اليوم هو السابع عشر من نيسان (أبريل) الذي يصادف ذكرى جلاء القوات الفرنسية من سوريا، ولكنه أيضاً يصادف عيد الرابع لدى العلويين، وهو يأتي عليهم هذا العام مُحمَّلاً بالحزن والخوف، بعد أعوام طويلة حُرم فيها العلويون من الاحتفال بهذا العيد في أجواء الفرح والبهجة والشعبية التي كانت سائدة قديماً، إذ انحصرت طقوسه في العقود الأخيرة ضمن إطار ديني ضيق ومغلق. ومع الأحداث المؤلمة الأخيرة التي شهدها الساحل السوري، وبدلاً من حفلات الدبكة والرقص التي كانت تميز هذه المناسبة في أزمنة سابقة، سيشهد يوم الرابع زيارة القبور والبكاء على الضحايا، وربما إشعال الشموع تخليداً لذكراهم.
كان عيد الرابع في الماضي يحمل معانٍ أكبر بكثير، تتجاوز الطابع الديني إلى آفاقٍ من التاريخ والأساطير والفلسفات العميقة المرتبطة بتراث العلويين القديم. وكحال جميع الديانات التي تعاقبت على بلاد الشام، أُضفي على هذه المناسبة طابعٌ ديني امتزج مع روحه التاريخية والثقافية. في السابق، كان العلويون يحتفلون في هذا العيد بحلقات الدبكة والرقص في مناطق عدة، وخاصة بالقرب من مقاماتهم الدينية التي تمتاز بساحاتها الكبيرة.
تبرز منطقة صنوبر جبلة ومنطقة السخابة في ريف جبلة من بين أكثر المناطق شهرةً في الاحتفال بعيد الرابع، وتقول شهادات من عاصروا ذلك الزمن إن مسيحيين ومسلمين سنّة كانوا يأتون لمشاركة العلويين في هذه المناسبة. كانت هذه الاحتفالات تستمر لعدة أيام، وكانت فرصةً للتعارف وتعزيز الروابط الاجتماعية وحتى المصاهرة بين العائلات. كانت تشبه إلى حد كبير عيد «العزّابي» في مسرحية بياع الخواتم لفيروز.
منذ الثمانينيات، بدأت تتحول هذه المناسبة، وكثيرٌ غيرها ممّا يشكل جزءاً حيوياً من التراث اللامادي للعلويين، إلى طقوس دينية محدودة النطاق، ومجهولة بالنسبة لمعظم السوريين، وحتى للأجيال الأصغر من العلويين أنفسهم. لكن ما هو عيد الرابع؟ وكيف تراجع حضور كثير من الأعياد والعناصر الثقافية للعلويين في العقود الأخيرة؟ وما الذي يعنيه هذا التراجع؟
من احتفالات الرابع في صنوبر جبلة – من صفحة جبلة بحر وجبل على فيسبوك
نوروز العلويين: الرابع والزهورية
يصادف عيد الرابع لدى العلويين يوم 17 نيسان وفقاً للتقويم الغربي، ويحمل هذا الاسم لأنه يأتي في الرابع من نيسان وفق التقويم الشرقي. ويتزامن هذا التاريخ مع عيد الجلاء عن الاحتلال الفرنسي، بحيث كانت الاحتفالات بالمُناسبتين تختلط ببعضها بعضاً، إلا أن الربط بينهما ليس دقيقاً، إذ إن الاحتفال بعيد الرابع يعود إلى فترات سبقت استقلال سوريا بقرون طويلة طويلة. تأتي هذه المناسبة ضمن فترة مميزة تشمل مجموعة من الأعياد الشائعة في المنطقة، والتي يمكن تسميتها بأعياد الربيع، مثل نوروز الأكراد، وفصح المسيحيين، وشم النسيم في مصر، وهي فترة مكرسة للاحتفال بالحياة والفرح والربيع والولادة المتجددة.
