“حتى الأجيال التي ستولد في سورية مستقبلًا، ستطرق الرأس خجلًا، كلما توقفت أمام هذه الصفحات السوداء من تاريخ سورية”.
فرج بيرقدار
“جدران تنزف ضوءًا” عنوان أول رواية تصدر عن السجون السورية بعد سقوط النظام الأسدي الأبدي الإبادي، في الثامن من شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، والتي ينقل فيها الكاتب السوري الكردي ماهر حسن القراء إلى قلب زنازين الطاغية، حيث يتحوّل المكان الضيق إلى عالم متكامل، يفيض بالخوف والألم، لكنه أيضًا ينبض بالحياة والمقاومة (1).
قبل صدور رواية “جدران تنزف ضوءًا”، ومنذ استلام الأسد الأب للسلطة في عام 1971، وحتى انهيار نظام حكم العائلة لسورية في 08/12/2024، وجد العديد من رجالات السياسة والفكر والكتّاب والشعراء السوريين أنفسهم في مواجهة مفتوحة على مصراعيها مع نظام الأسدين الأب والابن (حافظ وبشار) الدكتاتوري، الذي حوّل البلاد بأسرها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها إلى سجن كبير، ناهيك عن السجون ومراكز الاعتقال الأسدية، التي تضم أكثر من 100 سجن ومركز علني وعددًا غير معروف من المراكز السرية فوق الأرض وتحتها، ما أضطّرهم لجعل السجن موضوعًا من مواضيع أعمالهم، فنقلوا معاناتهم التي عاشوها أو عاشها غيرهم خلف قضبان الزنازين الأسدية، التي تشكّل علامة بالغة القتامة والرعب في ذاكرة السوريين بسبب الممارسات الوحشية الإجرامية للعصابة التي حكمت سورية لأكثر من خمسة عقود، فوجد ما اصطلح على تسميته بـ “أدب السجون” تعبيرًا عن تجارب شخصية خاضها كتّاب بفجاجتها وقسوتها وعنفها، أو تجارب أرادوا نقلها. ومع أنّ الكتابة عن السجن دخلت من بدء نشوء أنماط الأدب الحديثة من الرواية إلى المسرح فالقصة، إلّا أنّها تجربة أصيلة في التراث الشعبي المحكي قبل ذلك، فظهر السجن في الأغاني، وفي القصص المحكية، وفي الأمثال الشعبية.
ويرى نقاد أنّ “الروايات السورية عن أدب السجون كانت من أهم الروايات العربية التي تناولت هذه المراحل من اللا حياة في حياة سجناء الرأي السوريين”.
في هذه المقالة نتوقف عند عملين من أبرز الأعمال الروائية والشعرية السورية، التي كتبت عن السجن أو كتبت فيه، والتي تمثّل نموذجًا صارخًا وحقيقيًا عن تجربة السجن في “سورية الأسد”، وعما يمارسه الجلادون الساديون من تعذيب جسدي ونفسي، بعد أن قتل جلادهم الأكبر ضمائرهم، فما عادوا يكتفون بتحطيم أرواح وإنسانية وكرامة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي من مفكرين وكتّاب وشعراء وفنانين، بعد أن حطموا أضلاعهم بوسائل وطرق وحشية ممنهجة في التعذيب، وما أكثرها في سجون البعث: الضرب، والصفع، والفلق والجلد بالكرابيج، والدولاب، والشبح على السلم، والفسخ، والدولاب، ولسع الكهرباء، والكرسي الألماني، والكهرباء، والفروج، والشنق، والجرجرة، والإذلال الجنسي، والأقسى؛ إجبار بعض السجناء على ابتلاع الفئران الميتة! كل هذا وغيره من مناخات الجحيم الأرضي، التي تفوق التصوّر والمخيلة، ما كنا لنعرفه لولا ما نقله لنا كتّاب عاشوا هذه التجربة القاسية من الموت الطويل اللا متناهي، والتي تركت في أرواحهم ندبًا لا يمحوها الزمن.
