لم يغب المسرح الراقص عن المشهد الثقافي السوري طوال سنوات الثورة، ويمكن القول إن هذا الريبرتوار الجسدي تمكّن من تحقيق العديد من العروض داخل البلاد وخارجها. تارةً عبر قسم الرقص في “المعهد العالي للفنون المسرحية” في دمشق، وتارةً أخرى عبر تجمعات وفرق مستقلة. واستطاع هذا المسرح الجسدي أن يحقّق اختراقات عديدة في كسر آليات الرقابة السائدة على العروض الدرامية، فلغة الجسد كانت دائماً عصيّة وحمّالة أوجه، وقادرة على تخطّي محظورات الرقابة الرسمية على النصوص المكتوبة، والتخلّص من سطوة لجان المشاهدة التي غالباً ما تكون ذات مرجعية تقليدية في عملية التلقي وتحليل العروض ذات الطابع الأدائي الشامل.
من هنا، شكّلت عروض المسرح الراقص السورية بذرة لحداثة مسرحية لم تمتثل لنقاء النوع الفني، بل دمجت بقوة بين عناصر الفيديو والحركة والمؤثرات الصوتية والغرافيك. ولعل الريادة في هذا المجال كانت للكريوغراف الراحل لاوند هاجو (1977-2008) الذي كان أوّل من احتفل باليوم العالمي للرقص في دمشق عام 2007، وناضل من أجل ذلك ليكون التاسع والعشرون من إبريل/نيسان من كل عام فرصةً للاعتراف بالرقص في مجتمع لا يزال العديد من أفراده يعتبرون الجسد منطقة محرّمة، وموضعاً لطهرانية تسهر على حراستها وصيانتها لوائح الشرف وقوائم العيب والحرام.
ولعل من أبرز الأسباب التي دفعت المسرح الراقص في البلاد إلى واجهة المشهدين الفني والثقافي، تأسيس قسم الرقص التعبيري في “المعهد العالي للفنون المسرحية” عام 1997؛ المكان الذي أطلق منه الكريوغراف معتز ملاطية لي “مختبر دمشق للرقص المعاصر”، وقدّم في هذا السياق أكثر من عشرين عرضاً لخريجيه وخريجاته، وحققوا من خلاله ريبرتوار متنوّع من الرقص العالمي من كلاسيك ورقصات الصالونات والجاز والهيب هوب والتانغو والفالس والسالسا.
وثقت بالجسد آلام شعب كامل وصوّرت وحشية الجلاد وساديته
“مختبر دمشق” لم يكتفِ بتقديم رقصات الشعوب -على تنوّعها وتفردها الفلكلوري والتراثي- بل دخل بقوة إلى مناخات جريئة فنياً على مستوى التجريب، وقدّم في هذا السياق عروضاً لا تُنسى منذ عام 2001، كان منها: “وهج”، “ليتني حجر”، “عظام ووجوه”، “الاستعراض الأخير”، و”لحظات”.
ويمكن الإطلالة أكثر فأكثر على ريبرتوار المسرح الراقص في البلاد، عبر تجارب لافتة حققها فنانون خاضوا عميقاً في فصاحة الجسد عبر محترفاتهم المستقلة. أبرز تلك التجارب كانت مع فرقة “ليش” للمسرح الحركي، التي أسّستها الفنانة نورا مراد عام 2006 عبر مشروع “هويات”. ودأبت مراد من خلال هذا المشروع على تفعيل اختصاصي لورش قدمت من خلالها أولى أبجدياتها في الطقوس العربية. فإذا جاء عرضها الأول “إذا ماتوا انتبهوا” (2007) بحثاً في طقوسية الموت والدفن والعزاء، فإن عرضها الثاني “ألف مبروك” (2008) تناول الزواج باعتباره طقساً موازياً للموت لجهة خصوصية مراسم الزفاف والعفة في المجتمعات الشرقية، وما يسود هذا الطقس من إخضاع المرأة لأوامر القبيلة والعُرف والتقاليد والفحولة الجنسية.
تجمّع “تنوين” للمسرح الراقص لم يتأخر هو الآخر عن مواكبة هذه الثورة الفنية، فلقد قدّمت الكريوغراف مي سعيفان مؤسِّسة هذا التجمّع ومديرته عرضها الأول في هذا السياق عام 2006، وجاء بعنوان “عواقب”، وكانت نتيجة لتعاون راقصين ألمان وسوريين أطلوا للمرّة الأولى على خشبة “دار الأوبرا السورية”. “عواقب” كان مقدّمة لمساحة أكثر ثراءً مع إطلاق مي سعيفان للدورة الأولى من “مهرجان الرقص المعاصر” في دمشق عام 2009، بمشاركة العديد من الفرق الأوروبية والسورية، كانت أبرزها فرقة الكريوغراف الألمانية، ساشا فالس، وفرقة الراقصة الهولندية جوليا موريدو، وفرقة الفنان الفرنسي جوزيف نادج.