يُعبّر الشاعر العلوي منتجب الدين العاني (330-400 هـ) عن جمال هذه الأعياد في أبيات من قصيدة يمدح بها المناسبات قائلاً:
يأتي بذكر المهرجان وإنه عيدٌ يقوم الوقت في ميزانه
يتلوه آذار وسابع عشره تتراكض الأفراح في ميدانه
وقرينه ميقات أنس جِدّةً في الرابع الميمون من نيسانه
فانعم بآذريونه وبآسه وبهاره والنور من حوذانه
«الآذريون: شقائق النعمان. البهار: العرار. الحوذان: فهو نبات يشبه القصب يعيش في الماء، وله وبر أصفر يشتعل بسرعة».
في هذه الأبيات تظهرُ أعياد متعددة؛ المهرجان الذي يوافق الاعتدال الخريفي، والنوروز الذي يوافق الاعتدال الربيعي. وعند تناول عيد النوروز تحديداً، يتضح من القصيدة ومن مصادر متعددة أن عيد الرابع لدى العلويين يقترن بعيد النوروز. فهو ليس عيداً إسلامياً وإنما فارسي الجذور، يرتبط لدى الكرد بأسطورة كاوا الحداد، ويشعلون فيه النيران في رؤوس الجبال. وتاريخياً، شهد هذا العيد اهتماماً كبيراً خلال عهد الدولة البويهية، حين كانت مراكز الدعوة النصيرية منتشرة قبل أن تتحول النصيرية إلى ديانة سرية.
ودون أن نخوض في تفاصيل مآلات العلويين الدينية المرتبطة بهذا العيد، إلا أن هناك بعض السرديات العلوية التي تربط النوروز بأحداث تاريخية ودينية إسلامية، مثل سجود الملائكة لسيدنا آدم، واستواء سفينة نوح على جبل الجودي، وجعل النار برداً وسلاماً على سيدنا إبراهيم. ومع ذلك، أكثر ما يتقاطع مع فكرة النوروز هو قصة سيدنا موسى، حين اختار سبعين رجلاً لمناجاة الله، وعندما طلبوا رؤية الله جهراً أخذتهم الرجفة وماتوا، إلا أن سيدنا موسى عندما رش عليهم الماء أعاد لهم الحياة، كما ورد في القرآن الكريم. ومن هنا، توارثت عادة رش الماء كتقليد ديني في بعض الأعياد، عند العلويين وغيرهم من الديانات.
اعتمد العلويون هذا التقليد، وكان من عاداتهم في هذا العيد نقع الزهور في الماء والاغتسال بها صباح اليوم التالي، محاكاةً لقصة سيدنا موسى وتعبيراً عن تطهير النفس من الذنوب. هذا الطقس يعيد للأذهان أسطورة من الميثولوجيا الفينيقية، حيث قتل الإله تموز المغرم بعشتار، ومن دمه نبتت زهرة شقائق النعمان. يحمل هذا الطقس أيضاً رمز الجمال الزائل، إذ إن شقائق النعمان زهرة رقيقة وسريعة الذبول، وربما لهذا السبب جاءت تسمية الطقس عند العلويين «الزهورية».
تتوافق هذه الرمزية مع فترة الاعتدال الربيعي التي تتميز بتساوي الليل والنهار، كمؤشر على الخصب والتجدد وبداية فصل الربيع، حيث تزدهر الأرض وتظهر كنوزها. هذا المفهوم يتماشى مع فكرة العلويين عن التجدد والبعث، والتي تنص على أن الروح تعود إلى مراتب أفضل أو أسوأ حسب أعمال صاحبها. كما يترافق العيد مع تقديم القرابين والذبائح لله الواحد، كتأكيد لتقليد أضحية سيدنا إبراهيم والتعبير عن التضرّع للخالق.
في الواقع، عيد النوروز لدى العلويين هو عيد الرابع، أو بتعبير أدق فقد اعتبرته عدة دراسات قرينَ النوروز ولكن تغيُّر التقاويم المستخدمة آنذاك واليوم، وانزياحها، أدى إلى الاحتفال به في يوم 4 نيسان بالتقويم الشرقي، في حين يحتفل الكرد بالنوروز في 21 آذار حسب التقويم الغربي.
