ما هو راهِنُ النقد العربي المعاصر؟ وهل استطاع اكتسابَ شخصيةٍ مستقلةٍ خاصةٍ به؟ وما علاقته بالمناهج والنظريات الحديثة؟ وهل استطاع تمثلَها عند قراءته للنص الأدبي العربي، أم طبقها بشكل ميكانيكي على هذا النص؟
هذه الأسئلة وغيرها كانت مدار حوار أجرته صحيفة «القدس العربي» مع مجموعة من النقاد العرب، حاولتْ فيها تقصيَ واقعِ النقد العربي وآفاقه ومستقبله، والسبيل الواجب انتهاجُه لامتلاك هُوية خاصة به.
جوهـــر الأزمـــة
في إجابته عن السؤال الأول قال الناقد السوري خالد حسين: إن النقد في العالم العربي ليس وحده الذي يواجه أزمة، بل العالم العربي ذاته هو الذي يواجهها. وفي رأيه أن هذه الأزمة لا ترتبط بالفضاء السوسيو ـ ثقافي العربي المطحون بمسنناتِ قوتين حادتين تتسوران بسلطة قمعية ـ وأخرى دينية، والثانية أشد فتكاً من الأولى؛ ولذلك تُجهِض الفعل الفكري في بزوغه.. وكلتا السلطتين تحددان سقف التفكير لدى المفكر والناقد، إلخ. هنا تتحدد الأزمة البنيوية في السائد والمجتر؛ إذ لا يمكن للنقد أن ينبثق بصورةٍ مبدَعةٍ في ظل السقف الميتافيزيقي الصلد الذي هيكله «الخطاب الديني» وقوة السلطة. وهاتان القوتان تُنتِجان الفكر المستكين والمتجانس والمتطابق مع ما هو مرسوم له. فكيف يمكن لناقدٍ/ـة في هذه الحالة أن يزعم بأنه يمارس التقويض في تحليله، وهو رهين مستنقع ميتافزيقي، غير مدرِكٍ أن التقويض هو من أكثر الاستراتيجيات جرأةً في تَذْريةِ كل ما يتلبس أردية «المقدس»، ويكبح حرية الفكر، ويؤسس لكارثة اليقين في الممارسات الخطابية. من هنا أعتقد أنه لا خروج من هذه الأزمة إلا بحضور الفضاء الديمقراطي، الذي يتيح فصل الدين عن الدولة، ويوفر الأرضية لانطلاق «الفكر» في التساؤل والمساءلة والتقويض. وهكذا ينتهي الأمر بالناقد إلى أن يكَيف بشكل انتقائي أو توفيقي أدوات ومفاهيم محددة لقراءة نص أدبي، حتى لا يسائل البنى التصورية الصلدة في الثقافة العربية ـ الإسلامية، وهي البنى المسؤولة عن الفاجعة التي تحل بالعالم العربي والإسلامي. وقد كشفت الزلازل المجتمعية، التي حدثت في هذا العالم، أن حضور الفضاء الديمقراطي ضربٌ من الاستحالة، في ظل هيمنة البنى المذكورة على سطح الحياة الاجتماعية؛ إذ كيف يمكن الحديث عن «ثورة» مشدودة إلى تعاليم ابن تيمية؛ حيث الرفض والإقصاء والاستبعاد. وهكذا لا يمكن للنقد إلا أن يتجمد في مستنقع الأزمة، وهذا تماماً ما عكس دهشة لونيس بن علي؛ إذْ استغرب في مؤتمر نقدي أن يفتتح بعضُ النقاد العرب أحاديثَهم عن «التفكيكية» بالبسملة!!
ومن ناحيته أعلن الناقد المغربي عبد الدين حمروش أنه لا يحبذ استعمال «خطاب الأزمة»، التي لا تأخذ بالحسبان الاعتبارات النسبية، أثناء مقاربة الموضوع، سواء أخص الأدب، أم الموسيقى، أم التشكيل، أم غيره. وفي رأيه أن الاعتراف بأن هناك أزمة، لا يستجيب للشروط الموضوعية التي تساهم في تشكيلها، ويتناسى طرح أسئلة حول طبيعتها، ودرجتها، وامتدادها، ويذهب إلى أن مفهوم «حديث» الوارد في السؤال يبدو فضفاضاً؛ لأنه لا يحصر الموضوع المتناوَل في مدى زمني محدد. وفي إجابته عن جوهر الأزمة، يستطرد حمروش قائلا: إذا أردنا أن نقيّم الدرس النقدي العربي الحديث، ينبغي أن ننظر إلى معطيَيْن ثقافييْن- اجتماعييْن على الأقل: الأول، يتصل بمدى انفتاح مجتمعاتنا على فضيلة النقد، والثاني، يتصل بشيوع استعمال وسائل التواصل، وما أحدثته من انقلاب في التعاطي مع الأدب. فضلا عما يُشاع عن سعة انتشار ما يسميه بعضُهم «خطاب التفاهة»، ولعل خير توصيف لهذا الواقع، القول بتراجع القراءة في عالمنا العربي. وطرح السؤال الآتي: لمن يكتب الناقد الأدبي في مجتمع لا يقبل النقد، ولا يقرأ أصلا؟ ويجيب عن ذلك قائلا: إن ما يُشاع عن حركيات نقدية محدودة، ليست سوى إسهابات نظرية بحت، أو تحليلات نصية «تجريدية»، لم تستطع أن تصل إلى عتبة النقد.
