من الصعب متابعة ما يجري الآن على الساحة العربية من دون أن يخامرك شعور بالخزي. كيف أمكن الإشاحة عن منظر الجثث الملقاة بعادية على قارعة الطريق والبيوت المنهارة على رؤوس أصحابها؟ وهل تكفي المقاطعة لإحداث أي تغيير؟
أما في الساحة الغربية، ففي الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أجبرت الكاتبة الأميركية جازمين هيوز، المحررة في “نيويورك تايمز”، على تقديم استقالتها، فقط لأنها تجرأت قبل أيام على توقيع بيان يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، وينتقد جرائم إسرائيل المسكوت عنها وتداعياتها الكارثية على العالم بأسره. ولكن في ما يبدو هنالك من يشجع الحرب بغض النظر عن عدد الضحايا!
جازمين هيوز في حلقة نقاش خلال العرض الأول لفيلم “Blindspotting” في مهرجان تريبيكا السينمائي في نيويورك (11/ 6/ 2021/Getty)
لم تمض أيام حتى تفاجأت الصحيفة نفسها برسالة حادّة من الشاعرة الأميركية آن بوير، محررة الشعر في المجلة الصادرة عن الصحيفة، تعلن فيها استقالتها على الملأ من وظيفتها من دون أن تفصح عن السبب الحقيقي لتخليها عن منصبها، لكن أمر استنباطه لم يكن في حاجة إلى كثير من الفطنة.
تبدو بوير، عبر كلماتها المنتقاة بعناية، شديدة الاستياء من نبرة الـ”تايمز” في تغطية الحرب على غزة. وما يثير دهشتها حقًا هو مدى عبثية ما يحدث أمام أعيننا التي تعودت صور القتل والتعذيب والتشريد. كتبت بوير تقول “إن الحرب التي تشنها إسرائيل بدعم من أميركا ضد أهالي غزة لا تصب في مصلحة أحد. ولا يمكنها أن تحقق الأمان لأي إنسان كان، لا لإسرائيل، ولا للولايات المتحدة ولا لأوروبا، ولا حتى لليهود الذين يزعمون بهتانًا وزورًا أنهم يقاتلون باسمهم”.
لمن إذًا تقرع الأجراس
في 14 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نشرت الـ “تايمز” مقالًا بعنوان “إسرائيل تستطيع الدفاع عن نفسها والتمسك بقيمها”، وفيه دعت قوات “الدفاع” الإسرائيلية إلى محاولة “التقليل” من الخسائر في صفوف المدنيين قدر الإمكان! كما لم يفتها الإعلان بلهجة باردة عن أن النظام الإسرائيلي يستحق الدعم المطلق من الولايات المتحدة وحلفائها كي “يواصل” حربه ضد شعب غزة. على الجانب الآخر، راحت تهون من شأن الفظائع التي ارتكبت لا في حق الفلسطينيين فحسب، بل في حق الإنسانية كلها.
“كتبت بوير تقول “إن الحرب التي تشنها إسرائيل بدعم من أميركا ضد أهالي غزة لا تصب في مصلحة أحد. ولا يمكنها أن تحقق الأمان لأي إنسان كان، لا لإسرائيل، ولا للولايات المتحدة ولا لأوروبا”
بوير شاعرة وكاتبة أميركية ولدت في كانساس عام 1973، ونشأت في سالينا. صدر لها حتى الآن عشرة كتب، منها “رومانسية العمال السعداء” (2008)، “العقد الأول من القرن الحادي والعشرين” (2009)، “قلبي المشترك” (2011)، و”ملابس ضد المرأة” (2015).
لاقت هذه الأعمال على تنوعها احتفاء القراء والنقاد، وتصدر الديوان الأخير قائمة الأكثر مبيعًا في الشعر على مدار ستة أشهر كاملة. وكما عادتها في تطعيم الكتابة بنصوص وشواهد مختلفة، فإن الكتاب يحوي داخله درزينة من الكتب تشمل جان جاك روسو، وأعمال الخياطة وإنتاج الملابس، ومجلد عن السعادة وجدته في متجر.
