كان أغلب قادة العمل الفلسطيني المسلح من اللاجئين الذين اقتلعوا مع عائلاتهم من أرضهم وبيتهم، مثل خليل الوزير(أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وجورج حبش ووديع حداد، أو ولدوا في مخيمات اللجوء التي لجأ لها أهاليهم، مثل قادة (كتائب القسّام) صلاح شحادة ومحمد الضيف ومروان عيسى ويحيى سنوار.

بعد ما يقارب ربع قرن يروي الدكتور جورج حبش (مقابلة مع مجلة “لايف”الأميركية، عدد 12حزيران/يونيو 1970) كيف اقتلع مع أبناء مدينة اللّد من الديار وساروا في مسيرة بشهر تموز 1948ماتت بها أخته مع خمسمئة شخص سميت “مسيرة موت اللد” بدون طعام لعشرات الكيلومترات ولمدة ثلاثة أيام: “لقد شعرت بالإهانة في أحداث 1948. فقد أتى الإسرائيليون إلى اللد وأجبرونا على الفرار. إنها صورة لاتغيب عن ذهني ولايمكن أن أنساها. ثلاثون ألف شخص يسيرون..يبكون.. يصرخون من الرعب..نساء يحملن الرضع على أذرعهن، والأطفال يمسكون بأذيالهن.. والجنود الاسرائيليون يشهرون السلاح في ظهورهن.. بعض الناس سقط على قارعة الطريق، وبعضهم لم ينهض ثانية.. لقد كان أمراً فظيعاً ما إن ترى ذلك حتى يتغير عقلك وقلبك.. فما الفائدة من معالجة الجسم المريض عندما تحدث مثل هذه الأمور؟ يجب على الإنسان أن يغيّر العالم، أن يعمل شيئاً ما ، يجب أن يقتل إذا قضى الأمر، ولو أدى ذلك إلى أن نصبح بدورنا غير إنسانيين”.

بالتأكيد كان الدكتور حبش، وهو يعارض إتفاقية أوسلو عام 1993، قد تذكر بأن قائد القوة الاسرائيلية التي اقتلعته من أرضه كان إسحاق رابين، وبالتأكيد قد سخر في قلبه من عبارة ياسر عرفات الذي قال عن رابين “شريكي في السلام”، وهي نفس العبارة التي قالها الرئيس المصري أنور السادات بعد (اتفاقيات كامب دافيد)عام1978عن مناحيم بيغن الذي كان زعيم منظمة (الإرغون) التي نفذت في نيسان/إبريل 1948 مجزرة قرية دير ياسين التي راح ضحيتها مئة وسبعة من الرجال والنساء والأطفال. ويمكن لهذا التذكر أو الحنين النوستالجي للأرض أن يكون قد دفع مروان عيسى ويحيى السنوار للذهاب من بيتهما في خان يونس بالجنوب إلى أقصى شمال قطاع غزة عند بيت لاهيا للتفرج ورؤية  موطن عائلتيهما في عسقلان  أثناء سماء صافية، أو لرؤية أضوائها في الليل وهي التي لا تبعد سوى أربعة عشر كيلومتراً، وربما قد قسيا على قلبيهما، وهما من مواليد الستينيات، وذهبا لهناك وتجوّلا في شوارع عسقلان، وربما أيضاً كان صلاح شحادة (مواليد1952) قد زار يافا وقام محمد الضيف (مواليد1965) بزيارة قرية عائلته، قبيبة من قضاء مدينة الرملة، وذلك بفترة السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات عندما اتبع الإسرائيليون سياسة الأبواب المفتوحة مع الضفة والقطاع.

يمكن للمقطع الذي يتحدث به الدكتور حبش أن يكون مثل الجسر الذي بدايته كلمة (الإهانة) ونهايته (يجب أن يقتل إذا قضى الأمر، ولو أدى ذلك إلى أن نصبح بدورنا غير إنسانيين)، وفي هذا السياق عندما أسس الدكتور حبش عام 1949 “كتائب الفداء العربي” كان ثالوثها “وحدة، تحرر، ثأر”، وعندما أصبحت بعد عامين النواة لـ”حركة القومييين العرب” كان الفرع الفلسطيني للحركة اسمه “شباب الثأر”.

