دمشق التي تصحو على تعب وتنام على أهزوجة، هي مدينة تنقسم بين ليلها ونهارها، بين جدها ولهوها، فدمشق الصباح لا تحتاج إلى جوازات سفر لتعرف أنك قادم من بلاد الهجرة واللجوء، فسكانها الذين يتجولون فيها في طرقاتهم إلى العمل يختلفون عنك في كل شيء، في قسمات الوجه المتعبة الباحثة عن مصدر رزق، وفي ثياب مرت عليها سنوات عجاف، وتعابير الوجه المبهمة بين الفرح بزوال ذلك النظام الحاقد على إنسانيتهم، وبين الهم الحائر المزروع في نظراتهم عن مصير لقمة العيش المفقودة في بلد شبه مدمر ونصف محترق وبقية تستنهض نفسها في محاولة لنزع قيد الموت من على رقبتها.
أما دمشق المساء فتلك سورية الغائبة عن معالم الحرب، وفصول الجفاف، تعيش بين أزقة حافلة بالأنوار وضجيج الصحون والابتسامات المرسومة غصبًا على وجوه (النُدُل) من فقراء النهار، ناشطو العتمة المضاءة غير أولئك الذين لا يعرفونها إلا بقصد الخدمة والعمل، سيارات فارهة تمر بجانبك، لا يقلقها ضيق المساحات، ولا يحد من سرعتها قلق الضحايا على الطرقات، شيء من رفاهية مصطنعة، وآخر من فرحة العودة إلى وطن مسروق، تتفهم الحال الثانية أنها غدق من كرم الزوار على أهاليهم، في حين ترى المتعالين من أثرياء الحرب يحتلون أماكنهم المعتادة، كأنهم خلعوا ثوب النظام وارتدوا حلة الحاضر، لا تزال أقنعتهم صالحة لم يستهلكها الزمن بعد، ولا تزال دمشق الليلية خاصتهم التي أنهكت دمشق الصباح.
الطبقة الوسطى التي أمعن نظام الأسدين في تذويبها وصمدت خلال عقود ستة، كانت تتحداه وتواجهه بالعلم والمعرفة والثقافة، أعلنت على ما يبدو خلال الحرب الدامية استسلامها، أخذت مع معظم الشعب مكانها بين الفقراء، وحملت كتبها وفلسفتها وأشعارها وتقوقعت في بيوتها شبه المتهاوية، يصعب ترميمها، ويصعب هجرها، شاخت كما كل أبنية العاصمة، مع فارق كبير فحيث لا تزال رائحة عبق النظافة طاغية عليها.
“دمشق الصباح والمساء وجهان لمدينة واحدة: فقر ساعات النهار وترف العتمة المضاءة، من يحملون آثار الحرب ومن يستعرضون غنائمها”
صارت مؤسسات الدولة ووزاراتها شبه عاجزة عن حمل أعمدتها، غيَّب حقد الأسد على تراث السوريين هيبة الأماكن، أمعن في تعذيبها كأنه ينتقم من تاريخها، تواسيها المارة الجدد بالوقوف عندها، وبالصور في ساحاتها، وعلى أسوارها، بزيارتها التي تؤكد قدسيتها في النفوس، تتعثر كلمات المواساة، ولكننا نعلم أن حجم الخراب أكبر من أن ترممه عبارات العزاء.
دمشق الواقع أجمل بكثير من توصيفات أو “بوستات” الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، تلك التي تتباكى على مرحلة الأسد، وتؤلف الحكايات عن أسلمة البلد، بينما لم أشعر خلال تجوالي بكثير من أحيائها (حسب ضرورات حركتي) بتلك الصحوة التي تجلد النساء على سفورها، أو تحدد ألوان ملابسهن وطرائق مشيتهن، لكن ذلك لا ينفي وجود من يحاول تعكير صفو سكينتنا، والتدخل في شؤوننا، وتجريمنا والوصاية علينا.
المحزن في الأمر أن ادعاء المعرفة في شؤون الدين والدنيا صار مهنة من لا مهنة لهم، لا يقتصر الأمر على الرجال فقد شاركت نساء حملاتهم، تارة بالوعظ المقبول لغة، وتارة باستنهاض همم الرجال للبحث عن فتاوى التكفير لمن تخالفهن الرؤيا والرغبة، فشاعت الفتاوى الشعبوية تحت مسميات الحرية الفكرية، وبعضهن دخلن في تمييز الألوان فبعضها صالح للمسلمات، وبعضها تبرج الكافرات، مهددات بنار تحرق وحرمان من جنة لا تحل لهن.
فهذه حال نسوة ترغبن في تغييب أدوارنا، وتمنعن على النساء حرية الاختيار، بل إحداهن كتبت صراحة في اعتراض غير مبرر بل ويدعو إلى الفتنة والتحريض على إطلالة للسيدة الأولى (لطيفة الدروبي) زوجة الرئيس أحمد الشرع التي وعلى الرغم من أنها لا تزال على حشمتها وأدب تعاملها، ومثلت موقعها كما يجب ونحب، وتعاطت مع مضيفتها السيدة أمينة عقيلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفق متطلبات زيارتها، متسائلة بقدر من التجني (هل مقبول هذا التنازل بالستر والحشمة؟) والصحيح أن نسألها هل مقبول هذا التطاول على سيدة حرة بهذا المنشور وبتلك الجرأة؟
بعض الانتقادات بحدتها، تشعرك أن سورية الحاضر غابت عن سورية الحضارة، وأن معايير التقييم الإسلامي تحددها ناشطات وناشطو فيسبوك وإكس وغيرهما، حسب ما تمليه معارفهم قليلها ومحدوديتها، ولهذا من الضرورة اليوم ألا يرى الناس مدنهم عبر عيون من يحبها بلا حدود، أو متأزم منها بلا حدود، فلا من يغطي على مثالبها يستطيع أن يمحوها من واقعها، ولا من يراهن على رسمها بعين كارهة وقلب حاقد يستطيع أن ينتزعها من قلوب محبيها، فدمشق على رحابتها تسكن قلوب من يعرف قدرها وقيمتها.
* كاتبة سورية.
شارك هذا المقال