ملخص
يهاجم دونالد ترمب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بدافع الغيرة والضغينة الشخصية، بينما يعتمد موقفه تجاه الحرب الروسية الأوكرانية على نزعات نرجسية وخطط تقضي بتقاسم النفوذ مع روسيا، بما يهدد الديمقراطيات الغربية ويخدم طموحات الكرملين
صور الرئيس الأميركي دونالد ترمب نفسه منذ الآن على أنه “رجل عظيم” في التاريخ. فعلى رغم أن تأثيره ظاهر في هذه المرحلة، فإن من المرجح أن يستمر عقوداً مقبلة. مع ذلك وفي وقت يعتبر أنه ذو نفوذ قوي على أوروبا، مزعزعاً ما يقارب قرناً من التحالفات معها، فإنه يجد أن رجلاً أقصر قامة منه قد خطف الأضواء، وهو أمر يبدو أنه يزعجه بشدة.
فقد هاجم “الرجل الكبير” في أميركا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مرة أخرى، محذراً من أن زيلينسكي “سيفقد بلاده” إذا رفض قبول اتفاق سلام. واتهمه بتمديد “ساحة القتل” بعدما رفض زيلينسكي التنازل عن شبه جزيرة القرم لفلاديمير بوتين كجزء من تسوية محتملة.
ادعى الرئيس الأميركي أن تلك المنطقة من أوكرانيا قد ضاعت إلى الأبد عام 2014، وأنها ينبغي ألا تكون موضع تفاوض بعد الآن. ووجه ترمب أقسى انتقاداته ليس إلى المعتدي الذي انتهك حدود دولة جارة ذات سيادة، بل إلى القائد الذي يقاتل دفاعاً عن وطنه. وإذا ما بدا هذا الموقف شخصياً للغاية، فهو كذلك بالفعل.
كثيراً ما كان نرجسية الرئيس الأميركي الـ47 إحدى أعظم أوراق فلاديمير بوتين… فبصفته رئيساً سابقاً لـ”جهاز الأمن الفيدرالي” الروسي – خليفة لجهاز الاستخبارات السوفياتية “كي جي بي” وخبيراً في تحليل الأفراد والتلاعب النفسي بهم – يعرف بوتين جيداً كيف يستغل غرور الرئيس الجالس خلف “مكتب ريزولوت” Resolute Desk في البيت الأبيض (نسبة إلى سفينةHMS Resolute التي صنع من خشبها) ويجير هذا الغرور ليكون سلاحاً قوياً في يد الكرملين.
في أحدث انتقاد لفلاديمير زيلينسكي الذي يحظى باحترام واسع، كرر دونالد ترمب مطالبات روسيا في شأن شبه جزيرة القرم، التي كانت في السابق مقراً لأسطول “الاتحاد السوفياتي” في البحر الأسود، قبل أن تُعاد إلى أوكرانيا عام 1954.
يهوى ترمب أن يتخيل نفسه على شاكلة “الرجل العظيم” في القرن الـ19، صانع التاريخ. وهو ما يفسر افتتانه بكيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية، خلال ولايته الرئاسية الأولى، ومبالغته المستمرة في مدح فلاديمير بوتين اليوم. غير أن ترمب، على رغم استغراقه في وهم الانتماء إلى نادي “الرجال العظماء”، لا يخفي احتقاره للأبطال الحقيقيين، فحتى الجنود الأميركيون الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل وطنهم، هم في نظره “حمقى”.
على النقيض من ذلك، استحوذ الرئيس الأوكراني على اهتمام العالم باعتباره رمزاً لشجاعة الضعفاء في مواجهة الدب الروسي – وترمب يمقته لذلك. التصفيق الحار وهتافات الإعجاب التي تلاحق زعيم أوكرانيا، حتى داخل الكونغرس الأميركي، لا بد من أنها تشعر ترمب بالاستياء.
وترمب له تاريخ مع زيلينسكي، ومع إصراره المزعج على التمسك بالمبادئ. فالزعيم الأوكراني الذي وصل إلى السلطة بغالبية ساحقة، صُور للمرة الأولى على أنه خائن لقضية ترمب، بعد رفضه المشاركة في مخطط للكشف عن معلومات مسيئة لهانتر بايدن، نجل الرئيس جو بايدن، الذي كان آنذاك مرشحاً محتملاً للحزب “الديمقراطي” في مواجهة ترمب.
بعد رفض زيلينسكي في يوليو (تموز) عام 2019 فتح تحقيق في تعاملات تجارية قام بها هانتر بايدن في أوكرانيا، اعتبر ترمب الرئيس الأوكراني مستفيداً من المساعدات الأميركية وجاحداً بها. وقد أدت تلك القضية في النهاية إلى تصويت الكونغرس على عزل دونالد ترمب، على خلفية اتهامات له بمحاولة الضغط على زيلينسكي عبر التهديد بتجميد ما يقارب 400 مليون دولار من المساعدات العسكرية لكييف، ما لم يتعاون لتعزيز فرص إعادة انتخابه لولاية ثانية في البيت الأبيض. وعلى رغم أن “مجلس الشيوخ” الأميركي برأه، فإن الندوب ظلت موجودة، وكذلك استياء ترمب. ومنذ ذلك الحين، تكرر بقبح هذا الشعور بالمرارة مرات عدة.
من الصعب تخيل أن يكون زعيم عالمي آخر قد تعرض لهذا النوع من الإذلال والهجوم الشخصي والعلني الشرس، الذي شهده فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض.
