نظرات صادمة على الاستلاب والحراك الاجتماعي ودور المثقفين من خلال “الإنسان ذو البعد الواحد”
ملخص
لا يمكن فهم تصورات ماركوز من دون استحضار بيئتها التاريخية. فماركوز هو في الحقيقة، ابن أزمنة الثورة الطلابية واليسار الجديد في الغرب، إذ كان الفعل الثقافي يملك هامشاً أوسع من الحرية.
قد لا يكون كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” أقوى ما أصدره المفكر الألماني الأميركي هربرت ماركوز (1989 – 1979)، ففي نهاية الأمر حتى وإن قلنا إن ثمة نصف دزينة في الأقل من كتب ماركوز الأساسية تبدو تجديدية وعميقة بل حتى متساوية في قيمتها الفكرية، فثمة كتابان من بينها يتصدران اهتمامات المثقفين والمتابعين بشكل عام وأحدهما استبق انتفاضات الشبيبة طوال عام 1968 والثاني أتى تالياً لها. الأول هو “الجنس والحضارة” الذي صدر عام 1955 وكان من خلال ترجمة الدكتور فؤاد زكريا إلى العربية واحدة من أولى إطلالات ماركوز، بل حتى إطلالات مرجعيته الفكرية، مدرسة فرانكفورت، على القارئ العربي، والثاني هو بالطبع “نحو التحرر” الذي كان نوعاً من التجاوب مع “الإخفاق” الذي استشعره ماركوز نفسه إزاء انتفاضات عام 1968 المذكور. غير أن “الإنسان ذو البعد الواحد” يبقى كتابه الأشهر في أصله الأميركي كما في ترجماته إلى عديد من اللغات ومن بينها العربية، باكراً منذ نهايات ستينيات القرن الـ20. وذلك لسبب مهم يربط هذا الكتاب بشكل أو بآخر بالفكر الذي هيمن على الفئات الأكثر وعياً وذكاء من منتفضي عام الشبيبة الأوروبية والعالمية الكبرى ذاك. وبهذا يكاد ماركوز يكون المفكر الكبير الوحيد من خارج فرنسا الذي ضم اسمه وفكره إلى مرجعيات شبيبة “مايو (أيار) 1968” إلى جانب الرباعي “البنيوي” الفرنسي المؤلف من رولان بارت، وجاك لاكان، وميشال فوكو، وكلود ليفي ستروس بوصفهم أصحاب الفكر الذي واكب تلك الأحداث كفكر مرجعي لها (ونعرف على أية حال كم أن هذا الاعتبار قد كان ظالماً لجان بول سارتر كما للوي ألثوسير اللذين كانا في صلب الانتفاضة لكنهما لم يعتبرا، لوجودية الأول و”ستالينية” الثاني، من مرجعياتها، لكن هذه قضية أخرى ليست موضوعنا هنا بالطبع).
الكتاب الأشهر ولكن…
المهم، وبالنظر إلى أن موضوعنا هنا هو بالتحديد كتاب ماركوز “الأشهر”، “الإنسان ذو البعد الواحد” سنعود إليه مباشرة. ونقول إنه الأشهر على أية حال انطلاقاً من السمعة والانتشار اللذين كانا له مقارنة طبعاً بمجموع الكتب الستة بل حتى السبعة التي كانت طوال الربع الثالث من القرن الـ20 أي خلال تلك المرحلة الذهبية من مراحل التضافر بين الفكر والنضال السياسي الذي لم يسؤوه أن يرث الماركسية الستالينية التي لم تتمكن من الصمود طويلاً في وجه الحداثة الفكرية، لا سيما في التصدي من ناحية لمجتمع الاستهلاك، ولسياسات الحروب وصراعات الأجيال، من ناحية ثانية. وذلك في رفض مطلق لطرفي الحرب الباردة التي كانت تهدد العالم بكوارث على رأسها الكارثة النووية. ففي النهاية يأتي “الإنسان ذو البعد الواحد” في مركز وسطي تاريخياً بين كتب ماركوز الأكثر أهمية وشهرة. فمن قبله هناك ومنذ عام 1941، “العقل والثورة”، ثم “الجنس والحضارة” ومن بعده “الماركسية السوفياتية” في عامي 1955 و1958 على التوالي. ومن بعد الكتاب الذي نحن في صدده هنا يأتي “الثقافة والمجتمع” (1965) ثم طبعاً “نحو التحرر” قبل أن يصدر المؤلف كتاباً بدا فيه أنه من ناحية يرد على زميله في مدرسة فرانكفورت تيودور آدورنو، ويستكمله من ناحية ثانية. وانطلاقاً من مركزيته الوسطية في كتابات ماركوز يبدو من الواضح أن “الإنسان ذو البعد الواحد” إنما يعبر عن مشروع فكري يمر عبر ما يسميه ماركوز نفسه “ظاهرية الوجود المستلب” بوصف المشروع انتقاديا للمجتمعات الرأسمالية المعاصرة وثقافتها التي هي بالتحديد ما يتسم بكونه أحادي البعد. ففي هذه المجتمعات يفاقم من مبدأ الواقع، مفهوم المردود كمفهوم “يسير على هديه مجتمع موجه في كليته إلى حيزي الربح والتنافس في سيرورة توسع متواصل”. وفي هذا السياق يتحدث ماركوز بصورة خاصة، عن كيف أن القمع الاستلابي يتحول هنا، وربما على شاكلة العبودية الطوعية العزيزة على فكر الفرنسي لايويسي، إلى قمع متفاقم يوجه حتى ساعات فراغ الناس لمجرد أن يراكم في دواخلهم حتى الفردية، ذلك التسلط الذي يمارس عليهم، التسلط الذي من دونه لا يعود في مقدور القمع العادي القائم انطلاقاً من مبدأ اللذة محمولاً” وبذلك تتمكن الرأسمالية نفسها وعبر قمع وإكراه تزداد عقلنتهما أكثر فأكثر بأن تفرض على مجتمع “الأفراد” هذا، ثقافة أحادية البعد داخل مجتمع مغلق يدمج في داخليته مختلف أبعاد الوجود عاملة في طريقها على تأمين هيمنة التبذير والهدر بوصفهما عنصرين أساسيين في تعميم القمع المطلق والهمجية الاستعبادية. ففي النهاية يقوم ذلك كله على خلق تلك الحاجات المزيفة والأحلام الواهنة التي تقوم بتسيير الحيلة نفسها.
