كثيرةٌ هي القصائدُ والعناوينُ والأعمالُ الفنية التي تداخلتْ مع بيت شعر الفرنسي الشهير سان جون بيرس، الواضح: «سمّوني الغامض، وكان حديثي عن البحر»، وبالأخص أعمال الحداثة التي يدخل من بين ما يدخل في جوهر تكوينها الغموض، الجوهر، التجريد، والانزياحات. ومن الطبيعي أن تتمحور ابتكارات ما تداخل من أعمالٍ تتعلق بهذا البيت، حول ثالوث كلماته: الغموض، الحديث، والبحر، سواء بمجموعها أو بفردية واحدة منها، وبخصوصية الابتكار الذي يقوم به الشاعر المتداخل في تشابكه مع هذه الكلمات سواء بالمعاني أو بإيقاع الورود.
وفي هذا السياق الذي يمكننا فيه اعتبار كلمة الحديث هي الكتابة، وقد أفصح عن ذلك الشاعر الفلسطيني وليد الشيخ في تداخله، بقصيدته «لم أعدْ قادراً على أن أتحدّث أكثر»، من مجموعته الشعرية «لا أكتب عن الحرب»؛ يمكن القول إن عنوان هذه المجموعة لا يستدعي حضور بيت شعر سان جون بيرس، مباشرةً. كما لا يفعل مباشرةً كذلك، باسترجاع صراع التقليد والتجديد في جوابِ المجدّد أبي تمام: «ولماذا لا تفهمون ما يُقال»، على سؤال التقليديين: «لماذا تقول ما لا يُفهَم؟»؛ بقدْر ما يستدعي في توارد الانزياحات والمجازات، ما يفرضه واقع الشعر الذي يتنفس على أرضه الجمهور وفق ثقافته:
ــ هواءَ الشعر الصارخ بعجيج وضجيج مسخ العنتريات الأولى، في نوع القصيدة العمودية المعاصرة المفصحة عن خواء الطبل داخل معظم شعرائها الغنائيين الذهنيين، وفي ارتياحها مِن همّ التجديد على وسائد مجالس العشائر، وراحات السّلَف الصالحين في توريثهم، للخَلَف الصالحين لتكبيل الأرواح بالماضي.
ــ أو هواء الشعر الهادئِ الصارخ بصمت آلام النفس البشرية في مواجهتها مصائر أقسى جرائم الحرب وأنفذ خناجر الخذلان، في الحروب الطائفية، وفي أقبح حربٍ متوّجةٍ بالإبادة الجماعية على مدينة غزة، لإنعاش الأرواح المخنوقة بأنفاس الحاضر والمستقبل التي تبثها قصائد ما بعد الحداثة.
ويمكننا أن نتصوّر بقدْر ما نقارن ونتأكّد خلال قراءتنا لقصائد المجموعة التي لا يكتب شاعرُها عن الحرب، أنه يكتب عن الحرب، بالانزياح إلى ما تتناوله الحرب بسعير نارها:
أولا في المعنى: كمن يريد أن يمحوها بعدم ذكر اسمها، مثلما يفعل الناس مع مرض السرطان الذي يقولون عنه عند ذكره «الذي لا يتسمّى» كي لا يَحضُر، وكمن يريد استبدالها بالكتابة عما يناقضها، حيث:
«لا أكتب عن الحرب
أكتب عن البنت
التي ظنّت أن كل ذلك كان حلماً
وأن الله
يرتّب في ملكوته
حدائقَ وأعناباً
لإخوتها الذين صعدوا إليه…
البنتِ التي سألتِ الأطباءَ عن ذراعها
الجيرانَ عن أمّها
وسألت الله
بإلحاحٍ بائسٍ
عن السبب».
وعن الرجل الذي صمتَ أمام وقاحة الكاميرا، وعن غرفة النوم «موضع الأسرار الحميمة»، بعطورها وحواراتها وشجاراتها اللطيفة، والصغار: «الذين ألقوا علينا القبض/ ونحن نستعد لمنحهم أخاً جديداً». الغرفة التي مُحِيَت من الوجود، مخلّفة في القارئ التساؤل عمّن محاها.