ترجمت معظم أعمال بوير إلى عدد من اللغات، بما في ذلك الأيسلندية، والإسبانية، والفارسية، والسويدية، وتوجت بكثير من الجوائز، منها جائزة بوليتزر عن كتابها المثير للبكاء “الذي لا يموت: الألم والضعف والوفيات والطب والفن والوقت والأحلام والبيانات والإرهاق والسرطان والرعاية” لعام 2020. وهو الكتاب الذي يلخص تجربتها مع مرض السرطان، لا على مستوى المشاعر الجوانية فحسب، بل بمنظور الكاتب الذي يدرج تجربته في الإطار العام، بدءًا من طرق العلاج، ولا آدميتها، ومنطق التجريب وخطورته، والروتين المقبض في دور الشفاء. وفي إطار أكثر حميمية، تضمن الكتاب جوقة من الأصوات المستغيثة لشاعرات قدر لهن أن يخضن التجربة نفسها، من بينهن أودري لورد، وسوزان سونتاغ، وكاثي أكر.
تعيش بوير في ولاية ميسوري، حيث تعمل منذ عام 2011 أستاذة في معهد كانساس للفنون، وفي الوقت نفسه، تجابه السرطان الذي يستفحل في جسدها كما الكيان التوسعي على أرض فلسطين. لكن الخطر الذي نظن أننا في منأى عنه، بات قريبًا جدًا من الجميع. ولعل الرواية الفائزة بالبوكر هذا العام “أغنية النبي” تحمل هذا التحذير من الاعتياد على مناظر القتل والتشريد في مختلف بقاع العالم، وكيف يمكن للخطر أن يتوسع تدريجيًا قبل أن يطرق باب منزلك شخصيًا!
في مقال بعنوان “همسات في الظلام”، نشرته التايمز الأميركية، يستشهد مايكل هيوز بهذه الحقيقة العلمية، ليصف فداحة التكيف البشري مع اللامعقول: “أسقط ضفدعًا في ماء ساخن لترى كيف يقفز مباشرة، البرمائيات حساسة للغاية لتغير درجة الحرارة، ومع ارتفاع حرارة الماء، ستفعل ضحيتنا كل ما في وسعها للهروب. أما لو أسقطته في ماء فاتر ورحت تسخنه تدريجيًا، لسوف يهلك المخلوق المسكين قبل أن يلاحظ أي شيء خاطئ”.
شكل العالم في غياب الشعراء
كان آخر عمل لبوير كمحررة هو قصيدة في عدد 5 نوفمبر/ تشرين الثاني للشاعر الفلسطيني الأميركي فادي جودة، علقت عليها: “إن ثقل ما لم يقله، وما لم يوصف، ذلك المسكوت عنه والمهمل، يتأرجح على رأس القصيدة. قد تكون فلسطين. لكن ما هو مفقود يتحدى القياس، إذ قد يكون ضخمًا بحجم التاريخ، أو ضئيلًا كما أنفاس طفل”.
ربما أحست بوير، وهي تعلق بتلك الكلمات، أنها أصبحت ضمن المتواطئين مع ادعاءات الـ”تايمز” بتوخيها الموضوعية والدقة في تغطية الحرب الدائرة على أشدها في غزة، وربما تذكرت استقالة هيوز التي مرت من دون إثارة كثير من الجدل، أيًا ما يكن الأمر، فقد جاء خطاب الاستقالة كصفعة قوية لكل مزاعم الصحيفة الليبرالية ودورها في مضاعفة الظلم على شعب يبدو يتيمًا في معاناته. كتبت بوير تقول: العالم، والمستقبل، وقلوبنا، كل شيء يصغر ويتعقد جراء هذه الحرب. إنها ليست مجرد حرب صواريخ وهجمات برية. إنها حرب مستمرة ضد شعب فلسطين، الشعب الذي قاوم طوال عقود من الاحتلال والتهجير القسري والحرمان والمراقبة والحصار والسجن والتعذيب.
رغم ذلك، فهي لا تطالبنا كي نسترد إنسانيتنا، التي أصبحت على المحك، بحمل الأسلحة وتكديس العتاد، بل تعتقد أن أكثر أساليب الاحتجاج فعالية بالنسبة للفنانين هي الرفض: “لا أستطيع أن أكتب عن الشعر بتناغمه “المعقول” لأولئك الذين يستهدفون تأقلمنا مع هذه المعاناة غير المعقولة. لا مزيد من العبارات الملطفة للتوحش. لا مزيد من الألفاظ المعقمة لوصف مناظر الجحيم. لا مزيد من الأكاذيب المحرضة على الحرب. وإذا كانت هذه الاستقالة تترك فجوة في صفحة الأخبار بحجم قصيدة شعر، فهذا بالفعل هو شكل حاضرنا الحقيقي”.
