تثير عبارة “الرقابة على الكتب والمنشورات وتداولها” كثيرًا من المخاوف في الأوساط السورية، ليس فقط لأنهم عاشوا التجربة المرة خلال فترة حكم نظام الأسدين (الأب والابن)، ولكن لأنها تأتي في زمن الانفتاح العالمي على كبرى المكتبات الدولية، والقدرة على قراءة وتحميل وطباعة أي كتاب، مهما ابتعدت مسافات دور النشر، أو تعددت اللغات، أو اختلفت أيديولوجيات الكتاب، ما يعني أن القرار في المحصلة لن يمنع الاطلاع، بقدر ما يمنع من تداول الكتاب “رسميًا”، ولعل القرار غايته (حسب النيات الحسنة في أسباب اتخاذه) نفي المسؤولية عن الدولة، كونها المصدر، أو الناشر، أو الموزع، في ظل غياب وسائل المصادرة الفكرية المفتوحة عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة.
تعلم حكومات العالم حقيقة رفع يدها عن الرقابة الفكرية، إلا أنها لا تعجز عن استخدام الوسائل التي تمكنها قدر المستطاع، من الإبقاء على مبدأ المحاسبة حين يكون المحتوى مخالفًا لدساتيرها، هذا ليس فقط في الدول العربية، بل هو وضع عام يفيد باحترام حرية الفكر في مقابل احترام حرية التقاضي، فبلدان كالسويد وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، وهي رموز في الحريات، حرية النشر فيها مكفولة دستوريًا، ولا تحتاج إلى موافقات مسبقة، إلا أن ذلك لا يحمي كتابها وناشريها من المساءلة أمام القضاء حين يكون المحتوى عابثًا بالأمن المجتمعي ومحرضًا على العنف والكراهية، أو ينشر معلومات كاذبة عن أحداث حقيقية، أو يمارس تشهيرًا وإساءةً لحريات شخصية لأشخاص موضوع الكتابة، أي أن الرقابة بمفهومها الاستباقي غير موجودة إلا في الأنظمة الأبوية التي تمارس الحظر المعلوماتي حماية لمجتمعاتها، على رغم غياب قدرتها الحالية على فعل ذلك.
“ما نحتاجه في سورية ليس الرقابة على المطبوعات وتداولها. وحسنًا فعل وزير الإعلام بإعادة توضيح قرار الرقابة على المطبوعات بأن غرضه التنظيم، وترتيب ما أفسده زمن النظام البائد”
سادت في المجتمعات عبارة “كل ممنوع مرغوب”، ما سهل نشر دعايات مضللة احيانًا عن منع يطاول رواية، أو كتابًا، في مختلف المجالات، وبخاصة عندما تكون عبارة المنع مواربة، قادرة على فتح آفاق واسعة لخيال الباحث عن المتعة، أو الغرابة في الطروحات المقيدة. هذا الواقع دفع المجتمعات إلى البحث عن وسائل أكثر نجاعة في عملية التحذير من المحتوى غير المناسب، مثل أن يمارس المجتمع نفسه رقابته الخاصة على نوع الكتب والمعلومات المتداولة، من خلال التوعية بأضرار المعلومات المضللة، أو المحرضة. فقد كانت المنتديات الثقافية، والبرامج الثقافية والصفحات النقدية وسائل رقابة مجتمعية، أكثر جدوى من القرارات الرسمية، حيث يمكنها تحشيد رأي عام حول قضايا مثارة، ومنها منع نشر كتب من دون تصنيف الجمهور الموجهة له عمريًا، أو تحديد نوع المحتوى على وسائط التداول، سواء كانت إلكترونية، أو فيزيائية.
صدور أي قرار يتعلق بالرقابة على المنشورات يمكن أن يكون عامل طرد لكثير من الكتاب، الذين يأملون بعهد جديد تصان فيه الحريات الفكرية والأدبية، وتشجع دور النشر على استعادة نشاطاتها داخل سورية، بعدما تسببت القرارات السابقة للنظام الأسدي بهجرة عدد منها، وخاصة الجادة، وذات السمعة والمصداقية العالية، إلى دول مجاورة، نتيجة التضييق الذي مارسته أجهزة الرقابة، ما نتج عنه إضعاف البيئة الثقافية السورية، وخسارة لاستثمارات ضخمة في المجال الثقافي والفني.
هذه المخاوف هي ما ترجمت خلال الأيام الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي بنقد واضح لقرار الرقابة على المطبوعات، لأنه جاء في وقت مبكر من تشكيل حكومة انتقالية بعد انتصار الثورة، وتحرر البلاد من منظومة الأمن القمعية، ما دفع كثيرًا من الكتاب والمهتمين إلى التساؤل عن جدوى التضييق في زمن الانفتاح على العالم، وتقنياته التي تخطت حواجز الحدود، وحولت كل مواطن يستخدم وسائل التكنولوجيا في أي بلد إلى ناشر وصانع محتوى، وقائد رأي، سواء بمعناه الإيجابي، أو السلبي.
ربما ما نحتاجه في سورية ليس الرقابة على المطبوعات وتداولها، وحسنًا فعل وزير الإعلام بإعادة توضيح قرار الرقابة على المطبوعات، أنه بغرض التنظيم، وترتيب ما أفسده زمن النظام البائد، لأن آلية التهرب من أي رقابة اليوم سهلة المنال، في ظل أن واقع العمل الإلكتروني متاح للجميع، والتي باتت تقض بانفلاتها مضاجع الجميع، وما يستدعي التفكير به جديًا هو قوانين تجرم استنهاض الفتن النائمة، والاعتداء على حرية وحياة الناس وكرامتهم، على أي وسيلة نشر مطبوعة، أو إلكترونية، أو كما هو معمول فيه في عدد من دول العالم، مدونة سلوك يلتزم فيها كل كاتب، أو مبدع، أو مدع، أنه كذلك، في أي مجال كان، أو في أي حقل معرفي، أو فني، مرئي، أو مسموع، أو مكتوب، أو مختلط، حيث العلم اليوم، يقدم لنا الكثير من أبواب المعرفة التي قد تصبح قوت الأجيال الحالية والقادمة، ونكتشف معها أن قرارات المنع حبر على ورق، وأن ما نحتاجه في فصل الأمور، قضاء عادل، وقراءة جديدة في التعامل الحقوقي والمجتمعي مع رواد الثقافة والعلم.
*كاتبة سورية.