إذا كانت السياسة نوعًا من الاهتمام بأمور ظاهريّة ودنيويّة، وموقفًا من الحياة يتعلق بياء الملكيّة وتسيير أمور الخلق أو السطوة عليهم؛ فإن التصوّف على النقيض تمامًا. يبدأ من حيث ينتهي السياسي، من لحظة إدراك الفناء ونعمة الزوال والحمد على اللاّشيء وكأن صاحبه يملك كل شيء.
لكن العلاقة بينهما، علاقة احتياج، إذ تبرز لدى الأول – أي السياسيّ- الحاجة لمباركة روحيّة وتتحول لدى المتصوّف والزاهد رغبة في السيادة المعنويّة إذ لا يدير هذا ظهره للدنيا إلا ليملكها، إيمانًا بمقولة: من استغنى ملك. فيخفض توقّعاته منها وعنها حتى تأتيه راضية ومرضيّة.
هذه المسائل وغيرها يقاربها كتاب “التكايا والسرايا” للباحث والكاتب السوري محمد نور النمر(*) والذي يتحرّى الخيط الرابط بين المتصوّف – الزاهد العارف والعازف عن العالم- وبين السياسي الطامع الآخذ منه والمقبل عليه.
إذ يرصد في الكتاب – الذي يتألف من فصول ثلاثة “التصوف والسياسة”، “جدل السلطة والطرق الصوفيّة في الدولة العثمانية”، و”الصوفيّة والعلمانيّة في تركيا الحديثة”- العلاقة بينهما ليمتد إلى تفكيك تغلغل كلّ منهما في الآخر وحاجته إليه في تاريخ الدولة التركيّة.
يبدأ الكتاب من دولة السلاجقة التي تأسّست على عصبية الانتماء، فهي برأي المؤلف “أقرب لمفهوم العصبيّة عند ابن خلدون”، ويفكك العلاقة الدقيقة والحذرة بين حكام السلاجقة وبين ممثلي الطرق الصوفيّة: “فقد استطاع التصوّف أن يقود الدعوة الدينية التي احتاجتها السلطة السياسية الجديدة مع السلاجقة ثم العثمانيين، ليكون شريكًا مؤثرًا في قيام دولتيهما”.
يرى الباحث أن السلطة السياسية التي عرفتها الدول الإسلاميّة تحاول تثبيت دعائمها عبر أحد المصادر الفكريّة الثلاثة (الكلام، الفقه، التصوّف)، وغالبًا ما كان اعتماد أحدها هو السبب الرئيس في صراعها مع بعضها البعض.
ولعل الأكثر إشكالية في العلاقة مع السلطة هو التصوّف فقبوله بقي “محلَّ أخذٍ وردّ على المستوى العقائدي، وانقسم أصحاب الرأي بين مناصر للطرق الصوفيّة ومحارب لها”، وأُسُّ الجدل هو اختلاف السياسة عن التصوّف، فالأولى ترتبط بما هو دنيويّ ونسبي، وبعكسها يتعلق الثاني بالجوهر والمطلق. إذ يبدو التصوّف كاحتجاج على الواقع أو موقفًا يتمثل في اعتزال السياسة وأهلها، لكن هذا لا يعطي تطمينات للسياسيّ الذي “يرى في السلطة الروحيّة منافسًا لسلطته وخطرًا يهدّد ملكه”، لذلك يعمد إما للتحالف والتفاهم مع رجالاته أو القضاء عليهم وسجنهم. فالعلاقة تخللتها فترات هدوء وفترات ملاحقات وتكفير بأوامر سياسية، دعمتها وسوّغتها فتاوى فقهيّة، دافع بعضها الحسد والغيرة من الحضور الذي حظي به المتصوّفة، ومن أشهر المحن في هذا السياق محنة الحسين بن منصور الحلاج (309هـ-922م) والسهروردي المقتول (587هـ-1191م).
وقد شهدت العلاقة في مراحل أخرى توافقًا تمثله الدولة السلجوقيّة ووريثتها الدولة العثمانية، من خلال المنزلة العالية لأقطابه لدى قادة السلطة ورجالاتها، والتي ساعد عليها المكانة التي حظي بها أولياء الصوفيّة في الوعي الشعبي؛ إضافة لقيمه التي تقوم على الانفتاح والتسامح وتقبل الآخر والتي تجعله يتكيف مع الشروط والاعتبارات الاجتماعية. ويتدرّج الكتاب من وصف طبيعة العلاقة بين رجل الدين – الصوفيّ – وبين رجل السلطة – السياسيّ- لينفتح منها على أثره في الحياة العامة ودوره في تدعيم أركان الدولة.