صورة قديمة من احتفالات الرابع ويظهر فيها الزي التقليدي القديم – فيسبوك
تجريد من الثقافة!
استطاع حكم الأسد أن يسلب طائفة بأكملها معظم مكوّنات هويتها الثقافية، وأن يعيد تشكيلها بما يخدم مصالحه، ما أدى إلى طمس وتشويه تاريخ وتراث طويلَين. لقد أدّت سياسات النظام إلى رسم صورة منفّرة عن العلويين وإخفاء تراثهم وراءها، وبينما وَضَعَ عموم أبناء الطائفة في قوقعة من الخوف والاضطهاد، منح قسماً منهم سلطة تُكرِّس صورة الظالم صاحب النفوذ القادر على تغيير مصائر الناس بكبسة زر، ما جعل قسماً لا بأس به منهم يستغل السلطة الممنوحة له ليمارس قمعاً وبطشاً على السوريين بمختلف انتماءاتهم، بما في ذلك أبناء الطائفة الآخرين أنفسهم وعاداتهم وتراثهم.
لا يمكن لأحد أن ينكر فترات الاضطهاد التي عانى منها العلويون عبر التاريخ، لكن ما فعله حافظ الأسد بهم كان اضطهاداً لا يقل قسوة وإنما من نوع آخر. فهو لم يكن اضطهاداً مباشراً، بل كان أشبه بموت بطيء جرّهم فيه إلى هاوية لا مفر منها، كمن يغرق في رمال متحركة تبتلعه شيئاً فشيئاً دون أن يجد من يمدّ له يد العون.
في البدء قام الأسد بتصفية كل من عارضه سياسياً، وهذا أمر معروف للجميع. لكن ما لا يعرفه كثيرون هو أنه استهدف نخبة الطائفة نفسها من شيوخ ومثقفين ووجهاء وأقصاهم عن المشهد تماماً بمزيج من الترهيب والعنف والسلطوية، وأعاد تشكيل مشايخ الطائفة ومثقفيها ووجهائها على مقاسه، بحيث يتماهون مع رؤيته ويخدمون مصالحه.
لم يكتفِ بذلك، بل حرم أبناء الطائفة من أي وجود اقتصادي مستقل يمكن أن يخفف من معاناتهم أو يساهم في انفكاكهم عنه، وترك شرائح واسعة منهم تغرق في الفقر ليندفعوا بأعداد كبيرة إلى الجيش ويصبحوا وقوداً لحروبه، ناسجاً ومُستخدِماً روايات تخدمه مبنية على الطائفية والخوف المتبادل بين العلويين والآخرين.
تدريجياً، بدأ أسلوب الأسد في الحكم يقود إلى محو المظاهر التي تُعرِّف بتراث العلويين، بما في ذلك الاختفاء التدريجي للأغاني والتراث الشعبي، وإلغاء الاحتفالات التي كانت جزءاً من هويتهم مثل عيد الرابع. في أواخر السبعينيات، صدر قرار بمنع الاحتفال بهذا العيد بحجة التهديدات الأمنية من الإخوان المسلمين آنذاك، ورغم استمرار بعض الاحتفالات البسيطة في القرى العلوية، إلا أنها كانت قد تلاشت تماماً مع استلام بشار الأسد للسلطة.
وهكذا، مع اندلاع ثورة 2011، وجد العلويون أنفسهم بعيدين كل البعد عن التراث الخاص بهم، وقد أصبحوا غرباء عن أنفسهم وعن تاريخهم، ضحايا لسياسة ممنهجة سلبتهم هويتهم، وجرّدتهم من كل ما كان يمكن أن يكون مصدر فخر أو رابط يجمعهم مع وطنهم وأنفسهم باستثناء رابط العلاقة بالسلطة التي احتكرت كل أنماط التعبير عنهم وجيّرتها لصالحها.