إضاءات تعري عتمة زنازين الطغاة
لعل رواية “القوقعة… يوميات متلصص” (دار الآداب- 2008)، للروائي مصطفى خليفة، من أهم الروايات السورية والعربية حول عالم السجن، والتي تروي لنا قصة الطالب السوري المسيحي، الذي درس في فرنسا الإخراج السينمائي، وعندما قرّر العودة إلى وطنه، تم توقيفه فور وصوله إلى المطار، وبقي في سجن النظام اثنتي عشرة سنة بتهمة الانضمام إلى (جماعة الإخوان المسلمين)! والرواية بحسب صاحبها، “شهادات شخصية وحقيقية في رواية”.
لقد استطاع الراوي/ الكاتب أن يقدم تجربة عن آليات عمل أنظمة المخابرات السورية، التي تحكمت نحو نصف قرن في مصائر السوريين من كل الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب. إضافة إلى قدرته على تقديم قراءة نفسية للسجن وضحاياه، إذ يجيء في العمل تأكيد متكرّر على التغيير الذي يفرضه المكان المغلق، فلا يمكن أن يخرج الإنسان كما دخل.
وبقدر ما كان العمل سيرة شخصية، فقد كان في نفس الوقت رواية عن سجن تدمر – ذي الصيت الذائع المريع- تمس حياة آلاف السوريين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في أقبية لسنوات طويلة، من دون تهمة، أو لأنّهم فقط فكروا على عكس ما يريده حاكمهم.
والرواية أو “السيرة الشخصية” لمصطفى خليفة، بحسب النقاد، هي “من أقسى ما كتب عربيًا عن الحياة، أو الموت بالأحرى، وراء جدران السجون. وقد تكون أيضًا من أجرأ ما كتب في هذا الأدب الذي اتفق على تسميته “أدب السجن”، ومن أقسى أو أعنف ما كتب” (2).
يقول الشاعر والناقد اللبناني عبده وازن: “لعل البارز في هذه الرواية أنّ صاحبها مصطفى خليفة ليس بروائي بل هو مخرج سينمائي لم يتسن له العمل وراء الكاميرا. فهو ما إن حصل على شهادة الإخراج من إحدى الجامعات الفرنسية وعاد إلى وطنه، حتى قبض عليه في المطار واقتيد إلى السجن ليكون بطل فيلم يخرجه السجان ومن وراءه”.
شعريًا، سجل الشاعر والمعتقل السياسي السابق فرج بيرقدار في كتابه “خيانات اللغة والصمت: تغريبتي في سجون الاستخبارات السورية” (دار الجديد- 2006)، شهادته بنصوص شعرية وسردية، للأربع عشرة سنة التي قضاها متنقلًا من سجن إلى سجن، ومن زنزانة انفرادية إلى زنزانة جماعية. وفي كتابه ذي الفصول السبعة عشر خصص فرج فصلًا كاملًا عن طقوس التعذيب، وفيه يعدّد جميع وسائل التعذيب محاولًا نقلها بطريقة تصويرية، تضع القارئ في قلب الحدث، بشرحه كيف يتم التعذيب في كل واحدة منها (3).
سرديات الطغيان الرهيب… تشققات في جدران “مملكة الرعب الصمت”
في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2020، عملت على إنجاز ملف خاص عن أدب السجون السورية تحت عنوان “مملكة الصمت الجهنمية في عهد الأسدَين”، نشر في موقع “مركز حرمون للدراسات المعاصرة”، تضمن شهادات مجموعة من الكتّاب والروائيين ممن خبروا ظروف الاعتقال فترات محدودة أو السجن في زنازين الأسد الأب والابن سنوات طويلة، وهم: بسام يوسف، محمد برو، راتب شعبو، مفيد نجم، محمد ديبو، وائل السوّاح، آرام كرابيت، شيار خليل شيار، وضاهر عيطة.
وفي هذا الملف كشفت شهادات المشاركين فيه حجم معاناة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، والتفاصيل المروعة عن التعذيب، في أحد أبرز رموز القمع والوحشية في سورية، سجن صيدنايا، “المسلخ البشري” كما بات يوصف في عهد الأسد الابن، وسجن تدمر، الذي أرعب السوريين لسنوات طويلة، وكان واحدًا من أسوأ وأقسى سجون العالم وأكثرها وحشية، وغيرهما من سجون ومعتقلات النظام الأسدي المخلوع.