كان إطلاق “مهرجان الرقص المعاصر” في العاصمة السورية حدثاً في غاية الأهمية، وتجلّى في التشبيك والتعاون مع كلٍ من شبكة “مساحات للرقص المعاصر” و”تجمّع مقامات” للكريوغراف اللبناني عمر راجح، إذ أضافت “مساحات” دمشق إلى أنشطتها مع كل من مدن رام الله وبيروت وعمّان، لكن مثل هذه الأنشطة توقّفت مع اندلاع الثورة في البلاد.
هذه الذروة من فاعلية فنّ الرقص أطلقت العنان للعديد من الفرق والتجمّعات الشابة لممارسة أنشطتها، فيما تابعت مؤسسة المهرجان عملها في بيروت وبرلين عبر مشروع جديد أطلقت مي سعيفان عليه “منامات السوريين في المنفى”. عملت سعيفان في منامات العودة على مشاكل النوم والخوف منه، وحل هذه الإشكاليات عبر تقنيات الحلم الواعي والتحكّم بالكابوس والدخول في علاج ذاتي، فأفادت من علم النفس في مشروعها متعدّد الوسائط، ووظفت أمراض النوم في عروضها داخل أوروبا وخارجها.
ويمكن الحديث عن العديد من الفرق والتجمعات التي ساهمت في تكريس المسرح الراقص في الريبرتوار السوري، إلا أنّ فرقة “سمة” لمؤسّسها علاء كريميد كانت في مقدمة تلك التجمعات التي عكست جرأة اجتماعية لافتة في عرضها “سيلوفان” (2011)، وصوّر العرض المظاهرات الأولى ضدّ سلطة النظام البائد، إذ تمكّن مخرج العمل الفنان أسامة حلال من إنتاج تجاور فني بين الحركة والإيماء الراقص، معوّلاً في ذلك على خبرته في التنويع على العناصر المسرحية اللازمة لبناء كتل متشابكة.
لقد استطاع عرض “سيلوفان” النجاح في مغامرته الفنية هذه، مبتعداً عن الكليشيهات المستخدمة عادةً في العروض الراقصة، وناقلاً نبض الشارع السوري الراهن عبر طبيعة علاقاته بالمدينة باعتبارها فضاءً عمومياً حراً يسمح بحوار متمدن بين أبنائه، وبعيداً من إلغاء الآخر وشطبه وتحييده، ليكون المتفرّج هنا أمام إسقاطات تملّصت من الرقيب الرسمي بمهارة، ونقلت المظاهرة من الشارع إلى خشبة “مسرح الحمراء” دون الدخول في المباشرة الفنية.
ويتوضّح من أسماء مصممي الرقص أن حضور النساء في المسرح الراقص كان لافتاً. فبعد النجاح الذي حققته كلٌّ من مي سعيفان ونورا مراد، توالت أسماء العديد من مصممات عروض الرقص في البلاد، وكان من أبرزهن حور ملص، ونغم معلا، ومها الأطرش، ورهف الجابر، وسالي بيتنجاني، إذ حققن العديد من التجارب التي يمكن اعتبارها نسخة عما وصف بـ”ثورة النساء الثانية” في أوروبا عشرينيات القرن الفائت، الذي طورته الراقصة الأميركية إيزادورا دنكان (1877-1927) كأول من اشتغل ضدّ الرقص الكلاسيكي الروسي، فدعت إلى تحرير الجسد من القوالب الجاهزة، ومن القصة البسيطة في الرقص، أو ما يُسمى “الحكاية اللطيفة” على نحو “كسّارة البندق”، و”الجميلة النائمة”، فكان شعار الرقص التعبيري العودة إلى الطبيعة، واستلهام الموضوعات من الميثيولوجيا وفني النحت والتصوير.
واتبعت معظم مصممات المسرح الراقص في سورية في العديد من عروضهن أسلوب الرقص الحديث الذي جاء على يد الراقصة الأميركية مارتا غراهام (1894-1991) بداية القرن العشرين، فأعطى الراقصين السوريين خياراً حركياً منهجياً بديلاً من الإحالات الصارمة في المدرسة الكلاسيكية الروسية، وذلك عبر تقسيم للجُمل الحركية ووصفٍ دقيقٍ لها. حيث إن أهم ما كان يميّز موضوعات الرقص الحديث هو التنوّع الواضح في تناول ثيمات سياسية واجتماعية وخيالية، فكان في كل عرض جديد هناك دراسة لكل حركة، وموضوع الارتجال لم يكن وارداً في هذه الرقصات، لأنّ كل عرض ينتمي إلى مدرسة الرقص الحديث يقترح ما يجب أن يقوم به الراقصون على الخشبة، وهو رقص مدروس ومُنوَّط.