حشود حفل الرابع في صنوبر جبلة – من صفحة جبلة بحر وجبل على فيسبوك
القوزلّة؛ شعلة النار في عيد الشتاء
بقيت القوزلّة رمزاً ثقافياً وشعلةً مضيئة في تراث العلويين، إذ لم يرتبط هذا العيد بأي مظاهر سياسية أو أجواء احتفالية عامة، ما أتاح له البقاء والاستمرارية كعيد خاص بالعلويين. ويحتفل العلويون بالقوزلّة باعتبارها عيد رأس السنة الميلادية وفقاً للتقويم الشرقي، في يومي 13 و14 كانون الثاني (يناير)، ويبدأ الاحتفال من مغيب شمس اليوم الأول بإشعال النيران وذبح الأضاحي.
يُرجَّح أن اسم القوزلّة مُشتق من الكلمة الآشورية «قزلو» التي تعني إشعال النار، وفي اللغة الآرامية تشير إلى «بداية الشيء»، بينما تحمل في الكنعانية دلالة «نهاية شيء وبدء آخر جديد». تحمل هذه المعاني رمزية العيد كبداية جديدة، حيث تلعب النار دوراً محورياً كرمز للتجدد والنور في الديانات القديمة. ومن هنا، يُشعل المشاركون النار في أكوام الحطب، لتكون شاهدة على طقوس العيد، التي تتسم بعمق المعاني الاجتماعية والإنسانية. في الماضي، كان رماد النيران يُنثر في الحقول والأراضي اعتقاداً بأنه يزيد بركة الأرض ومواسمها.
واحدة من أبرز مظاهر القوزلّة هي إعداد «خبز الميلادي»، وهو خبز مُميز يُغمّس بزيت الزيتون بسخاء. الزيت، الذي كان يُعتبر مصدراً أساسياً للدخل في أرياف العلويين، يرمز هنا إلى الكرم والجود، حيث يُبالغ في استخدامه كدلالة على الاحتفاء بالضيف والتعبير عن سخاء أهل الدار في هذا اليوم الخاص، الذي يُعد بداية لعام جديد. بالإضافة إلى ذلك تُطبَخ كبيبات السلق واللحم وحلويات خاصة بهذا اليوم، وأهم طبق فيه كان (القمحية أو الهريسة) الذي يدخل القمح كمكون أساسي فيها، وهو الذي يرمز إلى الخصب والعطاء والوفرة والنماء في الثقافة السورية القديمة.
على مدى ستة أيام يستمر عيد القوزلّة ليكون فرصةً لإنهاء الخصومات، حيث يجتمع وجهاء القرى ويصالحون المتخاصمين، ليبدأ العام بالمصافحة والتسامح. وفي اليوم الأخير من الاحتفال، الذي يُعرف بيوم القدّاس، كان الناس في أزمنة غابرة يتوجهون إلى الأنهار القريبة للاستحمام فيها، ويُعتقد أن هذا الطقس يجلب الطهارة للجسد والروح، مشابهاً لطقس الغطاس في المسيحية، وهو جزء من رمزية النقاء والتجدد.
مع مرور الزمن، بدأت طقوس العيد تتلاشى تدريجياً، ليتبقى فقط إشعال النار وتقديم الأضاحي كعناصر أساسية للعيد، لكن حتى طقس إشعال النيران بدأ يتراجع منذ التسعينيات بالتزامن مع اختفاء عيد الرابع. غير أنه استمر في عدة مناطق بشكل محدود، وبالأخص في مناطق ريف اللاذقية الشمالي، خاصة في دمسرخو، حيث تُشعَل النيران الكبيرة وتُقدم الأضاحي التي تُوزَّع على سكان المنطقة بأكملها. هذا العام، لم تشهد دمسرخو هذا الطقس.
