ذكرى وفاة تشايكوفسكي: فنان منفتح على العالم

بورتريه لبيتر إليتش تشايكوفسكي (Getty)

في الثامن من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1893، لفظ بيتر إليتش تشايكوفسكي أنفاسه الأخيرة في منزل شقيقه مودست في مدينة سان بطرسبورغ. ووفقًا للتقرير الرسمي، جاءت الوفاة بسبب وباء الكوليرا. غير أنّ الرواية ذات الطابعٍ الرسمي لم تقنع الباحثين والمختصين، الذين راحوا يتفحصون بإمعان مؤلفاته، ويتعمقون في تحليل مضامينها، ليتوصلوا إلى أن مؤلف “بحيرة البجع”، و”الكونشرتو الأول للبيانو والأوركسترا”، قد مات منتحرًا.
عزّز الشكوك أنّ الموسيقار الذي ألف “السيمفونية السادسة” شخصٌ مبدعٌ كان يعرف تمامًا أنّه يكتب عمله الأخير، ويدرك أنّه سيرحل بعده عن هذا العالم. وبالفعل، من يستمع إلى هذه السيمفونية يدرك أنّ حركتها الموسيقية الأخيرة، بكلّ غرابتها، أشبه ما تكون بوصية فنية كتبها مبدعٌ وضع فيها كلّ روحه. إنّها حركة موسيقية تحمل قدرًا كبيرًا من الكآبة والشجن، يتناقض كليًا مع ما جاء في الحركتين الأوليين من السيمفونية نفسها، وإن كانت الحركة الثانية، وهي الأضعف، تحمل ما يشبه الغناء الكورالي الأرثوذكسي، حيث يردد الكورس فيها: “ألا فليرقد بجانب القديسين!”.
رحل تشايكوفسكي في ذروة تفتّح عبقريته الفريدة، ولم يتجاوز 53 عامًا من عمره، تاركًا للعالم إرثًا هائلًا من المؤلفات: 440 مؤلفًا موسيقيًا، وأكثر من 160 مؤلفًا أدبيًا، وأكثر من 5 آلاف رسالة.
من أهمّ وأشهر مؤلفات تشايكوفسكي: أوبرا “يفغيني أونيغين”؛ “بنت البستوني”؛ باليه “بحيرة البجع”، و”الحسناء النائمة”، والسيمفونيات الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة، بالإضافة إلى “سيمفونية الحياة”.
في سنّ 23 عامًا، تخلّى تشايكوفسكي عن وظيفته الحكومية التي كانت تدرّ عليه دخلًا سنويًا ثابتًا محترمًا، وقرّر أن يتفرّغ للعمل الموسيقي. كان كلّ من حوله يشعر بالقلق بشأن مستقبل الشابّ، ولأنّ أحدًا لم يكن يعرف حينها أنّ تشايكوفسكي سيصبح موسيقيًا عالميًا مشهورًا، فقد رأى الجميع الخطوة التي أقدم عليها الفتى خطوة في المجهول. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، أظهر الجميع احترامًا لقرار تشايكوفسكي، ولم يعارضه أحد من أفراد أسرته التي كانت تمرّ بظروفٍ مالية صعبة.
كانت حياة بيتر تشايكوفسكي حياة مكافحٍ عنيد، مليئةً بالنضال والتحدي في مواجهة القدر والظروف. من هذا المنظور، يمكن القول إنّ حياته كانت بشكلٍ ما تشبه حياة العبقري الألماني بيتهوفن، التي عرفت كلّ أنواع المآسي، بما في ذلك فقدان حاسّة السمع مبكرًا. إننا أمام ظاهرة مدهشة، فعلى الرغم من الظروف الصعبة والمعقدة التي مرّ بها العبقريان، لا يجد المرء انعكاسًا لها في إبداعهما، هما اللذان ألّفا تلك الروائع التي تزرع الأمل وتنشر التفاؤل في نفوس الآخرين… فرغم كلّ شيءٍ، ترك كلّ منهما مؤلفاتٍ تضج بالرقة والشاعرية، تصدر إشعاعاتٍ سماويةً تبثّ طاقةً إيجابية فائضة تحلّق عاليًا بكلّ من يعزف موسيقاهما، أو يقود فرقةً تؤديها.
كان ما يسمّى بالقدر يلاحق تشايكوفسكي في كلّ خطوة من حياته، ويتجلّى بأشكالٍ مختلفة في مؤلفاته كافة. ولكن يجب أن لا نظنّ أنّ القدر كان في حياة تشايكوفسكي خطرًا دائمًا مسلطًا على رأسه، مثل سيف ديموقليس(*)، فقد كان الموسيقار محظوظًا بوجود أصدقاء حقيقيين في حياته، مثل ييتر يورغينسون، ناديجدا فون ميكّ، نيقولاي روبنشتاين، وآخرين. بالإضافة إلى ذلك، لم يعرف تشايكوفسكي خيانة الأهل والمقربين. لقد أدرك موهبته مبكرًا، وكان يشعر في الوقت نفسه أنّ هذه الموهبة ستكون بمثابة صليب عذابات سيحمله على كتفيه طيلة حياته، الأمر الذي انعكس بالطبع في مؤلفاته، كما في أوبرا “فتاة من أورليان”، عن مسرحية الألماني فريدريك شيللّر، حيث البطلة يوانا (جان دارك) فتاةٌ ريفية بسيطة ترعى الأغنام، فتاة أميّة لا تعرف القراءة ولا الكتابة، ولكنّها شعرت ذات يومٍ أنّ القدر يدعوها، فلبت النداء من دون تردّد، لأنّها لم تستطع تجاهله. ولكنّ الطريق الذي اختارته وسارت عليه ساقها في نهاية المطاف إلى المحرقة!

