ملخص
في معرض مسقط للكتاب يتبدى ما كان كامناً في هذا البلد العريق. بين أجنحته تلتقي بأسماء لها حضورها. واحدة من هؤلاء جوخة الحارثي التي كانت أول عربية تنال جائزة “مان بوكر” عن روايتها “سيدات القمر” عام 2019. وكذلك الروائي زهران القاسمي الفائز عن روايته “القافر” بجائزة الـ”بوكر” العربية في دورتها قبل الأخيرة. وبينهما روائيون وشعراء، القاسم بينهم دائماً هو الشاعر سيف الرحبي سواء بحضوره الفعلي أو المعنوي.
في جولة متأنية أو متعجلة بين أروقة معرض مسقط للكتاب في دورته الـ29، المقامة حالياً داخل مركز المعارض الفاره في العاصمة العمانية، تصل إلى نتيجة واضحة “كلهم هنا”. والمقصود بـ”كلهم” هذه، العرب. فقد شاركت دور نشر من مختلف الدول في المشرق والمغرب. وهناك حضور مكثف لبعض مثل الدور المصرية واللبنانية والعراقية، ومشاركات رمزية، أحادية أو ثنائية، من دول أخرى.
بالأرقام
بلغة الأرقام وبحسب منظمي المعرض، فقد شاركت 674 دار نشر من 35 دولة، منها 640 داراً تشارك بصورة مباشرة و34 داراً من طريق التوكيلات. وبلغ عدد العناوين والإصدارات المدرجة 681041 عنواناً، منها 467413 كتاباً عربياً و213610 كتب أجنبية، فيما بلغ مجموع الإصدارات العمانية 27464 كتاباً، وعدد الكتب الحديثة التي طبعت بين عامي 2024 و2025 نحو 52205.
إذاً، مع العرب فقد حضر العجم، وكان اللافت من بينهم حضور دور نشر من المملكة المتحدة وألمانيا والسويد وأيضاً إيران.
thumbnail_IMG_2319.jpg
ثمة حضور مكثف لبعض دور النشر المصرية واللبنانية والعراقية، ومشاركات رمزية من دول أخرى (اندبندنت عربية)
كل تلك المؤشرات الرقمية تنطوي على دلالات، لكن الأبرز بينها في مسألة الحضور العربي الكثيف، إشارة ترحيبية وردت على لسان أحد أعضاء الهيئة المنظمة. استخدم الشاب المتحمس عبارة “بيروت تكتب، والقاهرة تطبع”. وهي عبارة مستلة من مقولة تعود في جذورها إلى منتصف القرن الماضي، ورافقت أجيال المثقفين العرب حتى نهايات القرن. لكنها عبارة مقلوبة ومنقوصة، فالمقولة التي حكمت التفكير الثقافي العربي، وهي مجهولة النسب، كانت تقول “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ”. كانت مقولة في دلالاتها اختزالية، ولا تعكس حقيقة أن كتابات جادة ومرموقة ومكتنزة كانت تنتج بأقلام مفكرين ومثقفين في العواصم الثلاث معاً، وتطبع فيها وفي غيرها مع تميز بيروت في هذا النشاط، وتقرأ هنا وهناك وهنالك إذ يتاح لها الوصول، أي عندما تتوافر لها الإمكانات وتفتح أمامها الأبواب.
المراكز والأطراف
وجه الاختزال في توزيع أفعال الكتابة والطباعة والقراءة بين القاهرة وبيروت وبغداد يقوم على فكرة أساس طابعها سياسي، وهي مسألة المراكز والأطراف. لقد أسرف المروجون لمحورية العواصم/المراكز في تهميش الإمكانات الكامنة لدى العواصم التي كانت مصنفة خارج المتن.
ثم جرت مياه كثيرة تحت جسور الثقافة العربية في العواصم/المراكز. لم تكن الثقافة سببها ولكنها وقعت تحت وطأتها. فقد أدت التصدعات السياسية، وتفاعلاتها الاجتماعية والاقتصادية، إلى إنزال الشأن الثقافي عن سلم الأولويات نسبياً ولكن بصورة متنامية.