نار القوزلّة في جبال الساحل – فيسبوك
يستمر بعض العلويين في تركيا بالاحتفال بهذا العيد حتى يومنا هذا، حيث يحافظون على إحياء طقوسه كاملة، مما يجعل القوزلّة شاهداً على استمرارية التراث الثقافي رغم التغيرات الاجتماعية والسياسية.
تعبّر هذه الأغنية التي كتبها حيدر خليل وغنتها سهير صالح عن أجواء عيد القوزلّة:
عالقوزلة ياحنا، معزوم اللية عنا،
شرّف لعنا بالليل، النار بتحكيلك عنا،
الليلة الطبخة قمحية وعليها كراديش كبار،
لا تتأخر يا خيي، أهلا وسهلا بالزوار،
عنا فطاير ميلادي وعليها الزيت زيادة،
منقدمها للأحباب فيها ريحة أجدادي
قوزلّي قزلت هالنار والجار بينده للجار
ريتو ينعاد عليكن وتعلى وتتعمر هالدار….. عالقوزلة ياحنا
يمكن الاستماع لها في هذا الرابط
أغاني العلويين تغيبُ أيضاً
في حياة العلويين وعموم مجتمعات الفلاحين، لم تكن الأغنية مجرد وسيلة ترفيه، بل كانت تعبيراً عن الواقع المعيشي والوجداني. غنّوا للتعبير عن الفرح والحزن، عن الحب والفقد، عن الأمل واليأس. ومن رحم هذا الواقع، غنّى العلويون أنماط العتابا والميجانا والسَّلَف وأم الزلف، التي عكست تفاصيل الحياة اليومية والروحية، والتي تلتقي مع أنماط غنائية شائعة في بلاد الشام وتستقي منها حيث أن بعضها شائعٌ من فلسطين إلى شمال سوريا.
العتابا، على وجه الخصوص، كانت الوسيلة الأبرز للتعبير عن الغصّة والحنين، حيث استطاعت أن تختزل أعقد المشاعر في أبيات موجزة. ومن بين أشهر المقاطع التي تناقلها الناس:
أنا يا ديب بكاني عويلك
وإن شاء الله ينمزج ويلي ع ويلك
يا ديب بالفلا مضيّع عويلك
وأنا يا ديب فارقت الأحباب
هذه العتابا، التي غناها بأصالة مؤثرة فنانون مثل برهوم رزق، لم تكن مجرد كلمات، بل كانت نشيداً داخلياً يعبر عن الفقد، التشظّي، والحنين. والـ«ديب» هنا ليس ذئباً فقط، بل رمز لكل من فُقد، لكل من بقي وحيداً في الفلاة، ولكل غريبٍ بلا مأوى.
أما «أم الزلف»، فهي نشيد شعبي آخر يختزل معاني الصبر والعشق والفقد. تُغنّى غالباً في السهرات والمناسبات الكبرى، وتتنقل بين البيوت والحقول. أم الزلف ليست امرأة حقيقية بقدر ما هي استعارة عن المحبوبة، عن الأرض، أو حتى عن الأمل الغائب. تقول إحدى النساء: «نغنيها بالعُرس، ونغنيها بالموت، وكأنها بتعرف تحكي عن كل شي، عن الفرح المتعب، وعن الوجع اللي صرنا نعرفه أكتر من حالنا».
إلى جانب العتابا وأم الزلف، برع العلويون في الميجانا والسَّلَف، وكلها أشكال غنائية تتفاوت في نَفَسِها بين الطقس الديني والشعر الشعبي. في التعازي، يُغنى السَّلَف بصوت منخفض رتيب، يُشبه التراتيل، وترافقه أحياناً زغاريد مشوبة بالبكاء، في مشهد يُجسّد الحزن بكل تعقيداته العاطفية والاجتماعية.
هذه الأغاني لم تكن معزولة عن الأرض والبيئة، بل ارتبطت بمواسم الزيتون، والحصاد، وأعياد الرابع والقوزلّة، وكانت تنبع من عمق العلاقة بين الإنسان والزمان والطبيعة. كانت تعبيراً حقيقياً عن الشعور بالهوية والانتماء، خاصة في مجتمع أُجبر لعقود طويلة أن يعيش طقوسه في الظل، ويحمل أغانيه في صدره خوفًا من أن تُصادر أو يُسخَر منها.