هنا يطرح السؤال: هل دفع العداء الشخصي بالولايات المتحدة إلى حافة تفضيل الاستبداد على الديمقراطية؟ إن صلات دونالد ترمب بموسكو تعود إلى عام 1987، عندما سافر رجل الأعمال إلى العاصمة السوفياتية لاستكشاف فرص استثمارية هناك. وعلى رغم أنه لم يحقق أية صفقة في روسيا على الإطلاق، فإن تقارير تشير إلى أن أعماله التجارية استفادت لاحقاً من ممولين روس. في ذلك الوقت، كان مركز عمل فلاديمير بوتين في ألمانيا الشرقية، لكن ليس هناك شك في أن ترمب لفت انتباه زملاء بوتين من المسؤولين السوفيات الذين وجهوا الدعوة إليه للمرة الأولى. ففي نهاية المطاف، يعد “جهاز الاستخبارات السوفياتية” KGB وخليفته “جهاز الأمن الفيدرالي الروسي” FSB، من أمهر أجهزة العالم في مجال المراقبة السرية.
وبالنظر إلى العلاقات الطويلة الأمد لترمب مع روسيا وكراهيته الشخصية زيلينسكي، فإن ادعاءه الأخير عندما قال “لا علاقة لي بروسيا، لكن يهمني كثيراً أن أنقذ أرواح 5 آلاف جندي روسي وأوكراني يموتون كل أسبوع بلا داع على الإطلاق”، يبدو أجوف بعض الشيء.
انتخب زيلينسكي بغالبية ساحقة بلغت 73 في المئة من أصوات الأوكرانيين – وهو رقم من المحتمل أنه يزعج ترمب الذي لم يصل أبداً إلى هذا المستوى من دعم الأميركيين له، والذي تستمر شعبيته في الانخفاض
فقد دعم الرئيس الأميركي علناً فكرة عودة روسيا إلى “مجموعة السبع” G7 لتصبح “مجموعة الثماني” G8. ورفض فرض رسوم جمركية جديدة على موسكو هذا الشهر، وتبنى جميع مطالب روسيا في المفاوضات حول أوكرانيا وكأنها مبادئه الخاصة. حتى إنه أعرب عن اعتقاده أن أوكرانيا قد ينتهي بها الأمر “بأن تصبح روسية يوماً ما”. وليس سراً أيضاً أنه يحرص على إحياء العلاقات التجارية مع روسيا والتعامل معها مجدداً.
زعم ترمب أنه يمارس ضغوطاً على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك بعد ساعات من انتقاده له على خلفية قصفه خلال الليل العاصمة الأوكرانية. وكتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي: “لست سعيداً بالضربات الروسية على كييف. لم تكن ضرورية، وتوقيتها سيئ للغاية. فلاديمير، توقف! 5 آلاف جندي يقتلون كل أسبوع. دعنا ننجز اتفاق السلام!”.
إلا أن ما سماها ترمب “خطة سلام” لم تكن سوى تنازلات لموسكو وضغوط على كييف، إذ تقضي خطته بأن تتخلى أوكرانيا لروسيا عن 20 في المئة من أراضيها (بما فيها شبه جزيرة القرم)، وأن تتراجع عن طموحاتها بالانضمام إلى “حلف شمال الأطلسي” (ناتو)، إضافة إلى التنازل عن نصف مواردها الطبيعية لمصلحة الولايات المتحدة – في مقابل “سلام” هش بلا أية ضمانات تحميها من عدوان روسي جديد في المستقبل. لعل أحدهم يحتاج إلى أن يوضح لترمب الفارق بين اتفاق سلام… والاستسلام.
وصف ترمب الرئيس الأوكراني بأنه “ديكتاتور بلا انتخابات” وادعى أن نسبة التأييد له لم تتجاوز أربعة في المئة. في الواقع، انتخب زيلينسكي بغالبية ساحقة بلغت 73 في المئة من أصوات الأوكرانيين – وهو رقم من المحتمل أنه يزعج ترمب الذي لم يحقق يوماً هذا المستوى من الدعم الشعبي من الأميركيين، والذي تستمر شعبيته في التراجع. اليوم، لا يزال زيلينسكي يحظى بتأييد نحو57 في المئة من الناخبين، وهي نسبة لا شك في أنها مؤلمة لترمب.
ترمب يطالب زيلينسكي بالتنحي: “ديكتاتور من دون انتخابات”
في المقابل، لا تزال أوكرانيا دولة ديمقراطية غربية ذات سيادة، تسعى إلى الحصول على عضوية “الاتحاد الأوروبي”. وفي الوقت نفسه لم يخف بوتين طموحه في إعادتها إلى الهيمنة الروسية كجزء من إمبراطورية جديدة في مرحلة ما بعد “الاتحاد السوفياتي”، مع وضعه خططاً أيضاً تستهدف دول البلطيق ومولدوفا ورومانيا.
في النتيجة، يبقى دعم أوكرانيا شرطاً ضرورياً لضمان أمن أوروبا. وكثيراً ما شكلت شبكة التحالفات الأميركية الواسعة – سواء عبر “حلف شمال الأطلسي” أو خارجه – أساساً لواشنطن كقوة عظمى في العالم.
لكن بالنسبة إلى ترمب، يقف هذا الدعم عائقاً أمام رؤيته لعالم مقسم إلى مناطق نفوذ، تتقاسم فيه الولايات المتحدة وروسيا والصين السيطرة على الكوكب – وهي الرؤية ذاتها التي يتبناها بوتين.
هذا هو تفكير “الرجل العظيم”. أما الرجل الصغير بالزي الكاكي؟ فلا يعدو كونه حجر عثرة في الطريق.