وتجاوزاً لكل هذا، لا يمكن الحديث، في رأيه، عن وجود أزمة في النقد الأدبي إذا كان هناك تراجعٌ في نقد الخطاب الشعري الحديث، وتوسعٌ في نقد الخطاب الروائي. مع الإشارة إلى مفارقة أخرى، تتمثل في الحضور الكثيف للخطاب النقدي الجامعي، مقابل حضور نظائر له في الإعلام الصحافي، أو النشر الحر. ولو كانت هناك إرادة حقيقية للاستفادة مما تحويه رفوف الجامعات عندنا من أطاريح وبحوث، لبات الحديث عن خطاب الأزمة مُتجاوَزاً بالطبع.
أما الناقد العراقي سعد التميمي فيرى أنه إذا كان النقد العربي الحديث والمعاصر منذ انطلاقته لم ينجح في إنتاج نظرية نقدية عربية، ولا يزال يعاني من أزمة هُوية، فإن هذا لا يعني أنه يعيش أزمة منهج أو تخبط في الإجراء؛ إذ أفرز هذا النقد عشرات النقاد الذين استطاعوا استيعاب ما طرحته النظريات النقدية الغربية، وأعادوا قراءة المفاصل المهمة في التراث العربي، فضلا عن أن النظريات النقدية الغربية انبثقت من مرجعيات واكبت النهضة العلمية وما تبعها من تحولات، وقد نقلت هذه النظريات اهتمامها من السياق إلى النسق في نقد الأدب؛ فبدأت بالمؤلف ثم النص ثم المتلقي، كما نقلت النقد من الانطباعية إلى العلمية، فأصبح يقوم على ضوابط دقيقة، لكن هذا لا يعني، في رأيه، أن جميع من وظف هذه المناهج نجح في استيعاب مرجعياتها؛ إذ هناك كُثرٌ يفتقرون إلى استيعاب المرجعيات الفلسفية لهذه النظريات ما يجعل اشتغالهم سطحياً ومتناقضاً أحياناً.
النقد الأدبي العربي الحديث وسؤال المنهج
وحول علاقة النقد الأدبي العربي الحديث بالمناهج النقدية الحديثة؟ قال خالد حسين: إن الإشكالية برمتها تتمثل بموانع التفكير وتقزيم الفكر، وهي شروط مُجحِفة ومانعة في إنتاج فكر تاريخي بالمجتمع والأدب والتاريخ والدين ذاته. فضلا عن أن «التبعية» اجتاحت الممارسات النقدية والفكرية في العالم العربي. وهكذا اكتشفنا بسرعة أن الخطاب النقدي في العالم العربي لا يناهض المسلمات والبدهيات والأنساق المضمرة، ولا يسائلها، ويبقى مُعتقَلاً ضمن الأفق الميتافيزيقي للثقافة العربية، ذلك أن مغبة المساءلة، كبيرة، وأفضت إلى نتائج خطيرة، ولذلك أقول: إن أَرْضَنَةِ نظريات الفكر الإنساني القائمة على الشك والمساءلة، وتبيئَتَها في الثقافة العربية تُجهَض غالباً، وتتحول من فكر تساؤلي إلى مجرد أدوات منهجية مفرغة من قوتها القائمة على الشك؛ لتستقيم مع السقف الميتافيزيقي للفكر في العالم العربي.
وفي إجابة عن السؤال نفسه يقول سعد التميمي، من الضروري تكييف قواعد المناهج الغربية لاستيعاب النص الأدبي العربي؛ لأن هذا من شأنه أن يحافظ على الهُوِية العربية للخطاب النقدي العربي، ويبعده عن التبعية العمياء التي يُتهم بها؛ وهي موجودة في جانب من الخطاب النقدي العربي الذي اختزل تلك المناهج في خطوات شكلية منفصلة عن مرجعيتها الأبستمولوجية، وقد نتج عن ذلك خطابٌ نقدي مُشوه يفصل بين النظرية والتطبيق، ويجعل التحليل فيه سطحياً خالياً من الرؤى الفكرية لتلك المناهج. وفي رأيه أن الخطاب النقدي العربي يجب أن ينطلق من معرفة الأسس الفلسفية التي كونت تلك المناهج، مع الوعي بالقواعد والضوابط التي تقوم عليها، واستيعابها في دراسة النص الأدبي وتحليله، فضلا عن التأكيد على خصوصية الأدب العربي المرتبطة بالواقع العربي وطبيعة اللغة، ذلك أن العربية لها خصوصيتها وبشكل خاص في حقل الشعر.
