أميركا لاعب قويّ في سوريا منذ ما قبل سقوط نظام بشّار الأسد. قوّتها تنبع من هيمنتها الدولية، ووجودها العسكري المباشر في التنف وشرق الفرات، ودعمها لأفرقاء مسلّحين على الأرض، وإمساكها بورقة العقوبات القاسية. أوراق القوّة هذه تمنحها القدرة على شلّ أيّ حكومة في دمشق ساعة تشاء وإعاقة أيّ محاولة للخروج من الأزمة، وتعطيها حقّ “الفيتو” ضدّ أيّ قرار داخلي أو خارجي يتعلّق بمستقبل بلاد الشام.
لكنّ سوريا لم تعد مدرجة ضمن أولويّات البيت الأبيض. الموقف منها ضبابي، لا سلبيّ ولا إيجابيّ. يحضر ذكرها عرَضاً على جدول أعمال الرئيس دونالد ترامب على الرغم من التغييرات الكبيرة الجارية على أرضها. لا شيء يشير إلى سياسة أميركية خاصّة بها في المرحلة المقبلة، ولا إلى أيّ استثمار دبلوماسي واضح فيها.
يأتي ذكرها في سياق إدارة العلاقة بين تركيا وإسرائيل، أو حماية الأمن الإسرائيليّ، أو تصفية النفوذ الإيراني فيها وإكمال تطويق “الحزب”. لا تحظى بأيّ لفتة خاصّة لتوفير الشروط اللازمة لاستعادة مكانتها وحيويّتها والانتظام السياسي فيها ودورتها الاقتصادية، مع الإبقاء على العقوبات عليها وعدم الاعتراف بحكومتها الجديدة لدى الأمم المتّحدة. جلّ ما يهمّ واشنطن في سوريا مخزون الأسلحة الكيميائيّة للنظام السابق، ووجود تنظيم “داعش”.
انسحاب عسكريّ أميركيّ يُقلق إسرائيل
وسط هذه السياسات الرماديّة، خرج الانسحاب العسكري الأميركي من سوريا من طور المحتمل إلى طور التنفيذ، مع سحب تدريجيّ ومتواتر للجنود الأميركيين من شرق الفرات.
بالفعل أبلغت الولايات المتّحدة إسرائيلَ بأنّها ستبدأ في غضون شهرين سحب قوّاتها من سوريا، وفق ما أفاد موقع “واينت” العبريّ. لم يكن مفاجئاً هذا النبأ، إذ إنّ ترامب أعلن مسبقاً رغبته في إخراج الجنود الأميركيين من المنطقة، معتبراً أنّ “هذه ليست حربنا”، فيما يعمل “البنتاغون” منذ فترة طويلة على الخطط.
ترى إسرائيل أنّ اقتراح ترامب أن يكون وسيطاً بين إسرائيل وتركيا لا يُعتبر بالضرورة مطمئناً لها، لا سيما في حال انسحاب القوّات الأميركية
لدى القوّات الأميركية 17 قاعدة و13 نقطة عسكريّة تضمّ نحو ألفَي جنديّ، تنتشر معظمها في المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا الغنيّة بالنفط والغاز والمياه والموارد الزراعية، وتُعتبر مواقع ارتكازيّة، مهمّتها دعم “قوّات سوريا الديمقراطية” (قسد) وفصائل أخرى مسلّحة، ويقع 17 منها في محافظة الحسكة، و9 في محافظة دير الزور، و3 في محافظة الرقّة.
من أبرز تلك القواعد: قاعدة كوباني أو عين العرب في ريف حلب الشمالي، وقاعدة تل أبيض على الحدود السورية مع تركيا، وقاعدة رميلان شرق القامشلي، وقاعدة تل بيدر شمال محافظة الحسكة، وقاعدة الشدادي قرب مدينة الشدادي النفطيّة، وقاعدة عين عيسى شمال سوريا. وتقع إحداها بمحاذاة حقل “كونيكو” الغازيّ الواقع تحت سيطرة “قسد” في ريف دير الزور، وبدأ إخلاؤها فعلاً.
أهمّها قاعدة التنف الصحراوية قرب معبر التنف الحدودي السوري مقابل معبر الوليد العراقي وبالقرب من الحدود مع الأردن، وتشكّل رأس المثلّث داخل الأراضي السورية مع كلّ من قاعدة عين الأسد في العراق والبرج 22 في الأردن، علاوة على وجودها على الطريق الدولي الواصل بين دمشق وبغداد، وتضمّ ما بين 100 إلى 200 جندي أميركيّ، في حين تتحدّث مصادر أخرى عن وجود بضع مئات من جنود آخرين من بريطانيا والنرويج إلى جانب الأميركيين، الذين يدرّبون هناك مقاتلي حليفهم السوري “جيش سوريا الحرّة”. وكانوا يقدّمون المساعدات لمخيّم الركبان والنازحين الموجودين في تلك المنطقة الصحراوية قبل عودتهم إلى مناطقهم بعد سقوط النظام. ومن المرجّح أن تحتفظ واشنطن بهذه القاعدة لأهمّيّتها الاستراتيجية على مستوى المنطقة.