“يبدو التصوّف كاحتجاج على الواقع أو موقفًا يتمثل في اعتزال السياسة وأهلها، لكن هذا لا يعطي تطمينات للسياسيّ الذي “يرى في السلطة الروحيّة منافسًا لسلطته وخطرًا يهدّد ملكه”، لذلك يعمد إما للتحالف والتفاهم مع رجالاته أو القضاء عليهم وسجنهم”
في الفصل المعنون “مقاربة خلدونيّة في تأسيس الدولة السلجوقية” يتحرى أثر التصوّف إلى جانب عصبية الانتماء في تأسيس الدولة السلجوقية. لكن تأثير المتصوّفة الروحيّ أخرج العصبية من أفقها الضّيق إلى أفق أكثر عمومية لعب فيه المتصوّفة دورًا في صناعة هوية أيديولوجيّة خاصة. وهذه الفترة هي من أهم مراحل تاريخ بناء الوعي السياسي للأتراك؛ إذ حكمت هذه الدولة (أسرة آل سلجوق) وهي سليلة قبيلة قوية تزعمت مجموع القبائل التركية.
وتمثل فترة “طغرل بك”، و”خليفته آلب أرسلان”، ثم “ملكشاه”، مرحلة العصر الذهبيّ لدولة السلاجقة. إذ عمد “طغرل بك”، بعد أن نجح في توسل العصبية القبلية عبر توحيد القبائل التركمانيّة؛ لشدِّ هذه العصبية بالدعوة الروحية، فاهتم بشيوخ الطرق الصوفيّة ولم يتأخر عن زيارة كبار متصوّفي عصره في همدان لينال مباركتهم “ثم سار ومعه وزيره حتى أتاهم وقبّل أيديهم، وكان بابا طاهر مجذوبًا فقال له: أيها التركي ماذا عساك فاعل؟ قال السلطان: ما تأمرني به؟ قال بابا طاهر: افعل ما أمر الله به. عندها قال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان… فبكى السلطان وقال سأفعل”.
وعلى الرغم من التفاهم الإيجابي الذي مثلته واقعة همدان، فإن رؤى المؤسس طغرل بك لم تَخْلُ من تناقض وارتباك في التعامل مع المتصوفة.
إلى أن أدرك الوزير “نظام الملك”، أشهر وزراء دولة السلاجقة وصاحب السلطة الخفيّة، أهميّة الصوفية، فأعاد الاعتبار “للأشعريّة” التي انتقصت مكانتها ولُعنت على منابر مساجد الدولة. ويمكن القول إن شخصية نظام الملك انطوت على جانب صوفي إلى جانب الحنكة السياسية، إذ تلقى التربية في صباه على قيمها، وفي شبابه خرج إلى مرو لطلب العلم وأرسل معه والده غلامًا وحمارًا وأوصاه أن يتريث في أزجاه (قرية في دولة تركمانستان)، ولما وصل مشارف ميهنة رأى جموع المتصوفة وقد خرجوا يطلبون أمرًا ساعة الفجر “وعندما وصلت وقعت عيونهم علي، نهضوا وتقدموا وأخذوا يسلمون علي ويعانقونني وسألتهم، ماذا حدث؟ ولأي سبب خرجتم؟ قالوا: أبشر، فعندما أدّينا صلاة الفجر قال لنا الشيخ: كل من يريد أن يرى شابًّا تدين له الدنيا، وينال ثواب الآخرة، فليخرج ويستقبله في طريق أزجاه، فخرجنا جميعًا لتحيّتك”.
لقد أرسى المتصوّفة في عهد نظام الملك مشروعًا فكريًّا، أراد من خلاله أن يكون التصوّف ميسمه الرئيس؛ واختار نخبة من قادة الطرق الصوفيّة ليكونوا صنّاع الهويّة الفكريّة للدولة، بينهم أبو حامد الغزالي والسهروردي؛ انطلاقًا من إيمانه بالدور الذي يقوم به رجال التصوّف في الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي، والقيمة الرمزية لدورهم في بناء الدولة السلجوقية وازدهارها.
يفكك الكتاب جدل العلاقة بين المتصوفة وقادة الدولة العثمانية من لحظة ولادتها وتطورها وازدهارها إلى فترة تراجعها الحضاري، وصولًا لانهيارها في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، فيعرض لأهم المتصوفة ورموزهم الذين صاغوا الحياة الثقافية وعلاقتهم بالسلطة الحاكمة، كما يتعرض لحجم نفوذهم في الإمارة العثمانية، ولا سيّما بعد وصية “أرطغرل” لابنه عثمان، إذ قرّب الأخير المتصوّف “أده بالي” بعد أن قصّ عليه حلمه الذي “رأى فيه قمرًا يخرج من حضن الأخير ويدخل حضنه لتنبت منه شجرة عظيمة”.
“أصدر كمال مصطفى أتاتورك قانونًا يحظّر جميع الطرق الصوفيّة وتكاياها، ونظر إليهم باعتبارهم رمزًا للتخلف الحضاري”
إذًا، احتاج مؤسسو الدولة إلى سرديّة دينية، فتحالف عثمان مع الطرق الصوفيّة وشيوخها، واهتم بتلك المهاجرة من أراضي دولة سلاجقة الروم كالرفاعية والقادرية. ولم يتوقف تأثير الصوفية هنا، إذ سيلعبون دورًا في قلب ميدان عملية التحول من الإمارة للدولة، عبر نشاطاتهم في بناء القطاعات المختلفة كالجيش والحياة الاقتصادية والفكرية والفنية والأدبية.