فمن الصعب أن يخرج من فرن “النكبة” أشخاص مثل غاندي، بل سينطبق على جيل فلسطينيي النكبة، وسلالتهم، عنوان مسرحية جون أوزبورن “انظر خلفك بغضب”  look back in anger، وربما كان الغضب الأكبر قد حمله وديع حداد، اللاجى من مدينة صفد، الذي من تحت عباءته خرج (كارلوس)، وتمرّن على يديه |الجيش الأحمر الياباني” و”الجيش الأرمني السري” و”الجيش الجمهوري الايرلندي” و”الألوية الحمراء” و”جماعة بادر- ماينهوف”، وتحت إشرافه خطفت الطائرات للصحراء الأردنية عام 1970 وتم خطف طائرة الخطوط الجوية الفرنسية إلى مدينة عينتيبي عام 1976، والأرجح أن الغضب الأكبر الثاني هو عند محمد الضيف ويحيى سنوار ومروان عيسى وهم من قادوا كتائب القسًام إلى تنفيذ  عملية 7 أكتوبر.

ولكن، إذا استعرضنا كل  هؤلاء القادة للكفاح الفلسطيني المسلح لا نجد بينهم ساسة سوى أبوجهاد وأبو إياد، وهما كانا في منظمة “فتح” التي تؤمن بأن “العنف هو القابلة القانونية(الداية)للتاريخ” وفق عبارة كارل ماركس، ومن دون نطفة  ورحم وحبل  لاتحصل الولادة حتى ولو أتت الداية، وهذا شيء نجده عند ساسة كبار استخدموا (العنف) مثل ماوتسي تونغ، وهوشي مينه، ولكنهم كانوا يؤمنون إضافة لعبارة ماركس المذكورة بعبارة كلاوزفيتز:”الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، وأيضاً كما شرح ريمون آرون عبارة كلاوزفيتز المذكورة فإن “السياسة استمرار نتائجي للحرب” وهي حصيلة مرآتية لها وبالتالي فـ”السياسة استمرار للحرب بوسائل أخرى”، كما أن سياسي كبير، مثل ماوتسي تونغ ، وهو في الوقت نفسه “أعظم من مارس الثورة بعد لينين” وفق تعبير إسحق دويتشر، هو صاحب كراس:”في التناقض”عام1937 الذي يدعو فيه إلى مصالحة من قاموا من حزب الكيومنتانغ قبل عشر سنوات في شنغهاي بمجزرة قتل فيها عشرات الآلاف من الشيوعيين لأن “التناقض الرئيسي” قد أصبح مع الغازي والمحتل الياباني وأصبح “التناقض الثانوي” مع أتباع شيان كاي شيك، وعندما اندحر اليابانيون عام 1945أصبح “التناقض الرئيسي” مع الكيومنتانغ الذين دحرهم الشيوعيون عام 1949 إلى جزيرة فورموزا (تايوان). أيضاً، هوشي منه، الذي  وحزبه قد هزم اليابانيين والفرنسيين والأميركان، كان لا يمنعه (العنف) من أن يقوم بالتسويات، كما تسوية 1954 عندما قبل بوجود دولة فييتنام الجنوبية،  ثم كان وراء منظمة (الفيتكونغ) التي منذ عام 1959جعلت الجنوب الفييتنامي مشتعلاً حتى أتى الأميركان عام 1964 لنجدته، والشيوعيون الفييتناميون بعد وفاة هوشي مينه عام 1969 قد قبلوا بتسوية باريس عام1973مع كيسنجر وأقروا ببقاء فييتنام الجنوبية كدولة، ولكن مع انسحاب عسكري أميركي، ثم انقضوا عليها وأنهوها بعد سنتين.

يمكن، هنا، أن يكون أبو جهاد وابو إياد يشبهان الجنرال جياب الفييتنامي  أو تشوتيه القائد العسكري الشيوعي الصيني، ولكن بالتأكيد فإن ياسر عرفات لا يشبه هوشي مينه ولا ماوتسي تونغ، ولكنهما كانا سيعارضان (أوسلو) لو كانا أحياءً، ولكن ليس من منطلق أخلاقي، مثل الدكتور حبش، بل من منطلق سياسي يقول أن “الحصيلة لاتوازي الجهد”.

كتكثيف: سمع كاتب هذه السطور،خلال شهرين انقضيا من بعد يوم 7 أكتوبر، عبارات مثل:”أذقناهم من الكأس التي أذاقونا إياها”، و”عملنا بهم متل ماعملوا بنا”، من أناس سياسيين ومن غير السياسيين ومنهم ربًات بيوت عاديات. في الوقت نفسه أشار الرئيس الأميركي جو بايدن، بمقال نشره في صحيفة”الواشنطن بوست”، في العشرين من الشهر الماضي، أن هدف (حماس) من (7 أكتوبر) هو تقويض مساعي التطبيع السعودي- الإسرائيلي وضرب مشروع (الكوريدور الهندي).

السؤال الآن: هل تنطبق على 7 أكتوبر عبارة كلاوزفيتز: “الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى”؟..أم أنها  مجرد ” أذقناهم من الكأس التي أذاقونا إياها”؟ أم أن الحصيلة ستكون موازية لعامي 1948و1967؟