15 عرضا في مهرجان المسرح العربي في مسقط
قضايا الأدب والترجمة والتعددية الثقافية تشغل معرض الرباط
معرض باريس يكرم الأدب المغربي الفرنكوفوني ويتجاهل العربي
معرض أربيل للكتاب يرسخ الحوار الثقافي الكردي – العربي
هنا أفرجت الطاقات الكامنة عن نفسها في العواصم التي كانت تقع تحت التصنيف الظالم. وخرجت من المطابع في بيروت والقاهرة كتابات ومؤلفات وازنة لكتاب من دول الخليج العربي، في الوقت عينه الذي بدأ مثقفو دول المغرب العربي يؤكدون حضورهم بعد عزلة لم يكونوا سبباً فيها. وسرعان ما انتقلت الطباعة نفسها، وبمواصفات وتقنيات فائقة إلى اللاعبين الجدد على الساحة الثقافية العربية، وترافق ذلك مع انطلاق حركة ثقافية واعدة في دول الخليج تحديداً، عبرت عن نفسها في معارض الكتب وفعاليات الشعر والأدب والسينما والتشكيل والفنون عموماً، والجوائز المتخصصة والعامة التي نالها مبدعون من غالب الدول العربية.
“سقطت مقولة المراكز والأطراف”، هي النتيجة التي يؤكدها معرض مسقط للكتاب (ومعه وربما قبله أو بعده معارض باتت عريقة في الرياض والكويت وأبوظبي وتونس والرباط، مع حفاظ معارض القاهرة وبيروت وبغداد على مكانتها).
فضاء تفاعلي
في معرض مسقط للكتاب يتبدى ما كان كامناً في هذا البلد العريق. وبين أجنحته تلتقي بأسماء لها حضورها، واحدة من هؤلاء جوخة الحارثي التي كانت أول عربية تنال جائزة “مان بوكر” عن روايتها “سيدات القمر” عام 2019، وكذلك الروائي زهران القاسمي الفائز عن روايته “القافر” بجائزة الـ”بوكر” العربية في دورتها قبل الأخيرة، وبينهما روائيون وشعراء، القاسم بينهم دائماً هو الشاعر سيف الرحبي سواء بحضوره الفعلي أو المعنوي.
thumbnail_IMG_2329.jpg
عشرات الندوات شهدها المعرض تحت هذا العنوان التفاعلي “الفجوة المعرفية” (اندبندنت عربية)
هذا المعنى لمعرض مسقط للكتاب عبرت عنه مدير الإعلام الخارجي في وزارة الإعلام العمانية شيخة المحروقية ضمن حديثها مع الصحافيين، بالقول إن معرض الكتاب “بعد عشرات الدورات الناجحة والمتطورة لم يعد مجرد ملتقى سنوي تعرض فيه الإصدارات الجديدة، لكنه بات فضاء تفاعلياً لمختلف المجالات الإبداعية على المستويين العربي والدولي، وجسراً لانفتاح الثقافات على بعضها بعضاً، متحررة من القيود والمثبطات”.
الفجوة المعرفية
عشرات الندوات شهدها معرض مسقط للكتاب تحت هذا العنوان التفاعلي، إحداها عن ترجمة الأدب العربي. وهو موضوع حمال أوجه في الحياة الثقافي. من يترجم؟ وماذا يترجم؟ وكيف؟ ولمن؟ كانت المتحدثة مترجمة بريطانية اسمها أليس جوثري وحاورتها الشابة العمانية منال الندابية.
تحدثت المترجمة البريطانية عن تجربتها، لكن اللافت كان حديثها عن الدافع في ترجمة الأدب العربي، وحصرته بمسألتي الشغف الشخصي والفجوة المعرفية. وكانت “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح مدخلها الأول نحو الثقافة العربية، إذ قالت إن الرواية فتحت أمامها “بوابة سحرية” وهي بوابة الإغواء نفسها التي سحرت كل الغربيين بالشرق، فهل تنسد الفجوة المعرفية عبر مثل تلك البوابة؟ سؤال ما زال يتفاعل مع كل تناول لمسألة الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية وخصوصاً الأوروبية.