ماركوزه كشف مبكرا عن مأزق الإنسان المعاصر “ذو البعد الواحد”؟
تراث هربرت ماركوزه الفلسفي بحاجة لقراءات نقدية متباينة
“نحو التحرر” لهربرت ماركوزه: الحصن الأخير
أدوار يلعبها المثقف
في حياته ارتبط اسم هربرت ماركوز، الذي عرف عنه منذ ذلك الحين أنه أحد أبرز أعلام مدرسة فرانكفورت، بمشروع نقدي واسع هدف إلى تحليل المجتمع الصناعي المتقدم وكشف آليات السيطرة الجديدة التي لا تقوم فقط على القمع العنيف، بل على الإقناع الناعم وتكريس الاستلاب عبر الثقافة الاستهلاكية. ومن هنا يحلل ماركوز في كتابه المرجعي “الإنسان ذو البعد الواحد” كيف أن المجتمعات الغربية رغم وفرتها الاقتصادية والتقدم التكنولوجي، بل بفضلهما بالذات قد أنتجت نمطاً جديداً من السيطرة يجعل الأفراد يقبلون أوضاعهم من دون مقاومة. وفي هذا السياق، يرى ماركوز أن المثقف الحقيقي هو ذاك الذي يعي هذه الأشكال الخفية من السيطرة، ويعمل عبر الفكر والثقافة على زعزعة الوعي الزائف السائد. فالمثقف النقدي، بحسب ماركوز، لا يكتفي بوصف الواقع بل يسعى إلى تغييره عبر بناء وعي معارض قادر على تفكيك الأيديولوجيات السائدة.
ليس المثقف عند ماركوز متمركزاً داخل مؤسسات الدولة أو وسائل الإعلام الكبرى، بل هو مشروع مقاومة تكمن أهميتها الأساسية في كونها مقاومة دائمة، حتى وإن بدا هذا المثقف معزولاً، لأن فعله الكامن في الفكر النقدي والإبداع الرمزي يشكل قوة تتصدى بوعي للاستلاب الاجتماعي. وهكذا، يتأسس المثقف الماركوزي على مبدأ مزدوج. من ناحية على التشكيك الدائم في الخطاب الرسمي، ومن ناحية أخرى على الإيمان العميق بأن الثقافة يمكن أن تكون أرضية للرفض والتحرر. وذلك فيما ينتقد مجتمعاً غربياً صناعياً متطوراً تغلب عليه ثقافة الاستهلاك والتطبيع الناعم فيما هو يستخدم أدوات الفلسفة النقدية المستندة إلى الماركسية والفرويدية، مائلاً إلى التجريد النظري العميق. غير أنه يبدو وكأنه يطرح أفقاً شبه يوتوبي لدور المثقف، معتمداً على احتمالات الرفض الجذري الشامل.
Marcuse.jpg
هربرت ماركوز (1898 – 1979) (غيتي)
قوة مقاومة
بالنسبة إلى هربرت ماركوز ليس المثقف مجرد ناقل للأفكار السائدة، بل هو قوة مقاومة ضد أنظمة الاستلاب والقمع، سواء كانت سلطة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية. ويحلل ماركوز كيف يحول المجتمع الصناعي الإنسان إلى مستهلك مستلب فاقد للوعي النقدي في مقاومة السيطرة: ماركوز يعول على الفن الطليعي والوعي الجمالي وهو لئن كان قد عول على ذلك باكراً منذ بعض أقوى و”أغرب” صفحات “الإنسان ذو البعد الواحد” ونقول هنا إنها أغرب الصفحات لأن موضوع المثقف والاستلاب الذي تناولته تلك الصفحات منذ عام 1964 لم يكن مطروحاً بعد. وعلى أية حال فإن ماركوز سيعود إليه كموضوع أساس لكتابه اللاحق، وربما الأخير، ككتاب متكامل، في مساره الفكري، “نحو التحرر” الذي أصدره بعد شعوره بخيبة كبيرة إثر ما بدا له هزيمة كبيرة أحاقت بحراك الشبيبة والطلاب خلال انتفاضات 1968 في أوروبا بل حتى الولايات المتحدة مكان منفاه وتدريسه الجامعي. والحال في نهاية الأمر، أنه لا يمكن فهم تصورات ماركوز من دون استحضار بيئتها التاريخية. فماركوز هو في الحقيقة، ابن أزمنة الثورة الطلابية واليسار الجديد في الغرب، حيث كان الفعل الثقافي يملك هامشاً أوسع من الحرية. من هنا، تظل الرؤية النقدية لديه مشروطة بشروط الوعي والسياق معاً. فإذا كان ماركوز يحث المثقف على التنبه لكون مشروعه الأساس إنما هو مشروع معركة تقوم على تفجير البنى الاجتماعية من الداخل عبر وعي بديل، فما ذلك إلا لأنه وعي لا يمكن لغير المثقف أن يمتلكه ثم ينقله كعدوى للآخرين.