لم تكن تصريحات رئيس الجمهورية جوزاف عون، بشأن الحشد الشعبي العراقي تهدف إلى تأجيج أزمة ديبلوماسية، بل جاءت في سياق نقاش داخلي لبناني معقّد، يزداد اختناقاً مع كل استحقاق سياسي وأمني. وعلى الرغم من أن التصريح انطلق من مقاربة سيادية لبنانية بحتة، فقد خرج عن سياقه المحلي، وفتح باباً لما يمكن وصفه بـ “سوء تفاهم” غير مقصود مع دولة شقيقة لطالما كانت إلى جانب لبنان في أزماته، وهي العراق.
في جوهر المسألة، نحن أمام تقاطع حساس بين خصوصيتين وطنيتين: ففي لبنان، يدور الجدل المزمن حول سلاح “حزب الله”، وعلاقة الدولة بمراكز القوة الخارجة عن مؤسساتها. أما في العراق، فإن الحشد الشعبي يشكّل جزءاً من التركيبة الأمنية الرسمية، ونشأ في ظروف استثنائية حملت طابعاً دفاعياً وطنياً بامتياز، بعد فتوى “الجهاد الكفائي” التي أطلقها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، في مواجهة تهديد “داعش” الوجودي.
تصريحات الرئيس عون، التي شدّدت على عدم قابلية استنساخ تجربة الحشد في لبنان، لم تحمل في طياتها أي مسّ بالسيادة العراقية أو تشكيكاً بشرعية مكوّناتها الأمنية، بل عكست ببساطة واقعاً لبنانياً مختلفاً، لا تسمح بنيته الطائفية ولا توازناته السياسية بتكرار مثل هذه التجربة. غير أن إشارات عابرة إلى استقلالية الحشد أو مصادر تمويله أُسيء فهمها، وأثارت في بغداد حساسية مشروعة، دفعت وزارة الخارجية العراقية إلى استدعاء السفير اللبناني، تعبيراً عن امتعاضٍ لا يخلو من حرصٍ على العلاقة الثنائية أكثر مما هو توبيخ ديبلوماسي.
هل يمكن للبنان أن يعرف “حشداً” على غرار العراق؟
السؤال المطروح يتجاوز التصريح، ليصل إلى لبّ الإشكال: هل يمكن فعلاً استنساخ تجربة الحشد الشعبي في لبنان؟
الجواب ببساطة: لا.
الاختلافات بين البلدين بنيوية وعميقة. فلبنان يقوم على نظام طائفي دقيق التوازن، بحيث أن أي تغيير في موازين القوى يُترجم إلى أزمة وطنية. في المقابل، يشهد العراق، منذ العام 2003، هيمنة سياسية شيعية واضحة، سمحت بولادة الحشد ضمن مناخ شعبي وديني وشرعي جامع في تلك المرحلة، وتحت غطاء رسمي.
في العراق، أُعطي الحشد غطاءً دستورياً وجرى لاحقاً دمجه في المنظومة الأمنية. أما في لبنان، فإن أي تنظيم مسلح خارج الدولة، حتى وإن حمل شعارات وطنية، يُعتبر موضع خلاف جذري. وعلى الرغم من أن “حزب الله” فرض واقعاً مغايراً منذ عقود، فإن هذا الواقع لم يلقَ إجماعاً وطنياً، بل بقي سبباً جوهرياً للانقسام.
السياقات الأمنية والسياسية مختلفة
نشأ الحشد الشعبي في لحظة عراقية مفصلية، كرد فعل مباشر على تمدد تنظيم “داعش”. أما “حزب الله”، فانبثق من مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، قبل أن يتحول لاحقاً إلى فاعل إقليمي واسع النفوذ، متداخل في ملفات تمتد من سوريا إلى اليمن.
أي محاولة لخلق “حشد لبناني” سيكون مصيرها الرفض، لا من منطلق سياسي وحسب، بل من زاوية التوازن الداخلي والشرعية الوطنية. ففي حين يتمتع الحشد بشرعية دينية من النجف وأخرى رسمية من بغداد، تستند شرعية حزب الله إلى: مقاومة الاحتلال، المظلومية الطائفية والدعم الإقليمي.
حسابات الخارج والداخل
الضغوط الاقليمية والدولية مختلفة تماماً. فالحشد الشعبي، على الرغم من الجدل حول بعض فصائله، لا يُصنّف كمنظمة إرهابية على نطاق دولي واسع. بينما “حزب الله” يواجه عقوبات أميركية وأوروبية مشددة، ما يجعل أي محاولة لتقنين سلاحه أو ضمه في أطر رسمية أكثر تعقيداً. كذلك، فإن العراق يتمتع بهامش من المناورة السياسية مستند إلى موارده النفطية، في حين يعاني لبنان من أزمة اقتصادية خانقة، تجعله رهينة التفاهمات الدولية والعربية.
اسرائيل المتربصة
بعد الحرب الأخيرة وما خلّفته من دمار واسع، وعلى الرغم من وقف إطلاق النار، لا تزال إسرائيل تترصّد لبنان وتبقي يدها على الزناد، وتتذرع بأنها تستهدف ما تعتبره تهديدات لأمنها القومي. وبالتالي، فإن أي طرح لاستنساخ تجربة الحشد الشعبي في لبنان، عبر دمج “حزب الله” في القوى العسكرية، قد يُقرأ إسرائيلياً كتصعيد مباشر، ما يعيد لبنان إلى دائرة خطر حرب جديدة.
فكرة استنساخ تجربة الحشد الشعبي في لبنان ليست قابلة للتطبيق، لا اليوم ولا في أي وقت قريب. الفروق في السياقات السياسية، والدستورية، والاجتماعية، فضلاً عن الشرعيات الدينية والاقليمية، تجعل من الطرح محض خيال سياسي. لبنان، بتعقيداته الطائفية وتجاذباته الاقليمية، لا يحتمل نسخ التجارب، بل يحتاج إلى تجاربه الخاصة.