أما عبد الدين حمروش فيرى أن النقد الأدبي العربي الحديث تأثر بنظيريه الأوروبي والأمريكي، بغية تحقيق قدر من الضبط العلمي «العلمَنة»، وتجاوز شبهة الانطباعية، التي لازمت النقد الأدبي العربي القديم؛ ولذلك، شكّل تمثل الخلفيات الفكرية والجمالية التحدي الأكبر للنقاد العرب، وفي رأيه أن هذا التمثل ظل مرتهناً بعدة أمور:
– القدرة على ملاحقة ما يصدر في الغرب من معارف ومناهج في حقل النقد الأدبي، مع الأخذ بالحسبان الهوة الزمنية، بين ما يصدر في الغرب، وما يصلنا في إثره،
– التمكن من اللغات الأجنبية، التي كانت تصدر بها تلك المعارف، ومع ذلك ظل النقد الأدبي العربي الحديث لا يخرج عن كونه تقليدياً، حتى وهو يستعير بعض المفاهيم والخطاطات المنهجية الحديثة، كما ظل الارتباك قائماً في إيجاد مقابلات ترجمية دقيقة لعدد من المفاهيم والمصطلحات النقدية؛ ما ساهم في إشاعة الخلط واللبس لدى القراء والباحثين.
هوية النقد الأدبي العربي: المساءلة والتقويض والاختلاف
وفي إجابة عن سؤال: هل يمكن للنقد الأدبي العربي الحديث أن يمتلك شخصيته المستقلة في ظل التغيرات الدراماتيكية العاصفة، التي أصابت نظريات القراءة وآليات التأويل، قال خالد حسين: أعتقد أن الفكر الأوروبي ـ الأمريكي فكرٌ لا يستكين، ولا يعرف سوى المساءلة والتقويض والاختلاف؛ لأن الأفق مفتوح أمامه بفعل الفضاء الديمقراطي، والارتداد على مُنتجِه بقصد المساءلة التي لا تُكبَح. كما أن المنعطف المعلوماتي يمنح هذا الفكر القدرة على الانتشار. وفي رأيه أنه لا يمكن الحديث عن «شخصية مستقلة» للفكر في ظل التفاعل بين أصقاع العالم وثقافاته، ذلك أن كل فكر قائم على التمفصُل، والتواصل، والتثاقف، والفرادة، ولا يمكن لهذه الفرادة أن تكون إلا من خلال التواصل والانقطاع. وهذا شرط للإبداع للذهاب بالعام إلى الخاص؛ إذ إن الفرادة تتجلى في تواصلها وتفاعلها، لكن هذا صعب المنال في ظل ظروفنا البائسة، وفي رأيه أن التغييرات التي أصابت نظريات القراءة وآليات التأويل تأتي انعكاساً خلاقاً لتغيرات وتحولات في توجهات الفكر ومساراته بفعل استمرار الفكر الفلسفي في طرح سؤاله الأبدي ضمن أفق إنساني حر.
ويخلص سعد التميمي في إجابته عن السؤال السابق إلى إصدار حكم مشابه لرأي خالد حسين قائلا: إنه لا يستطيع أحد أن ينفي تأثير العولمة وفلسفة الحداثة وما بعدها في جميع مستويات الحياة، وكيف أنه طال الهُوية أيضاً؛ إذ بدأت بعض الهويات تتماهى مع الآخر، وقد رافق هذه التحولات انتقالُ المناهج النقدية بين الأركان الثلاثة للنص الإبداعي (المنتِج، النص، المتلقي)، وفي التحول الأخير توجه الاهتمام صوب المتلقي، واتسعت دائرة التأويل بعد أن ابتعد الخطاب النقدي عن دائرة الوصف والتقييم وإطلاق الأحكام؛ وأصبح مفتوحاً على عدد لامتناهٍ من القراءات، وتحول الناقد إلى «قارئ عليم» يتصدى للنص الأدبي من خلال ما يملكه من أدوات منهجية محددة، وأخذ يمتلك القدرة والصلاحية لإنتاج النص من جديد.
أما عبدالدين حمروش فيرى أن حركية الإبداع نكصت، في العالم بأسره، بالتوازي مع نكوص الحركات الثقافية، والاتجاهات الأدبية، والنزعات الفكرية، كأن كل شيء تم طرحه، وما بقي لا يتجاوز إعادة «تدوير» ما طُرِح من نظريات.