ليكن صوت العالم أعلى
أعرب كثيرون عن تقديرهم لرسالة بوير، لكن بيل كريستول، كبير موظفي نائب الرئيس الجمهوري السابق دان كويل، وصفها بأنها في الواقع “بيان مؤيد لحماس”. شيء كهذا لم يحل دون اندلاع الغضب في مناطق متفرقة من العالم. في الهند، مثلًا، تقدم المؤلف والقيّم الفني رانجيت هوسكوت المقيم في مومباي باستقالته من لجنة الاختيار للطبعة السادسة عشرة المقبلة من دوكومنتا ـ المعرض الفني الأكثر شهرة في العالم في كاسل بألمانيا ـ بعد أن وجه إليه اتهام من صحيفة ألمانية بـ”معاداة السامية”. كتب هوسكوت في خطاب استقالته: “إن معارضة الصهيونية، أيديولوجية الدولة الإسرائيلية، لا ترقى إلى مستوى معاداة السامية”، وهو الرد نفسه الذي جاء في بيان مجموعة من الكتاب والفنانين والناشطين اليهود يتنصلون فيه من فكرة أن “أي انتقاد لإسرائيل هو معاداة للسامية”.
“رفضت الشاعرة الكندية روبي كور دعوة من إدارة بايدن لحضور حفل ديوالي في البيت الأبيض. وكتبت في بيان لها “أنا مندهشة من أن هذه الإدارة تجد أنه من اللائق الاحتفال بعيد ديوالي، في حين أن دعمها للفظائع الحالية ضد الفلسطينيين يمثل عكس ما يعنيه هذا العيد لكثيرين منا””
أيضًا، في رسالة مفتوحة إلى مجلة الشعر، احتج أكثر من 2000 كاتب، على تأجيل مراجعة كتاب المجموعة الشعرية PIG لسام ساكس إلى أجل غير مسمى. وهو كذلك من اليهود الرافضين لسياسة إسرائيل، وكذلك مراجعة كتابه جوشوا جوترمان ترانين، لكن المجلة الرائدة في الولايات المتحدة، اعتذرت عن النشر معللة موقفها بأنها “لا تريد أن يُنظر إليها على أنها تنحاز إلى جانب ما في الأحداث السياسية”. وهو ما دفع ترانين للرد بهذه الكلمات على محرري المجلة: “باعتباري يهوديًا صهيونيًا سابقًا عاش في المستوطنات، فأنا من يقاتل أصدقاؤه القدامى ويقتلون في غزة بينما نتحدث الآن. لقد سئمت من أن يقال لي كيف أشعر، وما المسموح بقوله عن إسرائيل/ فلسطين”.
على جانب آخر، رفضت الشاعرة الكندية روبي كور دعوة من إدارة جو بايدن لحضور حفل ديوالي في البيت الأبيض. وكتبت في بيان لها: “أنا مندهشة من أن هذه الإدارة تجد أنه من اللائق الاحتفال بعيد ديوالي، في حين أن دعمها للفظائع الحالية ضد الفلسطينيين يمثل عكس ما يعنيه هذا العيد لكثيرين منا”. كما اشتعلت المنصة، في الحفل الذي أقيم لتوزيع جائزة الكتاب الوطني لعام 2023 منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني، بكلمات الرفض من المرشحين لهذه الجائزة الأميركية المرموقة: “نيابة عن المتأهلين للتصفيات النهائية، فإننا نعارض القصف المستمر لغزة، وندعو إلى وقف إطلاق النار تلبية للاحتياجات الإنسانية الملحة للمدنيين الفلسطينيين، وخاصة الأطفال. إننا ضد معاداة السامية والمشاعر المعادية للفلسطينيين وكراهية الإسلام على حد سواء، وندعو إلى ضرورة الكرامة الإنسانية لجميع الأطراف، ونحن على يقين من أن مزيدًا من إراقة الدماء لن يفعل شيئًا لتحقيق السلام الدائم في المنطقة”.