من المعروف أنّ تشايكوفسكي كان يعاني بعمقٍ، ويشعر بالحزن والأسى، عندما تفشل مسرحية من مسرحياته في تحقيق النجاح. ووصل به الأمر بعد أن سمع موسيقى المؤلف الفرنسي، ليو ديليبس “سيلفينا”، أن اعتبر مؤلفه، باليه “بحيرة البجع” مقرفةً، (على الرغم من أنها ما زالت تزيّن أشهر مسارح العالم حتى اليوم). وأكثر ما كان يزعجه أن لا يفهمه أحد أصدقائه، كما حدث مع صديقه الموسيقار الروسي ريمسكي كورساكوف، الذي لم يفهم تحفة تشايكوفسكي ـ السيمفونية السادسة الخالدة. لم يكن كورساكوف وحده من لم يفهم السيمفونية، التي جاءت خارج إطار تصورات معاصري تشايكوفسكي. لقد كان الأمر مؤلمًا بالنسبة لتشايكوفسكي، خاصّة أن عدم فهم صديقه للسيمفونية السادسة جاء على خلفية حبّ وعشق الجمهور الذي رأى أنها “اعتراف موسيقي” أكثر منها مؤلف نابع من أعماق روح الموسيقار.
كان بيتر تشايكوفسكي إنسانًا لامعًا، معقدًا، عاطفيًا للغاية، وفي الوقت نفسه شديد الذكاء. بالإضافة إلى ذلك، كان فنانًا منفتحًا بشكلٍ مطلق على العالم من حوله، فلم يكن يهتم بإبداعه الموسيقي، وبالموسيقى على اختلاف أنواعها فقط، بل كان يبدي اهتمامًا شديدًا بالأدب والتاريخ، وحتى بعلم الحيوان، وبعلم الفلك، ويتابع بشغفٍ التطور العلمي بشكلٍ عام.
في آخر سنتين من عمره، انتقل إلى قرية كلين في ضواحي موسكو، وتعرف فيها على حياة الفلاحين ومشاكلهم. هناك، في تلك المنطقة الهادئة، كتب الموسيقار السيمفونية السادسة، التي قال عنها: “من دون مبالغة، لقد وضعت في هذه السيمفونية كلّ روحي”، وهناك جاءت شهرته العالمية واعتراف العالم به، فانتخب عضوًا في أكاديمية باريس للفنون، ومنحته جامعة كمبريدج شهادة دكتوراة الشرف. وفي عام 1897، أنشئ متحف تشايكوفسكي للموسيقى. واليوم، أصبحت بلدة كلين محجًا يرتحل إليه خيرة الموسيقيين من شتى أصقاع الأرض. وعلى الرغم من أنّه لم يتواجد في هذه البلدة إلا لفتراتٍ قصيرة، فقد كان ذلك كافيًا ليترك بصمة واضحة على البلدة وسكانها، الذين اعتادت أجيالها حضور الحفلات الموسيقية التي تقام تخليدًا لإبداعه، والتي كان يقودها مشاهير الموسيقيين في العالم.

هامش:
(*) سيف ديموقليس: تقول الأسطورة إنّ ديموقليس كان خطيبًا مفوهًا وعضوًا في بلاط حاكم صقلية ديونيسيوس (القرن الرابع قبل الميلاد)، وإنّه كان حسودًا متملقًا، غالى في الحديث عن حظ ديونيسيوس والسعادة التي يرفل في أثوابها. لتلقين ديموقليس درسًا، دعاه ديونيسيوس إلى حفل كبير، وبعدما أخذ ديموقليس مقعده، وجد أنّ سيفًا كان معلقًا بشعرة واحدة يتدلّى فوق رأسه. ذهبت الأسطورة مثلًا إلى التهديد بالخطر، ويعبر عن الخطر المستمر الذي يواكب المهتمين بالسلطة والثروة والسعادة المادية.