وعن دمشق، التي مرّت بتجربة مماثلةٍ لغزّة، وإن بانزياحٍ، حيث:
«سأكتب قصيدةً عن دمشق
عن الولد الذي مات
وهو يبحث في الغربة عن السلام والمطر
عن البنتِ التي ظلّت في الوطن حيث الحرب والجفاف
والنظامِ الذي لا يسقط
عن الوطنِ الذي يَطرُد أولادَه بلا رأفةٍ
ويغلِقُ على البنات الأبواب والشبابيك
عن الحربِ التي لا تتوقّف
والمطرِ الذي لا يجيء
ودائماً
عن نظامٍ لا يسقط
وثورةٍ لا بدَّ أن تصل».
وثانياً في المبنى: الذي يستحضر للذهن القصيدة العمودية الذهنية التي تنتعش في أزمنة الانكسار وتشبّث اليائسين بحبال الماضي، لكي تقعِّر الواقع محاوِلةً قلبَه وإعادتَه إلى الماضي، مقابل قصيدة تفعيلةِ ونثرِ ما بعد الحداثة المخالِفة، بملاحظة وعي الشيخ لهذه المخالفة في ما يكتب، وذِكْره لذلك في قصيدة «كرةٌ طائرة مثقوبة»، التي تصوّر غربة شعر التجديد وعدم صلاحيته للتداول أو فقد جماهيريته. وتأكيده على ذلك في قصيدة «استعراض» التي تليها، حيث: «أقف على شرفة النثر/ وأفكّر/ قبل أن يستبدَّ الإيقاع بالكلمة القادمة/ وتصبحَ الصورةُ الشعرية صوتاً من البحر البسيط/ كأفعال الأعشى الآثمة/ ثمة حروفٌ بيضاء/ تقف مثل كلب وديع بجانبي/ على شرفة النثر/ بانتظار دورها التاريخي».
ويمكن للقارئ استنتاج، إن لم يكن ملاحظة، التداخل غير المرئي لقصائد المجموعة المعنيّة بالحرب مع بيت سان جون بيرس، وتماثُل أحرف الحرب والبحر الكامن في لاوعي الشاعر، وحضور الغموض في قصيدة «حجاب» المصاغة بتفعيلة بحر الخبب «فعلن»، وتسكين القافية، حيث: «لا حاجة لي خلف البابْ/ أغلقت على نفسي/… وجعلت الشعر حجابْ».
في بديل الكتابة عن الحرب:
في انزياح كتابته عن الحرب إلى ما تكمُن خلفَه الحرب، واستقرَّ عناوين في قصائد المجموعة، ومعانٍ تشير إلى الحرب، مثل الخراب، المدينة التي بلا نهر، حيث، «يداي معلّقتان ومرفوعتان/ تستجديان السماء/ قدماي عالقتان في الرمل». وحقيبة الذكريات والفشل والخذلان على الكتف المثقل، والطفولة المقطوعة عن مواصلة الابتسامة، والمصعد الذي ظلّ يهبط إلى مجهول لا ينتهي بسدرة المنتهى، والرجاء المتضرّع إلى البرد أن يتوقف، والإيديولوجيا المسمِّمة للعقول، والرسائل التي تأتي من الأموات في السماء السابعة، وتذهب للسماء من الأحياء المحتملين جثثاً، دون جدوى سماع ردّ أو خلجة تعاطف، أو بلّة شغفٍ لإجابة سؤالٍ، والحرّية الملتَبسة. وإلى ما هنالك من تصوير للإحباط واليأس الذي يوصل القارئ إلى الاختناق ويدفعه ربّما للاستيقاظ من تأثير غاز تكرار المجازر المنوّم.
في انزياح هذه الكتابة عن الحرب، يشكّل الشيخ بنية مجموعته من أربعة فصول هي: «كما فعل بشر/ كثيرون في التاريخ، لا أكتب عن الحرب، يوم جمعة باهت، ولا ألومك على شيء»، وتضم الفصول أربعين قصيدة نثر، وقصيدة تفعيلة قصيرة، وتتراوح القصائد بين الوسط في الطول والقصائد القصيرة بطول صفحة واحدةٍ. وتنضوي قصائد الفصول الثلاثة تحت ما يتمحور حول الحرب وانزياح الكتابة عنها، بينما تتمحور قصائد الفصل الرابع حول الحبّ وإشكالاته قبل وما بعد الزواج، من جَرحٍ ولومٍ وندمٍ وغفران واستبدال، ومن ذكريات عنه في مختلف مراحل العمر عندما يمضي.