“الروايات السورية عن أدب السجون كانت من أهم الروايات العربية التي تناولت هذه المراحل من اللا حياة في حياة سجناء الرأي السوريين”
تعذيب وإعدامات وجرائم ترقى إلى “جرائم ضد الإنسانية” ارتكبت في أقبية سجون النظام الأسدي، التي لم يكن بالإمكان معرفة حجم الطغيان الرهيب الذي واجهه المعتقلون في العقود الخمسة الماضية، أي قبل سقوط نظام عائلة الأسد، لولا سرديات السجون السورية، من كتب وروايات ويوميات ومسرحيات ومجموعات قصصية ودواوين شعرية… أحدثت تشققات في جدران “مملكة الرعب الصمت” الأسدية، وعرّت جرائم النظام البعثي البائد وانتهاكاته ووحشيته أمام السوريين والعالم. ولأنّ مساحة المقالة لا تسمح لنا بذكر كل ما كُتب عن السجون السورية فإنّنا سنكتفي بذكر بعض هذه السرديات:
كتاب “بالخلاص يا شباب: 16 عامًا في السجون السورية” (دار الساقي- 2012)، للكاتب ياسين الحاج صالح، الذي قبع بسجون الأسدين الأب والابن ستة عشر عامًا، وفي مقدمة الكتاب يؤكّد صالح أنّه “لم يفِ ما كُتبَ عن السجن السوري حتى اليوم التجربة حقها. سُجن آلاف، ومرّ بتجربة السجن عشرات الآلاف، ولم تكتب أو تنشر غير بضعة كتب”.
رواية “السوريون الأعداء” (دار الريس- 2014)، للروائي فواز حداد، التي تعدّ من أبرز الروايات عن سجن تدمر، الذي أقدم تنظيم (داعش) الإرهابي على تفجيره عام 2015، عندما استولى على مدينة تدمر. ومع أنّ الرواية تؤرّخ للحظة تاريخية حاسمة في تاريخ الاستبداد في سورية والقمع في سجن تدمر، أي مجزرة حماة في ثمانينيات القرن المنصرم، فإنّ حداد يحاول فهم العلاقة بين ما حدث هناك وما يحدث في سورية إبان سنوات الثورة الأولى على نظام بشار الأسد المستبد، ويعرض تفاصيل مهمة عن بنية النظام الطائفي والعائلي في سورية، الذي يستند على مركزية طائفة، ثم مركزية عائلة ثم مركزية شخص.
رواية “ناجٍ من المقصلة… ثمانية أعوام في سجن تدمر” (دار جسور- 2021)، للكاتب والمعتقل السابق محمد برو، وهي عبارة عن سردٍ أدبي توثيقي، يسلّط الكاتب فيه الضوء على سجون ومعتقلات الأسدين من خلال تجربة اعتقاله في سجن تدمر. وضمّت الرواية نصوصًا تمثّل قصصًا وحكايا عاصر تفاصيلها برو خلال فترة سجنه لثماني سنوات، في ثمانينيات القرن الماضي، بعضها حصل معه شخصيًا وبعضها الآخر مع رفاق السجن من كافة مكوناتهم وأطيافهم الفكرية والسياسية.
رواية راتب شعبو “ماذا وراء هذه الجدران” (دار الآداب- 2015)، وهي سيرة ذاتية لحياة الكاتب في السجن، وفصولها مقسمة حسب الأحداث الجارية من قتل وتعذيب، وآلام، وغربة، وانسحاق أمام الشرطة. وكذلك بالمعاملة الإنسانية داخل المهجع لكل السجناء بعيدًا عن الرأي السياسي، خاصة تعامل الشيوعيين، باعتبارهم الأكثرية أمام القوى المسماة بـ “الرجعية” من (جماعة الإخوان المسلمين)، و(بعث العراق).
