في منطقة لطالما عُرفت بالحروب بالوكالة والعقوبات والانقسامات الطائفية، يشق تحول هادئ طريقه في الأفق، حسب ما نقرأ في مقال بموقع المجلس الأطلنطي. وبدأ فصل جديد في العلاقات الأميركية-الايرانية بالتشكل، يتمحور حول استئناف المحادثات النووية، لكن ما يتجاوز أجهزة الطرد المركزي ومخزونات اليورانيوم هو فرصة أكبر بكثير: مستقبل التعاون العالمي في مجال الطاقة.
فمع انطلاق المفاوضات المفصلية بين الحكومة الايرانية وإدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، تبدو احتمالية التوصل إلى اتفاق جديد برعاية أميركية مع إيران أقرب الى نقطة تحول تاريخية. ولا ينبغي النظر إلى هذا الاتفاق كنسخة محدثة من خطة العمل الشاملة المشتركة فحسب، بل كاستراتيجية أشمل تتضمن الالتزام النووي، وخفض التصعيد الاقليمي والتعاون في مجال الطاقة. ومن شأن مثل هذا الاتفاق أن يعيد رسم مسار التفاوض من التركيز الحصري على تخصيب اليورانيوم وضبط التسلح، إلى هيكلية أوسع تتمحور حول التجارة والبنى التحتية والتكامل الاقليمي.
وإذا ما نُفذ هذا التصور برؤية بعيدة المدى وشفافية وحوكمة شاملة، سيسمح إنشاء ممر إقليمي للغاز بتحويل الجغرافيا السياسية المجزأة في الشرق الأوسط إلى منظومة قائمة على المصالح المتبادلة.
“ممر السلام”
في صلب هذه الفرصة يقع حقل “بارس الجنوبي”، حصة إيران من أكبر حقل غاز طبيعي في العالم، والذي يمتد عبر الحدود البحرية مع قطر، حيث يُعرف باسم “القبة الشمالية”. يحتوي هذا الحقل على ما يُقدر بـ 14 تريليون متر مكعب من الغاز و18 مليار برميل من المكثفات، أي أكثر من 40٪ من احتياطي إيران المثبت من الغاز، وما يقارب 8٪ من الاحتياطي العالمي.
وعلى الرغم من هذا المورد الهائل، لا يزال “بارس الجنوبي” غير مستغل بالشكل الكافي بسبب العقوبات الدولية، وضعف الاستثمارات، وتقادم البنية التحتية. وعلى الرغم من إعلان طهران عن مشروع بقيمة 7 مليارات دولار في آذار 2025 للحفاظ على ضغط الغاز في الحقل المتقادم، فإن حجم الحقل يتطلب ما هو أكثر بكثير: شراكات دولية وتكنولوجيا حديثة والوصول إلى الأسواق العالمية. وهنا تتقاطع الديبلوماسية مع الطاقة.
وفي إطار هذه الرؤية، تلتزم إيران بوضع برنامجها النووي تحت رقابة شاملة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتخلي عن دعم وكلائها الاقليميين، وفتح قطاع الغاز الطبيعي أمام الاستثمارات الأجنبية. في المقابل، قد تحصل طهران على ما يصل إلى 120 مليار دولار من الأصول المجمدة، وتنشط اقتصادها، وتبدأ بتصدير الغاز على نطاق واسع إلى الدول المجاورة وأوروبا.
وتتمحور هذه الخريطة حول ما يسمى “ممر السلام الغازي”، والذي سيكون القناة الرئيسية لهذا التحول، من خلال ربط حقل “بارس الجنوبي” عبر العراق وسوريا إلى البحر المتوسط، مع امتدادات نحو تركيا وشبكة الطاقة الأوروبية.
إيران: من العسكرة إلى السوق
من جانبها، ستحصد إيران فوائد هائلة، فهي تمتلك ثاني أكبر احتياطي مثبت من الغاز في العالم بعد روسيا، لكنها كانت معزولة لعقود عن الاقتصاد العالمي للطاقة. قطاع الطاقة المحلي يعاني من عدم الكفاءة، وانقطاعات دورية، واعتماده على دعم غير مستدام. فعلى الرغم من امتلاكها احتياطيات تقدر بـ 33.8 تريليون متر مكعب، تعاني إيران من نقص داخلي في الطاقة، بحيث تجاوز الطلب في شتاء 2023–2024 حاجز الـ 800 مليون متر مكعب يومياً، في حين بلغ العرض حوالي 700 مليون متر مكعب يومياً، ما أدى إلى انقطاعات في التيار الكهربائي وتوقفات صناعية.
استثمارات أجنبية لتطوير حقل “بارس الجنوبي” من شأنها أن تعيد التوازن بين الطلب المحلي والفائض المعدّ للتصدير، وتخفف الضغط عن نظام الدعم الداخلي الذي يكلف الدولة نحو 63 مليار دولار سنوياً.
هذا التحول الاستراتيجي من العسكرة إلى السوق سيتيح لطهران تحديث بنيتها التحتية، والانخراط مجدداً في شبكات التجارة العالمية، وإعادة تعريف صورتها الدولية. ويوازي هذا مشروع خط أنابيب “الصداقة” بين إيران والعراق وسوريا، الذي طُرح لأول مرة عام 2011، لكنه تعثر بفعل الحرب الأهلية والعقوبات والمقاومة السياسية. اليوم، ومع سعي المنطقة الى الاستقرار، وحاجة الأسواق العالمية الى مصادر بديلة للغاز الروسي، بات المنطق الجيوسياسي لهذا المشروع أقوى من أي وقت مضى. كما أن ممر السلام الغازي يمكن أن يكون شريان حياة اقتصادياً لدول ما بعد الصراع، وجسراً للتقارب بين قوى إقليمية لطالما فرّقتها الصراعات. ومن الناحية الاقتصادية، قد تضخ عائدات العبور والاستثمارات المرتبطة بالبنية التحتية مليارات الدولارات سنوياً في دول مثل العراق وسوريا، لتشكّل عنصر استقرار في جهود إعادة الإعمار.
فرص عالمية
ويحمل هذا الممر منافع واضحة للغرب أيضاً. فبالنسبة الى واشنطن، قد يعيد دعم مثل هذه المبادرة ترسيخ القيادة الأميركية في منطقة تراجع فيها النفوذ الأميركي مؤخراً. وإذا ما تم تصميم المشروع وتمويله وتشغيله من شركات أميركية وحليفة، فقد يحقق عائدات طويلة الأمد عبر الرسوم وعقود الخدمات وحصص الملكية، ما يرسّخ المصالح التجارية الأميركية في مستقبل الطاقة في المنطقة.
وبمجرد تشغيله بالكامل، يمكن لخط أنابيب “السلام الغازي” نقل ما يصل إلى مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، أي ما يعادل نحو خُمس احتياجات أوروبا الحالية من الواردات. وهي قدرة من شأنها أن تنافس ممرات الغاز الحالية مثل “نورد ستريم”، وتعزز بصورة كبيرة من تنوع مصادر الطاقة في أوروبا ومرونتها.