لكن هذا التراث الغنائي الفريد لم يكن استثناءً من التشويه، فقد ألحقت سياسات النظام السابق الضرر بالهويات الثقافية السورية بشكل عام، ما أفقد التنوع الثقافي الكثير من أصالته وقيمته. وفي هذا السياق، كان التراث الغنائي العلوي واحداً من أبرز المتضررين، حيث جرى تسطيح هذا الفن المميز عبر تعويم بعض الشخصيات التي شوهت الأغنية التراثية، إما بتقديمها بأسلوب مبتذل أو بإضافة مضامين لا تتناسب مع روحها الأصلية. أدت هذه المحاولات إلى حصر هذا التراث الغني في دائرة الاستهلاك التجاري الضيقة، مثل أغاني الأعراس والكراجات، مما تسبب في فقدانه لعمقه وارتباطه بالوجدان المجتمعي. فالتراث الغنائي العلوي، في جوهره، جزءٌ لا يتجزأ من الهوية الثقافية الغنية لسوريا والتي تشمل مناطق متعددة.
ولم تقتصر هذه الاستراتيجية على تشويه الأغاني فقط، بل شملت أيضاً استهداف العلاقة العميقة بين العلويين وهويتهم الثقافية، خاصةً في ظل نجاح بعض المناطق السورية الأخرى في الحفاظ على تراثها الغنائي كجزء من هويتها الثقافية والوطنية، وتخليده كرمز من رموز التراث الوطني، لتبرز الفجوة الواضحة بين تراث ظل صامداً إلى هذا الحد أو ذاك كما في تراث دروز السويداء وتراث حلب الغنائي وغيرها، وبين ذلك الذي تعرَّضَ لما يشبه الدفن.
وفي زمنٍ صادر فيه نظام الأسد سردية العلويين التاريخية وأفرغها من معناها، بقيت الأغاني نافذة صغيرة تطل منها الروح. هذه الأغاني لم تكن مجرد كلمات وألحان، بل كانت الذاكرة، الشاهد الصامت، والتعبير الأنقى عن قومٍ ما زالوا يبحثون عن أنفسهم في هذا الركام.
دبكة الرابع – فيسبوك
حتى اللغة أصبحت من أدوات الكراهية
في مشهدٍ متكرر تحولت مفردات مثل «إيليي» و«ياقرد»، وهي كلمات تحمل جذوراً كنعانية وأوغاريتية، إلى أدوات للسخرية والتهكم، لا بسبب معانيها، بل بسبب ارتباطها باللهجة العلوية. كلمة «إيليي»، التي كانت في الأصل صيحة مناجاة للخالق، تعبيراً عن الروحانية والارتباط بالسماء، أُفرِغَت من بعدها الروحي واللغوي، وأصبحت في الخطاب الشعبي مادة للسخرية، تُستخدم لتقزيم هوية جماعة كاملة. أما «ياقرد»، التي تعني «القوي» أو «الجبار» في الأصل الأوغاريتي، فقد لاقت المصير ذاته، حيث جرى تصويرها كلفظة هجينة أو غريبة، تُستحضَر للسخرية من أبناء الطائفة وكأنها لا تنتمي إلى نسيج اللغة أو الثقافة.
هذه الكلمات، التي تحمل في طياتها أبعاداً تاريخية لم تَعُد تُعامل كجزء من إرثٍ لغويٍ غني، بل تحولت إلى رموز للتهكم الطبقي والطائفي. لم تكن السخرية هنا مجرد استهزاء باللهجة، بل كانت استهدافاً لهوية كاملة، جرى اختزالها في نطق مختلف أو تعبير له طابع محلي. وكأن الاختلاف اللغوي لا يمكن أن يكون إلا نقصاً أو عيباً، في مشهدٍ يعكس عنفاً رمزياً شاركت فيه السلطة والنخب ووسائل الإعلام والترفيه وحتى الثقافة الشفوية.