ترامب أعلن مسبقاً رغبته في إخراج الجنود الأميركيين من المنطقة، معتبراً أنّ “هذه ليست حربنا”، فيما يعمل “البنتاغون” منذ فترة طويلة على الخطط
أسئلة ما بعد الانسحاب
يثير الانسحاب المحتمل الكثير من الأسئلة في شأن توازن القوى في سوريا ومسائل مكافحة “داعش” ومستقبل الإدارة الذاتية الكرديّة و”قسد”، ويفتح نقاشاً في شأن الدور المقبل لتركيا شمال سوريا وموقع وموقف الحكم السوري الجديد من العلاقة مع الأكراد والانتشار العسكري في المناطق التي يسيطرون عليها.
يرى خبراء أنّ الانسحاب الأميركي يعني:
– التخلّي عن “قسد” وتهديد أمن أكثر من 20 سجناً ومخيّماً للّاجئين تضمّ أكثر من 50 ألف شخص، بما في ذلك نحو 9 آلاف مقاتل من تنظيم “داعش”. وعبّرت أنقرة عن استعدادها لتقديم ضمانات وآليّات لحلّ هذه القضيّة والإشراف على المعسكرات والسجون التي تضمّ عناصر “داعش” وتحقيق محاكمتهم حتّى في بلدانهم الأصليّة.
ترامب
– تهديد مستقبل الإدارة الذاتيّة الكرديّة في “روجافا” شمال وشمال شرق سوريا التي لطالما حظيت بحماية عسكرية وسياسية أميركية ردعت في السابق التهديدات التركية. وربّما هذا ما دفع بزعيمها مظلوم عبدي إلى التنازل عن سقف شروطه العالي والإسراع بتوقيع اتّفاق مع الإدارة الجديدة في دمشق، بـ”نصيحة أخويّة” من الزعيم الكردي العراقي مسعود بارزاني المقرّب من واشنطن وأنقرة.
– تغيير استراتيجية حكومة الرئيس أحمد الشرع في التعامل مع “قسد” يطرح مسألة قدرتها على الانتشار عسكريّاً لضمان أمن المنطقة شرق سوريا الغنيّة بالنفط والغاز، وعدم عودة تنظيم “داعش”.
لا شكّ أنّ أنقرة هي الرابح الأكبر في هذا التحوّل، لا سيما بعدما عبّر ترامب بشكل واضح وصريح أمام رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن لفتة خاصّة وتقدير خاصّ للرئيس التركي رجب طيّب إردوغان، وجعل التحالف مع تركيا أولويّة تعلو أيّة أولويّات أخرى في سوريا، ولا سيما التحالف مع الأكراد.
أميركا لاعب قويّ في سوريا منذ ما قبل سقوط نظام بشّار الأسد. قوّتها تنبع من هيمنتها الدولية، ووجودها العسكري المباشر في التنف وشرق الفرات
حتماً هذه الأنباء لا تسرّ كثيراً إسرائيل التي أعربت مؤسّستها الأمنيّة عن قلقها من حصول الانسحاب الأميركي اعتقاداً منها أنّه “يفتح شهيّة تركيا” للسيطرة على المزيد من الأصول العسكرية الاستراتيجية في المنطقة، ويجعلها اللاعب الأقوى في سوريا والمنافس الفعّال لها إقليميّاً. وكانت تل أبيب أبلغت إلى كلّ من أنقرة وواشنطن أنّ وجوداً تركيّاً دائماً في قواعد مثل تدمر وتي فور (T4) يُعتبر تجاوزاً للخطّ الأحمر، وهو ما قد يؤثّر مباشرة على حرّية عمل الجيش الإسرائيلي في الجبهة الشمالية.
سباق مع الزّمن
أبدت إسرائيل وتركيا في اجتماع أمنيّ عُقد في أذربيجان اهتماماً بخفض التوتّرات، وشروعاً في محادثات لإنشاء آليّة تنسيق مشابهة للنموذج الإسرائيلي – الروسي، الذي نظّم عمليّات سلاح الجوّ الإسرائيلي في سوريا. وترى إسرائيل أنّ اقتراح ترامب أن يكون وسيطاً بين إسرائيل وتركيا لا يُعتبر بالضرورة مطمئناً لها، لا سيما في حال انسحاب القوّات الأميركية. وعليه، ليس من قبيل الصدفة، وفقاً للموقع العبري “واينت”، أن تقول مصادر أمنيّة إسرائيلية إنّ الهجمات على قاعدة تي فورT4) ) هي بمنزلة “سباق مع الزمن قبل مغادرة الأميركيين”.
إقرأ أيضاً: كنوز إيران تعزز ميول ترامب الديبلوماسية
بعد خروج إيران وتراجع الدور الروسيّ، الأرجح أنّ مكانة سوريا تراجعت في الحسابات الاستراتيجيّة لإدارة ترامب، فبات في إمكانها توكيل شؤونها لفاعلين إقليميّين ودوليّين في المرحلة المقبلة، على أن تتولّى بنفسها إدارة العلاقة بين تركيا وإسرائيل، مع احتفاظها بأوراق قوّة مثل التحكّم بسلاح العقوبات والتنف.
لكن هل يكفي ذلك لردع إسرائيل وطموحاتها التوسّعية؟ وهل يمهّد للاستقرار في سوريا أم يعيدها ساحةً للصراع الإقليمي بوجوه جديدة؟