فالبكتاشيّة أسهمت في بناء عقيدة الجيش، و”الآخيّة” في صياغة النظام الاقتصادي، كما أسهمت “المولويّة” في صياغة الهوية الثقافية للدولة العثمانية وفي الأدب والموسيقى، من خلال المثنويات، وفي الموسيقى “كانت المقطوعات الشعرية الصالحة للغناء والموسيقى مختارة على وجه الخصوص من أشعار مولانا الرومي”.
لكن تبدلًا يُعزى إلى جمود التصوّف وعجزه عن مواكبة العصر، إضافة لظهور النزاعات وفرمان سليم الثالث – مع نهاية القرن الثامن عشر- بتأسيس مجلس المشايخ، أدى لتراجع التصوّف. وكانت مهمة الأخير مراقبة التكايا والزوايا “بهدف تحديد أصحاب العقائد الفاسدة من الدراويش”.
فقد أضحت تعيينات مشايخ التكايا تحت إشراف “مشيخة الإسلام”، وهذا التدخّل بلغ ذروته في عهد السلطان محمود الثاني الذي أصدر فرمانًا بقواعد شكلية (1836م)، كتحديد ملابس المنتسبين والأختام لاحقًا، ليؤثر تراجع الفكر الصوفي في تراجع الدولة العثمانية؛ إضافة لتقادم الزمن عليها وميلها للجمود. “فانهارت البكتاشية مع بدء انهيار القوة العسكرية للدولة، وانهارت الآخيّة جراء ضعف اقتصادها، وزالت المولوية بزوال الدولة في الربع الأخير من القرن الماضي”.
في الفصل الثالث “الصوفية والعلمانية في تركيا الحديثة”، يشرِّح العلاقة في المائة عام الأخيرة، ولا سيما فيما يطلق عليه الباحث “العلمانية الصلبة” بعد أن “تحولت أفكار كمال مصطفى أتاتورك لعقيدة سياسية”، وكي يميز بينها وبين العلمانية الليّنة التي يمثّلها الإسلام السياسي أو التيار المحافظ “حزب العدالة والتنمية”.
ويعرض لوضع الصوفيّة ضمن العلمانية الصلبة، حيث تم إلغاء التكايا والزوايا في 1925 وألقاب الدراويش، كما أُلغيت الخلافة وفق المبادئ الأتاتوركية القائمة على مبادئ العلمانية، لكن إدراك أتاتورك لأهميتهم جعله ينخرط معهم في تفاهم لم يدُم طويلًا.
إذ أصدر كمال مصطفى أتاتورك قانونًا يحظّر جميع الطرق الصوفيّة وتكاياها، ونظر إليهم باعتبارهم رمزًا للتخلف الحضاري. وقد اختلف رد فعل المتصوفة بين القبول والرفض، بينما تابع قسم منهم في الخفاء.
إن الإجابة عن السؤال الذي هيمن على الوعي التركي منذ مطلع القرن العشرين والمتعلق بكيفية نهوض الأمة؛ لم تكن واحدة، بل تراوحت بين تيار يعتقد بضرورة الحفاظ على التقاليد التي حققت حضارة الأمة في الماضي، بينما يذهب تيار آخر إلى ضرورة تبني القيم الغربيّة ويدعو إلى القطيعة مع التراث باعتباره السبب الرئيس في التأخر.
وبين هذين التيارين كانت تنوس الهوية التركية، والتي صاغت، وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، تركيبًا جديدًا، في هوية تجمع الأصالة والمعاصرة، حاول عبرها شيوخ المتصوفة تطوير إرثهم ليتحول من مواقف فرديّة تعبديّة، إلى مؤسسة قادرة على الاستجابة للاحتياجات الجديدة لتركيا الحديثة.
إذًا، يجمع الزهد في حقيقته بين الإعراض عن الدنيا وبين الثورة على السلطة والوقوف في وجه تحدّياتها، وهو الأقدر على تبني قضايا الراهن والانفتاح على الآخر لكونه بديلًا آمنًا للتيارات الراديكاليّة التي تشجع على فكر الجهاد وما ينجم عنه من صراع.
وستبقى العلاقة بين السياسيّ والمتصوّف إشكالية بين تيارين، ينطوي أحدهما في عمقه على الآخر ويحتاج إليه. وكتب أستاذ التاريخ الإسلاميّ في جامعة كاليفورنيا نايل غرين مرة: “إن العلاقة بين الولي والسلطان علاقة أخذ وعطاء، لكنها مبادلة لموارد غير متشابهة متمثلة في الأموال والأراضي في مقابل المعجزات والبركة”.
* كاتبة سورية.
(*) محمد نور النمر، التكايا والسرايا: عن علاقة المتصوّفة بالسلطة عند الترك، دار راميتا، الشارقة، 2025.