لكن اللغة لم تكن سوى البداية. امتد هذا التهكم ليطال كل تفاصيل الحياة اليومية للعلويين، من مَلبسهم وأطعمتهم إلى أغانيهم وأناشيدهم التراثية. تلك الأغاني جُرِّدت من أصالتها، وتم تصويرها لاحقاً كشيء «بدائي» لا يرقى لمصاف الثقافة الرسمية أو المقبولة. في المخيال العام، أصبحت هذه الأغاني شيئاً مضحكاً أو مريباً، وكأنها لا تستحق أن تكون جزءاً من المشهد الثقافي السوري.
هذا التشويه لم يكن مجرد صدفة أو نتيجة طبيعية للتطور الثقافي، بل كان جزءاً من سياسة قادت إلى طمس الهوية العلوية، وتجريدها من كل ما يمكن أن يكون مصدر فخر أو رابط يجمعها ببقية السوريين. لقد تحولت اللغة، التي يُفترض أن تكون وسيلة للتواصل والتفاهم إلى أداة للتمييز والاضطهاد والتسلط والتخويف في آن معاً، ما أدى إلى تكريس الفجوة بين أبناء الطائفة وبقية المجتمع.
استعادة الهوية في إطار وطني: مسؤولية مشتركة
على مدار أكثر من نصف قرن، استطاع نظام الأسد أن يعزل العلويين عن هويتهم وتراثهم التاريخي، وأن يحرمهم من فرصة التعريف بأنفسهم كما هم: جزء أصيل من النسيج السوري، لديهم عاداتهم وتقاليدهم وأعيادهم وأنماط فرحهم وحزنهم وقيمهم. لقد أُغلقت الأبواب أمام هذا المكون ليُظهر للعالم إرثه الثقافي والروحي، واستُبدلت صورته بنماذج مشوهة صُدِّرت للعالم لتُرسِّخ صورة نمطية واحدة.
في وقتٍ كان يمكن للعلويين أن يندمجوا بشكل طبيعي في المجتمع السوري، كما بدأت تظهر بوادر ذلك في أواخر الحقبة العثمانية ثم في فترة الانتداب الفرنسي والسنوات الأولى من الاستقلال، جاء النظام ليعيدهم إلى عزلتهم، ويكرّس عنهم صورة الظالم والمستفيد وصاحب السلطة.
اليوم، وفي ظل هذا الركام الذي خلفته عقود من التشويه، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن لهذا المكون أن يستعيد نفسه ويعيد بناء جسور التواصل مع بقية السوريين؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تعتمد فقط على العلويين أنفسهم، بل هي مسؤولية جماعية تقع على عاتق المجتمع والدولة معاً. إعادة وصل ما انقطع يتطلب تعاوناً مشتركاً يشمل جميع الأطراف. من جهة، يجب أن يتحرر العلويون من الصور النمطية التي فُرضت عليهم، ومن جهة أخرى، يجب أن يساهم بقية السوريين ومعهم الدولة بالعمل الجاد على إزالة الحواجز التي خلفتها عقود من الانقسامات والسياسات القمعية. لكن قبل كل ذلك، لا فائدة من كل هذا الكلام ما لم تتوقف الانتهاكات والجرائم ويتم إرساء أوضاع سياسية تحول دون تكرار المجازر في سوريا، كل المجازر بحق الجميع.
ما يحتاجه السوريون اليوم ليس فقط استعادة الروابط الثقافية، بل تأسيس أرضية جديدة ترتكز على الحوار والشراكة، حيث يتم تكريس قيم التسامح والاعتراف بثراء الهويات المتعددة كركيزة أساسية لإعادة بناء مجتمع متماسك يواجه تحديات الحاضر والمستقبل بروح التفاهم والتعدّد والتساوي.
مقالات مشابهة