وكان من حسن حظ المجموعة في تشكيلها كباقة باختلاف هذا الفصل، فتحُ عنوانِها البابَ لذلك، وفسحُه المجالَ للشاعر أن يتحدث عن الحب، وأن يقرنه بالحديث عن الحرب، وبما يفصل ولا يفصل بينهما، وبالأخص في القصيدة التي تفتح الباب للتنوع «لم أعد قادراً على أن أتحدّث أكثر».
في أسلوب الانزياح:
ولأن المهمّ هو كيف تصاغ الأفكار ومدى تشابك الشكل بالمعنى، يحرص الشعراء على التفرّد بلغاتهم وأساليب تكوين قصائدهم، ضمن الحركات والمدارس العامة التي تجمعهم. وفي ذلك يتصف أسلوب الشيخ ضمن مواصفات قصيدة نثر ما بعد الحداثة، مع خصوصيته، ببناء قصيدته على تتالي اللوازم بما يخلق إيقاعاً للقصيدة، وباللجوء إلى القفلات التي تقلب التوقّع فتدهِش القارئ وربما تقلب مفاهيمه.
مع روح العبث، والسخرية، بخصوصية الجرأة على الكشف والمرارة لديه، مثلما يفعل في قصيدة «حقيبة فشل على الكتف»، حيث: «وفي المظاهرة التي ذهبتُ إليها وأنا أظن أن المبادئ القديمة/ التي ولدتْ نهايةَ القرن التاسع عشر/ بمقدورها أن تحرّر مدناً بائسةً وفلاحين/ وعدتُ دون أصابع/ ولم أعدْ أشير بالسبابة إلى الأبد… مع ملاحظةٍ أخيرة/ يبدو أنها من مدير العالم/ بأني لا أصلح للحبّ».
في نسيج قصيدته يلجأ الشيخ إلى لغة جريئة قاسية وصادمة ينزّ منها الدم، وبالأخص في القصائد التي تتحدث بانزياح ومن دون انزياح عن الحرب، مثلما فعل مع الرجل الذي: «أدار فجأة ظهره للصحفيين/ حاملاً برفق بالغٍ/ قطعاً صغيرة من اللحم المحروق/ راح يجري بها إلى المستشفى». وذلك من أجل إحكام القبضة على عنق القارئ وإيصاله حدّ الاختناق للصراخ والاحتجاج على حياديته تجاه ما يجري أمامه.
وتأخذ اللغة في قصائد أخرى اتجاهاً آخر، مع الحفاظ على الجرأة، مثل القصائد التي تتحول فيها اللغة إلى الإيروتيكية اللطيفة، كما في قصيدة «ربّما»: أفكّر أنْ «أستدعي رائحة الخميرة التي كنت أشمها كلما مرّت خولة بأردافها أمامي/ أيضاً، وعلى سبيل قفزةٍ في الهواء/ أن أتـصلَ بالمرأة التي تلبس كيلوتات سوداء وحمراء فقط/ وأقولَ لها بوضوح، دون مواربةٍ،/ إني أريد أن أرى الرخام والأعشاب والحواف/ وأن آخذها إلى الشرفة،/ فيما المدعوون يواصلون ضجيجهم في الغرفة/ وأهبطَ إلى ملكوتها».
وفي أسلوب انزياح قصائده، يضيف الشيخ إلى هذا الانزياح، وإلى إثارة الإحباط وتوليد الاختناق لاستخراج الأمل، بثّ الأمل بصورة مباشرةٍ في بعض القصائد الصارخة بالتعاطف تحت ضغط اليأس، مثلما فعل في قصيدة «كي تواصل ميس ابتسامتَها»، من دعم المقاومة المبثوثة بين الأسطر، وإن بالتمنّي والطلب من الله أن يتدخّل، في ألّا ينحرف المثلث الأحمر الشهير في إعلام حرب غزة بمقاومة الاحتلال، عن هدفه المشير إلى تدمير آليات جيش الاحتلال وجنوده. ومثلما فعل في «قصيدة عن دمشق» التي ذكرناها.
وليد الشيخ: «لا أكتب عن الحرب»
الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان 2025
96 صفحة.