إنكبّ قادة إيران برئاسة المرشد علي خامنئي على البحث في أوضاع الأذرع العسكرية في محور الممانعة بعد الهجمات الاسرائيلية القوية التي تعرضت لها وخصوصاً درّة ايران وفخر صناعتها “حزب الله” في لبنان. ويبدو أن إيران إقتنعت بتغيير استراتيجيتها في المنطقة إنطلاقاً من أسلوبها السياسي البراغماتي، وإدراكاً منها بأن موازين القوى ليست لمصلحتها وأن اسرائيل متفوّقة على أذرعها العسكرية، وهذا ما ظهر في حربها على “الحزب” وتصفية قادته وتدمير بنيته التحتية العسكرية.
هذه المعلومات تسرّبت إلى وسائل الاعلام الأميركية، علماً أن جانباً منها يعتبر استخباراتياً. أما ما بات معروفاً فهو توجّه إيران إلى العودة للجذور في ما يخص أذرعها العسكرية، أي التخلي عن الصراع الاقليمي وخدمة المشروع التوسّعي الايراني، والاهتمام بالمحافظة على نفوذها داخل أوطانها، ما يعني أن سلاح هذه الأذرع لم يعد موجّهاً ضد اسرائيل في الوقت الحاضر، بل هي غير قادرة أصلاً على مقارعتها، وهذا ما يبدو واضحاً من أداء “الحزب” في الجبهة اللبنانية، إذ تقوم اسرائيل بقصفه واغتيال قادته الميدانيين من دون أي ردّ، وهذا الوضع سيستمر حتى إشعار آخر.
كل ذلك، يُبرر مواقف الأمين العام لـ”الحزب” نعيم قاسم، وازدواجية الخطاب، بحيث يُعلن تمسّكه بالسلاح من جهة ويقبل بالحوار مع رئيس الجمهورية جوزاف عون من جهة أخرى. واللافت أن المعطيات الأميركية تشير إلى أن “الحزب” يرفع السقف باحثاً عن صفقات أكانت مع اسرائيل أو الولايات المتحدة أو دول الخليج.
لكن هذا لا يعني أن “الحزب” تخلى عن التزامه بالصراع الاقليمي الواسع، إنما يسير وفق التوجيهات الايرانية التي نصحته بالتراجع التكتيكي، مع المحافظة على قواعده الشعبية والأموال، والأسلحة المهربة عبر شبكات غير مشروعة.
وتلفت المعلومات المتوافرة من واشنطن إلى أن هيمنة “الحزب” على الدولة اللبنانية ضعفت كثيراً نتيجة الهزائم الاقليمية، لذلك هو يحاول التعويض عنها من خلال التصعيد لبنانياً، إلا أن إصرار مكوّنات كبيرة من الشعب اللبناني على نزع سلاح “الحزب”، يُلزمه بالاستجابة للحوار مع عون، فيما إيران منشغلة بالمفاوضات النووية وإحتمال المواجهة العسكرية مع اسرائيل والولايات المتحدة. سيتفرّغ “الحزب” للداخل اللبناني أكثر، وسيحاول أن يكسب وقتاً ريثما تنتهي المفاوضات النووية، مع سعي إلى إعادة تأهيل نفسه عسكرياً على الرغم من إقفال قنوات تهريب السلاح والأموال التي كانت مفتوحة عبر سوريا.
لا شك في أن “الحزب” لا يستطيع العيش من دون سلاح وتهريب وفوضى، صحيح أنه فقد قدرته على ردع أعدائه الاستراتيجيين، إلا أنه قادر على التخريب في الداخل اللبناني، وهذا ما فعله منذ العام 2006 وحتى اليوم في مساره للهيمنة على السلطة في لبنان. علماً أن هذه الاستراتيجية سيعتمدها الحوثيون و”حماس” وكل الميليشيات الايرانية في العراق وإيران نفسها.
