منظورٍ جمالي، فتشكّلُ قصيدةُ “غنّيْتُ صوفر” مجلى لجمالاتِ المكانِ الإنساني، بما تكتنزُهُ البلدةُ من جمالٍ وحياةٍ وعراقةٍ ومنعةٍ وحصانة، أبدعَتْها يدُ الإنسانِ عبرَ التاريخ: “غنّيْتُ صفصافَ كورنيشِها/ يختالُ غُنجًا وتيها/ لا شيءَ يَعدِلُ جمالاتِ صوفرَ عندي/ أو يُضاهيها” (ص 31). وتشكّلُ قصيدةُ “في استقبالِ الربيعِ” مجلى لجمالاتِ المكانِ الطبيعي، حيثُ تتناغمُ الأنا الشاعرةُ مع مكوّناتِهِ الطبيعية، البحر والسماء والوادي، وتتصادى مع مخلوقاتِهِ الجميلة، البلبل والنسر والقبّرة والجندب والعصفور: “كانَ حولي بساطُ أزهارٍ ساحرٌ يملأ الوادي/ وكانَ سريرَ سكينتي/ كانَ البحرَ أنّى التفَتُّ يرنو إليَّ/ وسماءٌ تُغازلُني كأنّها رفيقتي” (ص 37). وهوَ، في المكانَيْن، يُصدرُ عن إيمانٍ واضحٍ بوحدةِ الوجودِ يعكسُ ثقافتَهُ الفلسفيةَ ومعتقدَهُ الديني.
(2)
في الأقنومِ الثاني، يدركُ شيّا، كغيرِهِ ممّن أدركَتْهُمْ حرفةَ الأدب، حتميةَ تصرّمِ الزمن، وتداعياتِهِ على المكانِ والإنسان، في إطارِ عمليةٍ أزلية/ أبدية، من تبادلِ الأدوارِ بينَ الماضي والحاضرِ والمستقبل؛ فكلّ ماضٍ كانَ حاضرًا ومستقبلًا، ذاتَ يوم، وكلّ حاضرٍ كانَ مستقبلًا وسيصبحُ ماضيًا، ذاتَ يوم، وكلّ مستقبلٍ سيتحوّلُ إلى حاضر، واستطرادًا إلى ماضٍ، ذاتَ يوم. والأحلامُ قدْ تتحوّلُ إلى وقائعَ ستغدو بدورِها مجرّدَ ذكريات. لذلك، حينَ يجرفُنا نهرُ الزمان، يتغيّرُ المكان، وتتحوّلُ الوقائعُ المعيشةُ إلى ذكرياتٍ ماضية. وإزاءَ التحوّلاتِ التي يُحدِثُها الزمنُ في المكانِ والإنسان، يأتي الشاعرُ ليقفَ على أطلالِ الأوّل، وليستعيدَ ذكرياتِ الثاني. وهذا ما يفعلُهُ محمد شيّا حينَ يغنّي صوفرَ أو الطبيعة، وحينَ يتذكّرُ الأمسَ الذي تصرّمَ وانقضى.
“إزاءَ التحوّلاتِ التي يُحدِثُها الزمنُ في المكانِ والإنسان، يأتي الشاعرُ ليقفَ على أطلالِ الأوّل، وليستعيدَ ذكرياتِ الثاني”
وفي هذا السياق، يمكنُ التمييزُ بينَ نوعَيْنِ اثنَيْنِ من الذكرياتِ في المجموعة؛ الأوّل، ذكرياتٌ حزينة، يستعيدُها ليتحرّرَ منْها بالنسيان: “نسَيْتُ، الآن، كلَّ جراحي/ نسَيْتُ آلامي، الظلمَ، القدرَ، وغدرَ أزماني” (ص 57). “أحزاني الآنَ ذكرياتٌ لم تَعُدْ لي/ نسَيْتُها/ فليحملْها الموج/ ولترمِها اللغةُ خارجَ المدار” (ص 61). والثاني، ذكرياتٌ سعيدة، يستعيدُها كي لا ينساها كذكرياتِهِ عن الأبِ والحبيبة؛ ففي قصيدةِ “خطاب وداع متأخّر” التي يحشدُ فيها مجموعةَ ذكرياتٍ جميلةٍ عن أبيهِ الراحل، ولعلّها أجملُ قصائدِ المجموعة، يَشهُرُ الذاكرةُ في وجهِ النسيان، ويتحسّرُ على غيابِ الأب، ويُعلنُ عليه الحب: “آهٍ لو انتظرْتَ قليلًا/ كنْتُ سأقولُ لكَ إنّا نُحبُّكَ/ وكم نُحبُّكَ، الآنَ، غدًا، وإلى آخرِ المشوار” (ص 136). وفي قصيدةِ “هجرَتْهُ حبًّا” التي لا تقلُّ جمالًا عن السابقة، يتأخّرُ الحبيبُ في اكتشافِ سببِ الهجر، وما تتردّى فيه الحبيبةُ الهاجرة، من كتمانٍ وشجوٍ وحزن، فيعتذرُ منها، ولاتَ ساعةَ اعتذار، ويكفّرُ عن تأخّرِهِ في الاكتشافِ والاعترافِ بالقول: “أعرفُ الآنَ أنّ طيفَكِ لم يُغادرْني/ وهو ساكنٌ قلبي في كلّ آن/ فتقبّلي منّي حبيبتي/ أينَما كنْتِ/ خطابَ اعتذاري/ فأنا إنّما وُلِدْتُ الآن” (ص 115).
