ربما سيستغرب كثيرون لو قلتُ إني أشفق وأتعاطف مع شاب صغير، لديه لحية، ويحمل سلاحاً، ويتحدثُ بلغة طائفية مقيتة، لغة عنيفة تكفّر السوري الآخر وتشيطنه، وترى فيه خصماً وعدوّاً. نعم، لا أحمل كثيراً من الضغينة إزاء هؤلاء، لأني أعرف ماذا تفعل الثورات والحروب في المجتمعات، وأعرف أن تلك الثورات والحروب ستترك آثاراً طويلة وعميقة في الذات الفردية والجمعية لكل السوريين، وستفرض نفسها بقوة حين رسم مستقبل بلادنا، ونحن نرى ذلك كل يوم.
أتعاطف مع هذا الشاب “الطائفي” وأُشفق عليه أيضاً لأنه بصراحة لم يعش طفولة طبيعية وسويّة، ولم يترعرع في بلد طبيعي، إنه مريض تماماً، ونما وكبر في وقت كانت فيه سورية كلها مريضة.
هو وُلد وترعرع في قلب الحرب، وفي وقت انقسمت سورية فيه إلى ثورة ونظام قمعي، إلى معارضة وموالاة، إلى قتلة وضحايا، وفي وقت وُلدت فيه الفصائل المسلحة، والحواجز على الطرقات، والتنظيمات الإرهابية والأفكار المتشددة، وفي وقت كانت تُقصف فيه بالطيران مناطق ومدن وقرى فيما أخرى لا يطاولها القصف والموت. هناك جيل جديد وُلد وترعرع في قلب كل ذلك. وعليه، لنتخيل طفلاً عمره كان خمسة أو عشرة أعوام عند بداية الثورة والحرب، لنتخيل كيف وفي أي بيئة عاش وترعرع وصار رجلاً، وكسب لاحقاً ثقافته ومعرفته عن الآخر؟
لا يعرف هذا الشاب عن السوري الآخر سوى أنه عدو وخصم، هو لم يره أو يسمعه، هو لم يتعرّف إليه في المدرسة أو الجامعة ليكتشف أنه يشبهه كثيراً، هو تعرّف إليه بعد أن قُصف منزل عائلته وبعد أن قُتل بعض من أهله، وبعد أن اضطُر بعضٌ من أحبته للهروب عبر البحار. وفي قلب ذلك كله، لم يكن فوق رأسه سقف مدرسة أو جامعة، ولم يسمع بنيلسون مانديلا، بل كان هناك رجل دين وقائد تنظيم فوق رأسه. هذا الجيل يختلف تماما عن جيلنا نحن، لم يعش طفولة تشبه طفولتنا، لم يكتشف ولا يعرف الآخر كما اكتشفناه وعرفناه نحن.
نحن، أو جيلنا، عاش في ظروف طبيعية إلى حد ما، صحيح أننا جميعاً نشأنا في مناخ وتحت ظل نظام استبدادي، لكن رغم ذلك كانت هناك بيئة من الاستقرار، بيئة سمحت لنا أن نذهب إلى المدارس والجامعات حيث تعرفنا إلى السوري الآخر.
أنا على سبيل المثال، وهناك مئات الآلاف مثلي، وحين غادرت قريتي “بنّش” في محافظة ادلب متوجها إلى دمشق لأدرس الصحافة في جامعتها، اكتشفت وقتها أن سورية أكبر بكثير من قريتي تلك، والكلية حيث درست وفي المدينة الجامعية حيث سكنت ونمت مع طلبة جامعيين آخرين في غرفة واحدة، اكتشفت أن هناك سوريا كرديا وسوريا مسيحيا وسوريا علويا وسوريا درزيا، كان وقتها اكتشافاً رائعاً. ولاحقا، ومع الوقت، اكتشفت اكتشافاً آخر، أن هؤلاء المختلفين عني وعن أهل قريتي الذين يدرسون معي على مقاعد الدراسة وينامون معي في الغرفة بالمدينة الجامعية يشبهوني كثيراً، رغم أنهم يختلفون باللهجات وطريقة الكلام، فنحن جميعاً كنّا نعاني وقتها من ضائقة مالية، وكنا جميعا نعتمد على “مكدوس” وأجبان وزيتون وبرغل أمهاتنا كمؤنة تساعدنا على الاستمرار في تلك المدينة الكبيرة، وعلى بعض من قروش آبائنا، كنّا نتبادل أحياناً السترات والسراويل والأحذية، لم يكن لدينا إمكانية الشراء وترف التسوق. لكن لم يكن هناك قصف وموت وحرب، كان كل شيء طبيعياً.
لاحقاً تفرّقنا، نحن الطلبة المتشابهون والمختلفون، وبعد سنين طويلة، وكما يعلم الجميع أتت الثورة ثم الحرب، ومع الحرب اكتسبت كلمات مثل سنّي وعلوي وكردي ودرزي معاني جديدة، صارت هويات، صارت أقاليم، صارت قتلة وضحايا، تفرّقنا من جديد أيضا بسبب الحرب، لكن قلة منّا تشبثت بتلك الغرفة الصغيرة في المدينة الجامعية.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News