النقد الأدبي العربي: استعارة أم تمثل أم نزوع توفيقي
وفي الإجابة عما إذا كان النقد الأدبي العربي قد تمثل المناهج النقدية الحديثة أم لا، قال خالد حسين: على الرغم من الصورة القاتمة في العالم العربي، إلا أنني أرى أن المنعطف المعلوماتي ووسائل الميديا وتعاظُم أثر الترجمة، يمكن أن تسهم في تجديد الفكر النقدي وتَبْيئة نظرياته، لكن أسوأ ما في ذلك هو تحول هذه النظريات إلى مساطر ومناهج؛ لذلك ترى النقاد ينتقلون من نظرية إلى أخرى، دونما مساءلة للمرجعية التي أنتجت هذه النظريات؛ ولذلك فالاستفادة من هذه النظريات تكون سطحية، وتخدم لحظة القراءة فحسب. وفي ظني أن النظرية هي فكر ومفاهيم وكلاهما يفيد في إنتاج معرفة بالنص؛ لذا فاستعارة المفهوم دون الأفق الفكري الذي يمنحه غناه وثراءه يمكن أن يفضي إلى السقوط في التوفيقية أو الانتهازية.
ويثري سعد التميمي ما بدأه خالد حسين قائلا: لا يمكن أن نضع كل ما يكتب تحت عنوان «النقد الحديث»، ذلك أن هناك مستويات مختلفة في الخطاب النقدي العربي، فهناك من النقاد من استطاع استيعاب النظريات الغربية بدءاً بمرجعيتها الأبستمولوجية، ومروراً بقواعدها المنهجية، وانتهاءً بتكييفها لمواجهة النص الأدبي العربي، ولذلك لم يبق للناقد العربي خيارٌ غير الاعتماد على نظريات السرد الغربية، وأما ما أسقطته «الحداثة» و»ما بعدها» على النص الأدبي الحديث فقد كان نتاجاً للتحولات التي طرأت على مستوى الحداثة وما بعدها.
بحثــاً عــن طــوق نجــاة
وفي تطرقه إلى السبيل الواجب انتهاجه لخلاص هذا النقد من أزمته البنيوية؛ قال خالد حسين: إن جوابي عن هذا السؤال متضمن في الإجابات السابقة. ومع ذلك يمكن القول إن الأزمة البنيوية التي تعتقلُ النقد الأدبي العربي هي ذاتها أزمةُ ثقافةٍ تغوص في مستنقع ميتافيزيقي، وتُحكَم بالاستبداد والتصور الديني؛ ولذلك لا يمكن لهذه الثقافة الخروج من مضيق هذه الأزمة البنيوية، التي تطحن كل شيء، وتعيد إنتاجه بصورة أسوأ مما كان عليه.. وفي ظني أن النقد الأدبي لا يخرج عن هذه الأزمة المستفحلة.
أما سعد التميمي، فيرى أن الحكم بوجود هذه الأزمة هو نوع من التطرف، وهو تطرف يماثل منْ حكَم بوجود تطرف بحق التحولات التي مرت بها القصيدة العربية؛ إذ جرى رفضُ نوع، وتم التمسك بآخَر، ومثلما يمكن أن نقبل قصيدة الشطرين أو التفعيلة أو النثر، يمكن أن نقبل أيضاً الخطاب النقدي الذي ينطلق من مرجعية عربية خالصة، كما يمكن أن نقبل خطاباً آخر يزاوج بين المرجعية العربية والمرجعية الغربية، ويمكن أن نقبل خطاباً ثالثاً يعتمد على النظريات النقدية الغربية أيضاً، والمهم أن يكون الخطاب النقدي بأشكاله هذه مستوعباً المرجعية التي ينطلق منها ليتمكن من القواعد والضوابط التي يقوم عليها منهجه في قراءة النص، ولذلك فالخطاب النقدي العربي الحديث لا يمر بأزمة بنيوية؛ لأنه يتحرك بعلاقة جدلية مع النص؛ ويحدث نفسه كلما طرأ تحديث على النص نفسه.
وفي رأي عبدالدين حمروش أن النقد الأدبي الحديث في العالم العربي ظل نقداً تقليدياً، وهو يستعير بعض المفاهيم والخطاطات المنهجية الغربية الحديثة، وظل كذلك وهو يلجأ إلى الترجمة، كبديل مطلوب أحياناً، كما ظل الارتباك قائماً في بنيته من خلال الاستعانة بمقابلات ترجمية دقيقة لعدد من المفاهيم والآراء النقدية؛ ما ساهم في إشاعة الخلط واللبس لدى القراء والباحثين معاً.