من مؤلفات محمد شيّا
(3)
في الأقنومِ الثالث، يتناولُ الشاعرُ الإنسانَ في: هشاشتِه، وتسييرِه، ومحدوديّةِ معرفتِه، وعجزِهِ عن إدراكِ عظمةِ الخالق؛ فيحذّرُهُ من الإفراطِ في الأحلامِ الكبيرةِ لأنَّهُ أضعفُ من أن يُحقّقَها: “قلْ لعروسِكَ ببساطة/ لقدْ وقعَ الطوفان/ انقلبَتِ الدنيا/ وأقفلَ المطار/ قلْ لها إنّنا لا شيء/ مجرّدُ سطورٍ على الرمل/ أخذَها الموجُ آخرَ النهار” (ص 128، 130). والإنسانُ، عندَهُ، مُسَيّر. هوَ ريشةٌ في مهبِّ الأقدار: “أيُّ ابنُ آدمٍ ذاك/ يُقصيهِ المدُّ بعيدًا/ ويُدنيهِ الجزر” (ص 90). وهوَ محدودُ المعرفة، لا يعرفُ الأسبابَ الكامنةَ وراءَ الجواهرِ المجرّدة: “ولنْ تعرفَ لماذا كلُّ هذا الخير/ وأحيانًا كلُّ ذاكَ الشر” (ص 92). وتزدادُ هذهِ المحدوديةُ إزاءَ الكونِ وأسرارِهِ المستغلقة: “هوَ الكونُ مختَصرًا/ كتابُ أسرار/ لمّا يزلْ مغلقَ الصفحات/ وكلّما أوغلْتَ فيهِ اكتشافًا/ ازدادَ إدهاشًا/ وازددْتَ أنتَ حيرةً حتى الممات” (ص 51). وتبلغُ المحدوديةُ ذروتَها والدهشةُ أوجَها في مواجهةِ الخالق، فيناجيهِ بالقول: “أيا مبدعَ الأكوان/ صانعَ الأزمان/ لا نملكُ إلّا الدهشة/ حيالَ ما أبدعْتَ من آيات” (ص 50). والخالقُ وحدَهُ صاحبُ القلمِ والمشيئةِ والترتيب، والإنسانُ مجرّدُ هباء، لا حولَ لَهُ ولا طَوْل: “وحدَهُ الخالقُ صاحبُ القلم/ رتَّبَ الكونَ عجيبًا بمقدارٍ وَقَدْر/ وهوَ لوْ شاء/ لكانَ هباءً كلُّ ما تملكُهُ/ فلا تختلْ أو تغتر” (ص 92).
(4)
تتنوّع تمظهراتُ القولِ الشعريِّ في المجموعة، وتختلفُ من قصيدةٍ إلى أخرى؛ فنقعُ في المجموعة، على سبيلِ المثالِ لا الحصر، على القصيدةِ السرديةِ التي تقومُ على جدليةِ العلاقةِ بينَ الإطارِ السرديِّ والمحتوى الشعري، كما نرى في قصيدةِ “هجرَتْهُ حبًّا”، والقصيدةُ الحواريةُ التي تقومُ على ثنائيةِ الصوت، وتفتقرُ إلى التكافؤِ بينَ المتحاورَيْن، في الشكلِ والمضمون، كما في قصيدةِ “لا حاجةَ كي تختار”، وقدْ يبلغُ عدمُ التكافؤ، في الشكلِ، على الأقل، حدًّا تتحوّلُ فيهِ القصيدةُ الحواريةُ إلى ما أُسمّيهِ بـ “قصيدةِ المحاكمة”، كما في “أنتمُ الشعراء” التي تُشكّلُ مضبطةَ اتهامٍ للشعراء، يستأثرُ فيها الادّعاءُ بثلاثينَ مقطعًا منْها، ويكتفي الدفاعُ بستِّ مقاطعَ فقط.
وعودٌ على بدء، “اعتذار متأخّر” عمل أدبي جديرٌ بالقراءة، متنوّع الموضوعات والأشكال. وهوَ تنوّعٌ يعكسُ حيويةً واضحة، تنعكسُ بدورِها على المتلقّي. وعليه، إنّ ما قامَ بِهِ الدكتور شيّا لا يدعو إلى الاعتذار، بل ربّما يدعو إلى الافتخار. لذلك، أقولُ لَه، معَ محمود درويش، “لا تعتذرْ عمّا فعلْت”.
(*) “اعتذار متأخر”. 2024. دار “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافي”، لبنان.
شارك هذا المقال