ملخص
القيادة الإيرانية تدرك وتعلم بأن الجلوس إلى طاولة المفاوضات “غير المباشرة” حالياً والمباشرة لاحقاً، لن تقف أو تقتصر على جانب التفاوض حول البرنامج النووي، وآليات التحقق من سلميته وحدود أنشطته وحجمها ومستوياتها وغيرها من المسائل المرتبطة بذلك، وأن عليها الاستعداد للمرحلة التالية “الحتمية” التي تفرض عليها وضع كل ملفاتها العالقة على طاولة التفاوض.
لا شك في أن النظام الإيراني اتخذ خطوة جريئة بالذهاب أو الموافقة على فتح باب الحوار والتفاوض مع الإدارة الأميركية، لكن هذه الخطوة لا تصل حد الشجاعة أو تقارب حتى هذا الوصف، لأنها لم تكن نتيجة قرار ذاتي، فهي تفتقر إلى الاعتراف بما لحق بالأوراق الإيرانية التي كانت تمنع أو تعرقل أو تعقد مسار الحوار والتفاوض.
ولا يزال النظام الإيراني يكابر أمام الاعتراف العلني والمباشر بحجم الخسائر التي لحقت به جراء التطورات الجيو-ستراتيجية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ ما بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وتداعيات معركة “طوفان الأقصى” على كل الساحات التي كانت تشكل مسرحاً للنفوذ الإيراني، والقبول أو الانتقال بهذه السرعة من حال التفوق وعدم الحاجة إلى تقديم أي تنازل أمام الخصوم أو الأعداء، لم يكن سوى نتيجة لفشله في ترجمة طموحاته بأن يكون دولة شريكة في رسم خريطة النفوذ والسياسات في منطقة غرب آسيا.
والقيادة الإيرانية تدرك وتعلم بأن الجلوس إلى طاولة المفاوضات “غير المباشرة” حالياً والمباشرة لاحقاً، لن تقف أو تقتصر على جانب التفاوض حول البرنامج النووي وآليات التحقق من سلميته، وحدود أنشطته وحجمها ومستوياتها وغيرها من المسائل المرتبطة بذلك، وأن عليها الاستعداد للمرحلة الحتمية التالية التي تفرض عليها وضع كل ملفاتها العالقة على طاولة التفاوض، خصوصاً وأن الرهانات التي تعقدها على إيجابية التوصل إلى تفاهم أو اتفاق مع إدارة الرئيس دونالد ترمب في المجال النووي، ستكون رهينة أو رهناً بالسلوك الإيراني في المسائل الأخرى.
وبناء الثقة المتبادلة حول سلمية الأنشطة النووية وما يستتبعه ذلك من إجراءات وخطوات، من الصعب أن يكتمل أو ينعكس إيجاباً من دون أن يقدم النظام في طهران على بناء ثقة موازية حول طموحاته الإقليمية المعتمدة والمتصلة بأهداف وأبعاد مشروعه الصاروخي والتهديد الذي يشكله للإقليم، وعلى رغم الإيجابية التي هيمنت على جولات التفاوض الثلاث التي استضافتها سلطنة عُمان في مسقط وروما، وأهمية الانتقال إلى بحث الآليات التقنية والفنية المتعلقة بالأنشطة النووية ورفع العقوبات الاقتصادية، لكن نوعاً من الحذر الشديد لا يزال يسيطر على كلا المفاوضين، وهذا الحذر الشديد ترجمته مواقف القيادتين الأميركية والإيرانية، من خلال التأكيد بالإبقاء على الجاهزية العسكرية على استعداد تام لمواجهة أية انتكاسة في التفاوض، أو في حال وصل الحوار بينهما إلى طريق مسدود، فالمرشد الإيراني، وفي لقاء مع قيادة أركان القوات المسلحة بمختلف مستوياتها، طالب هذه القيادة بالإبقاء على حال التأهب والجاهزية في أعلى مستوياتها لمواجهة أي خطر محتمل، والذي يعني هنا أن المرشد لم يسقط من اعتباراته إمكان فشل المفاوضات إذا ما كانت ستفرض على إيران تنازلات قاسية في ملفات من خارج البرنامج النووي.
وفي المقابل فإن الرئيس الأميركي أيضاً كان أكثر صراحة في تمسكه بالخيار العسكري وإمكان استخدامه في اللحظة التي يتأكد فيها عدم جدوى التفاوض أو عدم إمكان تحقيق النتائج التي يريدها بالحد الأدنى، وإن قرار الحرب لن يكون استجابة لرغبة الخصم اللدود لإيران، أي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بل بناء لمصلحة أميركية أولاً.
الصين تدعم المحادثات النووية مع إيران وتعارض العقوبات “غير القانونية”
عودة ترمب للحدث عن الخيار العسكري في ظل ما يشيعه ويؤكده المفاوضون في مسقط عن إيجابية النتائج، يمكن فهمها من الزيارة التي قام بها قائد قوات المنطقة الوسطى الأميركية الجنرال مايكل كوريلا على دول المنطقة، وختمها بلقاءات استمرت أكثر من 10 ساعات مع قيادة الحرب الإسرائيلية.
وإذا أخذنا بالاعتبار عينه أن الإدارة الأميركية في أواخر رئاسة ترمب الأولى قد ضمت إسرائيل إلى هذه القيادة، وأن زيارة كوريلا إلى إسرائيل واللقاءات المطولة التي عقدها تعيد التذكير بالزيارة التي قام بها أوائل سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، أي قبل أيام من قرار تل أبيب توسيع حربها ضد “حزب الله” في لبنان، فإن هذا قد يشكل مؤشراً إلى حجم الاستعداد والاستنفار داخل القيادة العسكرية الأميركية لتكون على جاهزية كاملة في حال حصول أي تغيير دراماتيكي في المسارات السياسية والتفاوضية.
وهذه الزيارة التي جاءت عشية الجولة الثالثة للتفاوض مع طهران ترافقت أيضاً مع إرسال الـ “بنتاغون” قوات عسكرية جديدة إلى منطقة الشرق الأوسط، لتضاف إلى التعزيزات العسكرية التي سبق وأن حشدتها الولايات المتحدة، بخاصة في قاعدة “دييغو غارسيا” ونقل قاذفات إستراتيجية إليها.
الرسالة الأميركية التي لمح لها الرئيس ترمب بإبقاء الخيار العسكري، وإعاقته لأية خطوة فردية إسرائيلية ضد إيران، وزيارة كوريلا إلى تل أبيب تحمل رسالة واضحة باتجاهين، الأول أن واشنطن لم تعد تقبل باستمرار الوضع القائم في البحر الأحمر والدور الذي تقوم به جماعة الحوثي في باب المندب، وأن المطلوب إنهاء هذا الوضع الشاذ، بخاصة في حال جرى التفاهم على شكل من التهدئة في غزة، وإلا فإن خيار الجراحة العسكرية قد يتقدم ويدخل حيز التنفيذ العملياتي، والثاني أن واشنطن في وقت تمارس نوعاً من الضبط والسيطرة على الخيار الإسرائيلي، فإنها لن تتردد في الذهاب إلى خيار الحرب وتوجيه ضربة للمنشآت النووية في حال لم تحقق المفاوضات النتائج المطلوبة، وتفتح الطريق أمام تفاهمات أشمل خلال المرحلة المقبلة.