مسألة الفجوة المعرفية وطرق سدها برزت ضمن ندوات المعرض في سياق آخر. حديث ممتد للكاتب الروسي دميتري ستريشنيف عن “شيخ الرحالة الروس أفاناسي نيكيتين، وأول إطلالة أوروبية على عمان”.
thumbnail_IMG_2318.jpg
كان لافتاً حضور دور نشر من المملكة المتحدة وألمانيا والسويد وأيضاً إيران (اندبندنت عربية)
أفاناسي نيكيتين، بحسب ستريشنيف، تاجر روسي من مدينة تفير، وكان أول أوروبي يزور مسقط ويكتب عنها، وذلك خلال رحلته الشهيرة إلى الهند في القرن الـ15، أي قبل أن يولد البحار البرتغالي فاسكو دي غاما. ووثق رحلته بصورة دقيقة في مذكراته التي حفظها أمير موسكو لاحقاً. وكانت مسقط نقطة توقف لنيكيتين أثناء رحلته البحرية من مضيق هرمز إلى الهند، إذ وصفها بأنها مركز تجاري عالمي تتجمع فيه البضائع من مختلف أصقاع الأرض، إلا أن مذكراته لم تتضمن وصفاً موسعاً للأعراق أو الطقس أو الحياة الاجتماعية، وهو ما يعكس اهتمامه التجاري في المقام الأول.
وفي سردية المحاضر عن رحلة التاجر الروسي الصعبة، يتحدث عن اغتصاب بضاعته عند مصب نهر الفولغا بسبب النهب، لكنه واصل عبور المدن للتعويض عما خسر، فمن بحر قزوين مروراً بأراضي فارس إلى مدينة هرمز ثم إلى الهند، كان يتعرض لعمليات نصب أو تهديد حتى اضطر إلى بيع حصانه العربي في الهند.
وبحسب المحاضر الروسي، فإن مرور نيكيتين بمسقط وتوثيقه لها شكل نقطة تحول، إذ جعل عمان حاضرة للمرة الأولى في السجلات الأوروبية كمركز تجاري حيوي.
طريقان إلى سد الفجوة المعرفية بين العرب والغرب ظهرا في ندوتين من ندوات معرض مسقط للكتاب، الأول عنوانه الشغف والسحر، وهما محرك الغربيين نحو الشرق عموماً بحثاً عن تصوراتهم عنه، والثاني يشقه التجار والرحالة، وهو طريق تفرضه الضرورة وقد يصل ولكنه لا يكتمل.
أيام ثقافية سعودية
يُذكر أن معرض مسقط للكتاب يحتفي هذا العام بأيام ثقافية سعودية. وفي هذا الإطار شهد الجناح السعودي جلسة ثقافية بعنوان “القصة القصيرة جداً: فن الاقتصاد اللغوي ورحابة المعنى”، شاركت فيها حمدة العنزي أستاذة النقد الأدبي والشعر الجاهلي، وناقشت المحاضرة مفهوم القصة القصيرة جداً وتطورها التاريخي. واستعرضت تطور القصة القصيرة جداً، موضحة أن بعض النقاد يعدونها فناً غربياً خالصاً، بينما يرى آخرون جذوراً عربية له، مستشهدة بالمقامات والأمثال والنكت في العصر العباسي.
وبالمقارنة مع الإنتاجات الغربية في مجال كتابة القصة القصيرة جداً، أوضحت العنزي أن المدرسة العربية تتأثر بالمدارس الأوروبية مع طغيان الكم أحياناً على الكيف، مؤكدة انحيازها إلى فن الحكاية كجزء أصيل من التراث العربي منذ القصص القرآني والنبوي، والمقامات و”ألف ليلة وليلة”.