وتباعاً، التحق المسرح الراقص في سورية بصيحات الرقص المعاصر، محطّماً بذلك كل القوالب التي من شأنها تقييد حركة المؤدي أو المؤدية. ويمكن العثور هنا على العديد من العروض (معظمها قُدِّم في مسارح المعهد العالي للفنون المسرحية) التي استلهمت تجارب مدرسة وأسلوب الألمانية بينا باوش (1940-2009)، التي لا تعتبر الحركة وصيفاً للدراما، بل الحركة هي الدراما ذاتها. وهذا ما يمكن ملاحظته عبر عدم تقييد الرقص بالحركة، بل تعداه إلى البحث في جوانيات النفس الإنسانية، والتعبير عن عوالم غير مكتشفة في الجسد العربي.
تحرير الجسد من القوالب الجاهزة والقصة البسيطة في الرقص
مغامرة لم تلبث أن تحوّلت إلى طقس سنوي مع احتفال المسرحيين السوريين بيوم الرقص العالمي وقراءة كلمة هذا اليوم على مسارح البلاد. وكان آخرها عام 2023 حيث تلت الفنانة رنا كرم الكلمة التي كتبتها الكريوغراف الصينية يانغ ليبينغ على مسرح “دار الأوبرا”، وجاء عنوان الرسالة وقتها: “الرقص وسيلة للتواصل مع العالم”.
ومن العروض التي قدمت في هذا السياق كان “تشويهات محتملة” لنغم معلا، و”خدر” لرهف الجابر، و”أوهام”، و”متوالية” لنورس عثمان. وفي جميع هذه العروض يمكن ملاحظة اشتغال كل من معلا والجابر وعثمان على العالم الداخلي للراقص، واستنباط قصة العرض وحركيته من ثراء مونولوغات المؤدين الداخلية. وهذا ما يمكن التقاطه في العرض المشترك الذي حققته الجابر مع الكريوغراف نورس عثمان في عرضيهما “بوح” و”شهقة” اللذين تعرضا فيه لطقوس الفقد والجنازة، وكيف انعكست أحوال المهجرين واللاجئين على المدينة السورية، وما تركته أجهزة السلطة البائدة في كيان الإنسان السوري من خوف وهلع وخشية من المجهول. مرافعة خاضها فن الرقص في عشرات العروض التي وثقت بالجسد لآلام شعب كامل، وصوّرت وحشية الجلاد وقسوته وساديته داخل سجون النظام البائد.
اليوم، ورغم هجرة العديد من مصممي المسرح الجسدي إلى خارج البلاد وغياب الدعم الحكومي اللازم، يتابع طلاب قسم الرقص في “المعهد العالي للفنون المسرحية” الاحتفال بيومهم العالمي الذي يصادف غداً الثلاثاء، وذلك عبر فعاليات مختلفة في أروقة المعهد ومسارحه. يشرف الفنان معتز ملاطية لي، مؤسس قسم الرقص ومديره، على احتفالية هذا العام عبر ورش وعروض راقصة يبتعد فيها عن كليشيهات رقص الصالونات أو الرقص السياحي، مقارباً صيغ العروض المعاصرة، لينتقل الجسد من طهرانيته ومكوثه الطويل تحت قسوة التابوهات المتعلقة بسرانيته وخضوعه، إلى بناء علاقة جديدة مع بنيته الدلالية المحضة.
هي بنية لا تكفّر هذا الجسد أو تلغيه وتحجبه، بل تنحته من جديد كائناً متمرداً على سراديبه الاجتماعية المتعددة بأنواع زجرها لحميميته وأصالة وجوده. فالرقص لا يقدم جسداً متحفياً مقيداً خلف أغلاله البطريركية والقبلية، إنما يأمل في كل إيماءة تصدر عنه أن يتخلّص حتى من أغلاله المتراكمة اجتماعياً ونفسياً، لتنفلت غضاريف هذا الجسد من جلوسه الطويل ورقدته البيولوجية نحو طبائعه الرافضة للتدجين. فالرقص هنا يعلن فصاحة الجسد عبر ترسيخ حركيّته الخلّاقة، وبمسرحه المتحرّر من البورنوغرافيا نحو ما يشبه أيروتيكية شعرية تعتقه نهائياً من رياضاته وعاداته اليومية السخيفة نحو مجازاته ورمزيّته العالية.
* كاتب وصحافي سوري