على من أدار ظهره ومشى ألا يقف حيث توقّف القطار أو الطائرة، أو السفينة. لأن الوصول ليس هو الغاية. المسافر، حتى فيما هو في طريقه إلى المحطة المقبلة، يكون يفكّر بالمحطة التي بعدها. مثل جمل يخبّ في الصحراء، بخطّ مستقيم، لا توقفه الرمال ولا التلال. أما نقطة البداية، تلك التي بدأ منها السفر، أو الهروب، أو الحلم، فينبغي، لسبقها كل ما جرى من بعدها، أن تكتب على غرار ما تبدأ الأسطورة.
أن تتنازع الجبال الثلاثة، «عبد العزيز» و»كوكب» و»سنجار»، مثلما في أسطورة أو في ملحمة، أما الغاية فسعي الأكبر، أو الأقوى، إلى إخضاع من يليه في الكبر، الأخ الأوسط. لكن من أصيب جراء الارتطام هو الجبل الأصغر، «كوكب»، الذي على أرضه ربما ستهب رياح وينتشر جراد ويعم السراب المضيّع الذي لا يعرف العابر فيه إلى ماذا يفضي آخره.
حتى التفاصيل التي تلت من رحلة المسافر، أو المتذكّر، طالما أنه يكتبها وهو في آخر محطات سفره، لن تكون خالصة من الحلم المشوب بالأسى. يرجع ذلك إلى أن الماضي مكتنَف دائما بالأسف على انقضائه. من ذلك مثلا ما نقرأه في الكتاب عن السينما ومشاهديها القدامى وكيف أنها أحلّت لغات وعوالم غريبة عن بيئة «الحسكة»، حيث صار الناس هناك، بتأثير من الأفلام الهندية، يترنمون بأغنيات راج وشامي كابور. واحد من الشباب، واسمه خليل، أجاد ذلك إلى حدّ أنه صار يُدعى إلى الحفلات والأعراس لتأدية تلك الأغاني، لكن إلى حين، إذ سرعان ما كشف أحد التجار أن ما يغنّيه خليل هو مطالع الأغنيات فقط، أما ما تبقى منها فكلمات يطلعها من لسانه لا من عقله أو من ذاكرته.
تلك الضحكة التي تثيرها حكاية خليل، لن تلبث أن تدخل في نسيج الحزن الذي قرأناه في العنوان السابق، وهو عن «الانفصال» بين سوريا ومصر. هنا، في وصف انهيار الوحدة ذاك نقرأ ما يشبه تحطّم ذاك الشعار وتوزع شظاياه بين الناس الحائرين، إذا ما كان صحيحا ما يشعرون به أو يقومون به: «كان على الناس أن ينسوا أغاني الوحدة، مثلما أحرقوا صور عبد الناصر، ويعتادوا شعارات أسرع، وأغاني أكثر صخبا، لتجّار الانقلابات البعثيين ذات الإيقاع الحامي». نقرأ هنا، عن الانفصال، ما يمكن أن يكون فوق السياسة أو ما يمكن أن يكون تحتها. تفاصيل جامعة بين الصدمة والبهجة، كما بين ثنائيات شعورية كثيرة أخرى.
بالتفصيل الذي يكاد أن يشاهد عينيا نقرأ أيضا عن رحيل المقاومين الفلسطينيين من بيروت، وعن تنقلاتهم التي تلت تاريخ 1982، كما نقرأ عما أصابته فينا حرب 1967، وكيف وقع علينا القرار السعودي بإيقاف ضخّ النفط. في السياق السردي ذاته نقرأ عن قصص غرامية أوقفها الانتقال، وعن وشوشات عابرة بين عاشقين جالسين على ضفة النهر، وعن شخصيات مشتبهة بالبطولة مثل «أبو عفص»، وعن صلّوحة بائعة الكعك، وعن تواعد شبّان على السباحة في الخابور: «يأتي بسام وغسان وعدنان ومصون من الحارات المسيحية، ونذهب نحن، حمادي وسلمان وجميل وسعيد، نعبر النهر لنمارس القفز من علوٍّ إلى قاعه، الذي كان الحصى يلمع فيه».
كما نقرأ عن مشهد الذئب المتدّلي نصفه، مدمّى، من الجيب العسكري، وقد بدا كأنه قُتل ومات لتوّه، وها هو يحدّق بالناظرين إليه متجمعين حول جثّته. فصل الذئب المقتول، المتراوح مشهده بين أن يكون رمزا أو كابوسا معاشا، بدا كأنه الدافع لخروج الراوي المتذكّر من عالمه الأول الذي ملأت صفحاته أكثر من نصف الرواية، رغم تنقّله بعد ذلك، هو المتذكّر الراوي بين البلدان الكثيرة التي عبرها وأقام فيها. وهذه، لتعدّدها، تداخلت في ما يروى فكان القارئ، يتساءل في أي بلد حصل ما أقرأ عنه الآن: في باريس أو في قبرص المنقسمة، أو في تونس التي نزل فيها الفلسطينيون الخارجون من بيروت، أو في بيروت نفسها التي، فيما رحت أقرأ عنها، أنا البيروتي، أشعر كما لو أن حنين الكاتب لذلك الزمن انتقل إليّ. فهنا كل شيء موصوف بدقّة وبحدس اشترك فيه الكاتب مع أولئك الذين عاش بينهم، مسميا إياهم بالأسماء، الدال كل اسم منها على صورة حية لصاحبها.
كتاب بشير البكر سيرة روائية، وشعرية أيضا، لحياة كاتبه، كما للحياة التي عاشها جيله. كان زمنا حافلا وعديدا، زمن الأحلام والهزائم، والتنازع بين الإقرار بانتهاء كل شيء وترقّب ولادة لا بد ستأتي.
*«بلاد لا تشبه الأحلام» سيرة روائية لبشير البكر صدرت عن دار نوفل في 252 صفحة – سنة 2025.
كاتب لبناني