رواية “أجنحة في الزنزانة” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت، ودار السويدي للنشر/ أبو ظبي – الحائزة على جائزة ابن بطوطة – اليوميات 2014 – 2015)، للكاتب مفيد نجم، والتي يتحدث فيها عن تجربة اعتقاله، وعن الأجنحة التي تنمو للمعتقل، بالرغم من كل القهر والتعذيب، ومن الوصول للموت أكثر من مرّة، وموت الرفاق الحقيقين من التعذيب.
رواية “خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في سجون سورية” (دار أفق- 2019)، للكاتبة هبة الدباغ، وهي التي اعتُقلت لأنّ شقيقها متهمٌ بالانتماء إلى (جماعة الإخوان المسلمين)، وخرجت من السجن لتجد أنّ كل عائلتها قد قُتلت في مجزرة حماة الكبرى عام 1982، ولم ينج غير شقيقها صفوان لأنّه كان خارج سورية. وبعملها هذا قدمت الدبـاغ وثائق نادرة وحقيقية ضـد نظام القتلة الأسـدي.
رواية “نجمة الصبح” (دار ورق- 2017). للروائية السورية الراحلة رغدة حسن (توفيت في آذار/ مارس 2021)، والتي تصور علاقة حب تجمع بين سجين وسجينة في معتقلات النظام، وتعبّر هذه القصة عن حدث واقعي عاشته رغدة في المعتقل، حيث التقت عبر ثقب بالجدار بزوجها، الفنان الفلسطيني عامر داوود، الذي كان معتقلًا مثلها آنذاك. وقد أثارت هذه التجربة فضول الصحافي والمخرج البريطاني شون مكالستر، الذي حول الرواية إلى فيلم وثائقي حمل اسم “قصة حب سورية” (Syrian love story)، من إنتاج شبكة BBC البريطانية. وسبق أن تعرّضت رغدة عام 2010 للاعتقال، بسبب روايتها “الأنبياء الجدد” التي سلّطت الضوء من خلالها على كواليس المعتقلات السورية وعذابات المعتقلين، مستفيدة من التجربة التي تعرّضت لها في المعتقل.
أخيرًا، لقد بدا لنا أنّ كل ما سطره السجناء/ الكتّاب ضحايا الحقبة الأسدية البعثية، عقب فرار بشار الأسد إلى موسكو، أقل بكثير مما شاهدناه يوم السقوط وما تلاه من كسر للقيود وفتح لزنازين كافة سجون البعث، من صور ومشاهد جحيمية نقلتها لنا عدسات الناشطين السوريين، وكاميرات مصوري معظم القنوات الفضائية السورية والعربية والدولية، وها نحن بانتظار ما سيكتب في قادم الأيام من قصص وروايات ومسرحيات وأشعار وأغنيات ودراما تلفزيونية وسيناريوهات أفلام وثائقية وروائية قصيرة وطويلة، عن السجون وما حدث فيها من إبادة وبشاعة وفظاعة تهتز لها الجبال الرواسي.
هوامش:
1) صدرت الرواية عن “دار تاسك للنشر” في الولايات المتحدة، في شهر آذار/ مارس 2025.
2) صدرت للروائي مصطفى خليفة رواية ثانية توثق حكايات أخرى عن المسجونين والمعذبين في السجون السورية، بعنوان “رقصة القبور” (دار الآداب- 2016).
3) صدر للشاعر فرج بيرقدار، كتاب آخر بعنوان “الخروج من الكهف: يوميات السجن والحرية” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر وارتياد الآفاق- المركز العربي للأدب الجغرافي ودار السويدي للنشر والتوزيع)، وقد فاز الكتاب بجائزة ابن بطوطة 2012- 2013 للأدب الجغرافي.
مراجع:
1) ملف خاص عن أدب السجون… مملكة الصمت الجهنمية في عهد الأسدين، نشر في “مركز حرمون للدراسات المعاصرة” بلا اسم لدواعٍ أمنية، بتاريخ: 27/12/2020.
2) عبده وازن، “أدب السجن السوري ينهض من زنزانات التعذيب البعثي”، موقع “أندبندنت عربية”، نشر بتاريخ: 13/12/2024.
3) سلسلة تقارير ومقالات نشرت في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية سورية وعربية، عن “أدب السجون” في سورية.
شارك هذا المقال