تعتبر التقارير الأميركية الغنية بالمعلومات أن إيران دولة مارقة والأذرع العسكرية التابعة لها تشابهها على هذا الصعيد، بدليل أن خامنئي ندّد في آذار الفائت باحتمالية إجراء مفاوضات، إلا أن وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي قَبِلَ رسالة من دونالد ترامب، أُرسلت عبر مسؤولين إماراتيين، وتكشف التقارير أنها تمنح طهران مهلة شهرين للتفاوض على اتفاق نووي جديد، وتتضمن تهديداً بضرب البرنامج النووي الايراني إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق. وورد في الرسالة نفسها أن ترامب طلب أيضاً من طهران التوقف عن إرسال الأسلحة إلى الحوثيين ودعم “حزب الله” مالياً، وتفكيك وحدات الحشد الشعبي العراقية. أما الكذبة الأكبر فهي أن طهران لا تريد محادثات مباشرة، إنما بوساطة عُمانية، لكن من الواضح أنها سرعان ما قبلت التفاوض في روما، وهي مستعدة للتنازل، على الرغم من خطابها العلني العدائي حيال الولايات المتحدة الأميركية، طامعة بتحقيق انفراج اقتصادي مُلحّ، ولن تتردد في القيام بتنازلات كبيرة على صعيد الاستجابة بقطع علاقاتها مع محور الممانعة أو تفكيك برنامجها النووي بالكامل. وهذا ما يؤكده كثيرون من المتابعين لمسار المفاوضات، إذ يقرّون بأنها بلغت البحث في المراحل التقنية.
لذلك، يتّجه “الحزب” إلى الاعتماد على نفسه في الداخل اللبناني، ولن يكون مفاجئاً أن يلجأ إلى التصعيد عبر التبجّح الكلامي والمواجهة الشعبية عبر انتفاضة تحت عنوان مذهبيّ شيعي، معتقداً أن استراتيجية التصعيد تُثمر أحياناً بقفزات مفاجئة لتعزيز النفوذ.
وتشير التقارير الأميركية إلى أن النبرة العالية المستجدة لـ”الحزب” في ما يتعلّق بنزع سلاحه هي جزء من تكتيكاته السياسية الجديدة بعد أن أصبح مهدداً ومحاصراً، فهو يطمح، على الأقل، الى الحفاظ على حق “الفيتو” على القرارات الوطنية. ولا تستبعد التقارير أن يلجأ “الحزب” إلى أساليب خشنة كالاغتيالات في الداخل في المرحلة المقبلة كلّما تضاءل الدعم الايراني، ولا شيء يمنع من تصادمه مع منافسيه المحليين، وربما ينخرط في الفساد ويغطيه، معتمداً على الأساليب التي أوصلته إلى الهيمنة في لبنان في حقبة سابقة.
لكن صعوبات كبيرة ستواجهه لأن الدولة اللبنانية بسلطاتها الجديدة مصمّمة على إضعافه عسكرياً، وهناك أحزاب وتيارات سياسية مناوئة له، مثل “القوات اللبنانية” و”الكتائب” والتغييريين ستنافسه في مجالات متعددة: السياسة الانتخابية، المكاسب الاقتصادية، والسياسة الدولية محلياً وإقليمياً.
أما ما يبقى سيفاً مصلتاً على “رقبة” الحزب ويضعفه بإستمرار، وفق التقارير الأميركية، فهو مواصلة اسرائيل تدمير البنية التحتية لـ”الحزب” وقتل قادته عن بُعد. ومحاولة “الحزب” التحايل على مسألة تسليم سلاحه إلى الدولة اللبنانية، قد تثير شهيّة اسرائيل على استئناف حربها من الباب الواسع وصولاً إلى احتلال الجنوب اللبناني وفرض واقع جديد لإنهاء وضعية “الحزب” العسكرية بالكامل.
إذاً، تخوض إيران وأذرعها العسكرية غمار نظام إقليمي جديد. صحيح أن نفوذها قد تضاءل بصورة حادة، إلا أنه لا يزال كبيراً، وخصوصاً أنها لا تزال تحتفظ بسلاحها، وهي قادرة على التخريب وخوض حروب ولو غير متكافئة. والمفارقة أن استمرار “الحزب” في تعنّته ورفضه لتسليم السلاح قد يؤدي إلى صراعات حامية الوطيس في الداخل اللبناني، وقد تكون دموية ومزعزعة للاستقرار في لبنان، ولن يختلف الوضع في اليمن إذا فعل الحوثيون الأمر نفسه.